في تاريخ الأولين لنا بصائر، وفي قصص الغابرين عبر ودروس، وقد قرأنا في القرآن أن فرعون اللئيم كان يعلم يقيناً أن موسى عليه السلام نبي مرسل من عند الله، لكنه عاند واستكبر حرصاً على الجاه؛ قال جل من قائل {ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا. قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا. فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا. وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا} وقال سبحانه {ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون. أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين. فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين. فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين}
وعلمنا من السيرة النبوية أن شاعراً جاهلياً يقال له معاوية بن أبي الصلت كان من الحنفاء، يقول شعراً يتحدث فيه عن الإله القوي القادر العليم الخبير، يوحده ويمجده حتى إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر به وجحد نبوته؛ لما قيل له: إن محمداً يدعو إلى ما كنت تدعو إليه!! قال: إني كنت أحدث نفسي أني أنا النبي المنتظر، وإني لأستحي من نسيات ثقيف أن أتبع هذا الغلام القرشي!! وكذلك حال أبي جهل عدو الله ورسوله يوم بدر.
وقد ذمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حب الجاه وعلمنا أنه لن يغني عنا من الله شيئا، وأن عبداً ضعيفاً مغمورا قد يكون أقرب إلى الله وأحبَّ إليه من آخر غني قوي مشهور، ومن ذلك:
- قوله صلى الله عليه وسلم (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسادكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)
- قوله (رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره)
- قوله (أَلا أدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ مُسْتَضْعَفٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، وَأَهْلُ النَّارِ كل متكبر مستكبر جواظ)
وقال اللَّهُ تَعَالَى {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} جمع بين إرادة الفساد والعلو وَبَيْنَ أَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لِلْخَالِي عَنِ الْإِرَادَتَيْنِ جميعا؛ فقال عز وجل {من كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يعملون} وَهَذَا أَيْضًا مُتَنَاوِلٌ بِعُمُومِهِ لِحُبِّ الْجَاهِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لَذَّةً مِنْ لَذَّاتِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَأَكْثَرُ زينة من زينتها،
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حب المال والجاه ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل
إن الحرص على الإمارة يفسد دين المرء الحريص عليها، ويضيع نصيبه في الآخرة، ويجعله شخصاً غير صالح لهذا المنصب، وتوضيح ذلك كما يلي:
أولاً: تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من عواقب التطلع إلى الإمارة: قال: (ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على الشرف والمال لدينه) رواه أحمد والنسائي وابن حبان من حديث كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه
فبين أن الفساد الحاصل للعبد من جراء حرصه على المال والشرف: أشد من الفساد الحاصل للغنم التي غاب عنها رعاتها ليلاً، وأُرسل فيها ذئبان جائعان يفترسان ويأكلان، وإذا كان لا ينجو من الغنم إلا القليل منها؛ فإن الحريص على المال والشرف لا يكاد يسلم له دينه.
ثانياً: بيان طرق الناس في طلب الجاه: للناس في طلب الجاه طريقان، هما:
الطريق الأول: طلبه بالولاية والسلطان وبذل المال، وهو خطير جداً، وفي الغالب يمنع خير الآخرة وشرفها؛ فإن الله جعل الآخرة لعباده المتواضعين، فقال: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُواً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} فنفى عنهم مجرد الإرادة، فضلاً عن العمل والسعي والحرص لأجلها، فإن إرادتهم مصروفة إلى الله عز وجل، وقصدهم الدار الآخرة، وحالهم التواضع مع الله تعالى والانقياد للحق والعمل الصالح، وهم الذين لهم الفلاح والفوز. ودلت الآية على أن الذين يريدون العلو في الأرض والفساد ليس لهم في الآخرة حظ ولا نصيب.
الطريق الثاني: طلب الجاه بالأمور الدينية، وهذا أفحش وأخطر؛ لأنه طلب للدنيا بالدين، وتوصل إلى أغراض دنيوية بوسائل جعلها الله تعالى طرقاً للقرب منه ورفعة الدرجات، وهذا هو المقصود بحديثنا هنا.
ثالثاً: النهي عن سؤال الإمارة: وقد وردت نصوص تنهى عن سؤال الإمارة وتمنيها، وتحذِّر من ذلك، وتبين عاقبته، وتنهى عن تولية من سألها أو حرص عليها. وهي وإن كان يتبادر إلى الذهن أنها واردة في الإمارة الدنيوية إمارة السلطان والوالي إلا أن دلالتها أشمل من ذلك وأوسع، فهي تتناول ما نحن بصدد الحديث عنه. ومن تلك الأحاديث:
أ – قول النبي صلى الله عليه وسـلم: (يا عبد الرحمن بن سمرة: لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أُعنت عليها) وفي رواية: (لا يتمنّينّ)، والنهي عن التمني أبلغ من النهي عن الطلب
ب – وقوله: (إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة، وبئست الفاطمة) فهي محبوبة للنفس في الدنيا، ولكنها (بئست الفاطمة) بعد الموت؛ حين يصير صاحبها للحساب والعقاب. وفي رواية أخرى: (أولها ملامة، وثانيها ندامة، وثالثها عذاب يوم القيامة، إلا من عدل)
ج – وقال صلى الله عليه وسلم للرجلين اللذين سألاه الإمارة: (إنا لا نولّي هذا مَنْ سأله، ولا من حرص عليه)
والسبب في عدم توليته الإمارة لمن سألها أنه غير صالح ولا مؤهل لهذا الأمر؛ لأن سؤاله له وحرصه عليه ينبئ عن محذورين عظيمين:
الأول: الحرص على الدنيا وإرادة العلو، وقد تبيّن ما فيه.
الثاني: أن في سؤاله نوع اتكال على نفسه، وعُجباً بقدراتها وغروراً بإمكاناتها، وانقطاعاً عن الاستعانة بالله عز وجل التي لا غنى لعبد عنها طرفة عين، ولا توفيق له إلا بمعونته سبحانه وتعالى
فما أشبه حرص الداعية على رئاسة مركز إسلامي، أو إدارة مكتب دعوي، أو ترؤس لجنة، أو هيئة، أو مجموعة… ما أشبه كل ذلك بما نهى عنه صلى الله عليه وسلم، نسأل الله السلامة من الفتنة.
وما أحسن وصف شدّاد بن أوس رضي الله عنه لها بالشهوة الخفية حين قال محذراً: (يا بقايا العرب… يا بقايا العرب… إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء، والشهوة الخفية)، قيل لأبي داود السجستاني: ما الشهوة الخفية؟ قال (حب الرئاسة). وصدق والله؛ فإنها مهلكة كالرياء. وعلى كثرة ما ورد من التحذير من حب المال؛ فإنها أشد إهلاكاً منه، والزهد فيها أصعب؛ لأن المال يبذل في حب الرئاسة والشرف.
مظاهر الحرص على الإمارة والظهور:
1- العجب بالنفس، وكثرة مدحها، والحرص على وصفها بالألقاب المفخمة كالشيخ، والأستاذ، والداعية، وطالب العلم، ونحوها، وإظهار محاسنها من علم وخُلُق وغيره.
2- بيان عيوب الآخرين وخاصة الأقران والغيرة منهم عند مدحهم ومحاولة التقليل من شأنهم.
3- الشكوى من عدم نيله لمنصب ما، وكثرة سؤاله عن الأسس والمعايير لتقلّد بعض المناصب.
4- الحرص على تقلّد الأمور التي فيها تصدّر وبروز؛ كالإمامة والخطابة والتدريس والتأليف والقضاء. وهي من فروض الكفاية، لا بد لها ممن يقوم بها، مع مراعاة أحوال القلب، والتجرد من حظوظ النفس؛ كما هو حال السلف.
5- عدم المشاركة بجدية عندما يكون مرؤوساً، والتهرب من التكاليف التي لا بروز له فيها.
6- كثرة النقد بسبب وبغير سبب، ومحاولة التقليل من أهمية المبادرات والمشاريع الصادرة من غيره والعمل على إخفاقها.
7- الإصرار على رأيه، وعدم التنازل عنه، وإن ظهرت له أدلة بطلانه.
8- القرب من السلاطين والولاة ومن بيده القرار في تقليد المناصب، وكثرة الدخول عليهم. وهذا باب واسع يدخل منه علماء الدنيا لنيل الشرف والجاه، وهو مظنة قوية للفتنة في الدين، كما في الحديث: (من أتى أبواب السلطان افتتن) [12].
9- الجرأة على الفتوى، والحرص عليها، والمسارعة إليها، والإكثار منها.
وقد كان السلف يتدافعونها كثيراً؛ ومن ذلك ما قاله عبد الرحمن بن أبي ليلى: (أدركت عشرين ومئة من أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، فما كان منهم محدّث إلا ودّ أن أخاه كفاه الحديث، ولا مفتٍ إلا ودّ أن أخاه كفاه الفتيا) [13].
آثار ومفاسد التطلع للإمارة:
أولاً: مفاسد التطلع إليها والرغبة فيها:
1- فساد النية، وضياع الإخلاص، أو ضعفه، ودنو الهمة، والغفلة عن الله تعالى، وعن الاستعانة به.
2- انصراف الهمّ عن المهمة الأساس، والغاية الكبرى من حياة العبد، وهو تحقيق العبودية لله عز وجل. والاشتغال عن النافع الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالحرص عليه فقال: (احرص على ما ينفعك) وصرف الوقت والجهد والفكر فيما هو غني عن الاشتغال به، من مراعاة الخلق، ومراءاتهم، والحرص على مدحهم، والفرار من مذمتهم، وهذه بذور النفاق، وأصل الفساد.
3- المداهنة في دين الله تبارك وتعالى، بالسكوت عما يجب قوله والقيام به من الحق، وربما بقول الباطل من تحليل حرام، أو تحريم حلال، أو قول على الله بلا علم.
4- اتباع الهوى، وارتكاب المحارم من الحسد والظلم والبغي والعدوان ونحوه مما يوقع فيه هذا الحرص ويستلزمه أحياناً قال الفضيل بن عياض: (ما من أحد أحب الرئاسة إلا حسد وبغى، وتتبع عيوب الناس، وكره أن يُذكر أحد بخير)
ثانياً: مفاسد الحصول عليها للراغب فيها المتشوِّف لها:
1- الحرمان من توفيق الله وعونه وتسديده؛ (فإنك إن أُعطيتها عن مسألة وكلت إليها).
2- تعريض النفس للفتنة في الدين، والتي يترتب عليها غضب الله تعالى إذ ربما يَنْسى مراقبة الله، وتبعات الأمر، ويغفل عن الحساب، فقد يظلم ويبغي؛ ويُشعِرُ بذلك كله وصف النبي: بأنها أمانة وملامة وندامة.
3- تضاعف الأوزار وكثرة الأثقال؛ حيث قد يفتن؛ فيكون سبباً للصد عن سبيل الله تعالى وأشد ما يكون ذلك حين يكون منتسباً لأهل العلم والصلاح، قال عز وجل: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}
4- توقع سوء العاقبة في الدنيا، وحصول بلاء لا يؤجر عليه، قال الذهبي: (فكم من رجل نطق بالحق وأمر بالمعروف، فيسلط الله عليه من يؤذيه لسوء قصده، وحبه للرئاسة الدينية)
5- التبعة والمسؤولية الشديدة يوم القيامة، قال: (ما من أمير إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولاً لا يفكه إلا العدل، أو يوبقه الجور)
ثالثاً: آثاره على صعيد الجماعة والمجتمع:
الفرد والجماعة كلٌ منهما مؤثر في الآخر متأثر به، فإذا ما وقع الأفراد في مزلق كهذا، فإن الداء عن الجماعة ليس ببعيد؛ إذ سرعان ما تفسد الأخوة، وتَحل الخلافات، ويسهل اختراق الصف الإسلامي، وتحصل الشماتة به وبأهله.
وما أبعد هؤلاء عن تنزّل النصر، وحصول التمكين، مع هذا الاعوجاج والانحراف. بئست الدعوة حينما تكون مغنماً وجاهاً، ينتفع فيها المرء ويتبختر، وبئس الداعية حينما يسعى لاهثاً وراء زخارف الدنيا ومتاعها الفاني؛ فإن حب الظهور والبروز بداية الانحراف والسقوط والإخفاق.
وإذا كان الله عز وجل يعطي الكافر والمؤمن من الدنيا لهوانها عنده، ولكنه سبحانه أغير من أن يتم أمره بالتمكين لهذا الدين في الأرض على يد أناس عندهم شوب في الإخلاص، ويحبون الرئاسة والاستعلاء في الأرض؛ فكيف إذا كانوا يتخذون الدين مطية للدنيا، يبيعون دينهم بعرض قليل؟!