1ـ قال الطحاوي في العقيدة السلفية التي تنسب إليه المعروفة بالعقيدة الطحاوية: والجنة والنار مخلوقتان، لا تفنيان أبداً ولا تبيدان، فإن الله تعالى خلق الجنة والنار قبل الخلق، وخلق لهما أهلاً، فمن شاء منهم إلى الجنة فضلاً منه، ومن شاء منهم إلى النار عدلاً منه، وكل يعمل لما قد فرغ له، وصائر إلى ما خلق له، والخير والشر مقدران على العباد. والدليل على ذلك قوله تعالى {أعدت للمتقين} {أعدت للذين ءامنوا بالله ورسله} وعن النار {أعدت للكافرين} {إن جهنم كانت مرصاداً + للطغين مئاباً} وقال تعالى {ولقد رءاه نزلة أخرى + عند سدرة المنتهى + عندها جنة المأوى}
2ـ النار هي الدار التي أعدها الله للكافرين به، المتمردين على شرعه، المكذبين لرسله، وهي عذابه الذي يعذب فيه أعداءه، وسجنه الذي يسحن فيه المجرمين، وهي الخزي الأكبر، والخسران العظيم، الذي لا خزي فوقه، ولا خسران أعظم منه، {ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظلمين من أنصار} {ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خلداً فيها ذلك الخزى العظيم} وقال: {إن الخاسرين الذي خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين}
3ـ يقوم على النار ملائكة، خلقهم عظيم، وبأسهم شديد، لا يعصون الله الذي خلقهم، ويفعلون ما يؤمرون، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} وعدتهم تسعة عشر ملكاً، كما قال تعالى {سأصليه سقر + وما أدراك ما سقر + لا تبقي ولا تذر + لواحةٌ للبشر + عليها تسعة عشر} وقد فتن الكفار بهذا العدد، فقد ظنوا أنه يمكن التغلب على هذا العدد القليل، وغاب عنهم أن الواحد من هؤلاء يملك من القوة ما يواجه به البشر جميعاً، ولذلك عقب الحق على ما سبق بقوله {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا} قال ابن رجب: والمشهور بين السلف والخلف أن الفتنة إنما جاءت من حيث ذكر عدد الملائكة الذين اغتر الكفار بقلتهم، وظنوا أنهم يمكنهم مدافعتهم وممانعتهم، ولم يعلموا أن كل واحد من الملائكة لا يمكن البشر كلهم مقاومته. وهؤلاء الملائكة هم الذين سماهم الله “بخزنة جهنم” في قوله: {وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب}
4- النار شاسعة واسعة، بعيد قعرها، مترامية أطرافها، يدلنا على هذا أمور:
الأول: الذين يدخلون النار أعداد لا تحصى، ومع كثرة عددهم فإن خلق الواحد فيهم يضخم حتى يكون ضرسه في النار مثل جبل أحد، وما بين منكبيه مسيرة ثلاثة أيام، ومع ذلك فإنها تستوعب هذه الأعداد الهائلة التي وجدت على امتداد الحياة الدنيا من الكفرة المجرمين على عظم خلقهم، ويبقى فيها متسع لغيرهم وقد أخبرنا الله بهذه الحقيقة في سورة ق فقال {يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد} وقد جاء في حديث احتجاج الجنة والنار أن الله يقول للنار: «إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منهما ملؤها، فأما النار، فلا تمتلئ حتى يضع رجله – وفي رواية حتى يضع الله تبارك وتعالى رجله – فتقول : قط قط قط، فهنالك تمتلئ، ويُزوى بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله من خلقه أحداً» رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول: هل من مزيد، حتى يضع رب العزة فيها قدمه، فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول: قط، قط، بعزتك وكرمك» متفق عليه
الثاني: يدل على بعد قعرها أيضاً أن الحجر إذا ألقي من أعلاها احتاج إلى آماد طويلة حتى يبلغ قعرها، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سمع وَجْبَة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «تدرون ما هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفاً، فهو يهوي في النار إلى الآن» وروى الحاكم عن أبي هريرة، والطبراني عن معاذ وأبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن حجراً مثل سبع خلفات، ألقي من شفير جهنم هوى فيها سبعين خريفاً لا يبلغ قعرها»
الثالث: كثرة العدد الذي يأتي بالنار من الملائكة في يوم القيامة، فقد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم مجيء النار في يوم القيامة، الذي يقول الله فيه {وجاىء يومئذ بجهنم} فقال: «يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك» رواه مسلم عن عبد الله ابن مسعود. ولك أن تتخيل عظم هذا المخلوق الرهيب الذي احتاج إلى هذا العدد الهائل من الملائكة الأشداء الأقوياء الذين لا يعلم مدى قوتهم إلا الله تبارك وتعالى.
الرابع: ومما يدل على هول النار وكبرها أن مخلوقين عظيمين كالشمس والقمر يكونان ثورين مكورين في النار، ففي “مشكل الآثار” للطحاوي عن سلمة بن عبد الرحمن قال: حدثنا أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الشمس والقمر ثوران مكوران في النار يوم القيامة» ورواه البيهقي في كتاب “البعث والنشور” وكذا البزار والإسماعيلي والخطابي، بإسناد صحيح، على شرط البخاري، وقد أخرجه في صحيحه مختصراً بلفظ: «الشمس والقمر مكوران في النار»
5ـ النار متفاوتة في شدة حرها، وما أعده الله من العذاب لأهلها، فليست درجة واحدة، وقد قال الحق تبارك وتعالى: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} والعرب تطلق: “الدرك” على كل ما تسافل، كما تطلق: “الدرج” على كل ما تعالى، فيقال: للجنة درجات وللنار دركات، وكلما ذهبت النار سفلاً كلما علا حرها واشتد لهيبها، والمنافقون لهم النصيب الأوفر من العذاب، ولذلك كانوا في الدرك الأسفل من النار.
وقد تسمى النار درجات أيضاً، ففي سورة الأنعام ذكر الله أهل الجنة والنار، ثم قال: {ولكلٍ درجاتٌ مما عملوا} وقال: {أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير* هم درجاتٌ عند الله} قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: “درجات الجنة تذهب علواً، ودرجات النار تذهب سفلاً”. وقد ورد عن بعض السلف أن عصاة الموحدين ممن يدخلون النار يكونون في الدرك الأعلى، ويكون في الدرك الثاني اليهود، وفي الدرك الثالث النصارى، وفي الدرك الرابع الصائبون، وفي الخامس المجوس، وفي السادس مشركوا العرب، وفي السابع المنافقون. ووقع في بعض الكتب تسمية هذه الدركات: فالأول جهنم، والثاني لظى، والثالث الحطمة، والرابع السعير، والخامس سقر، والسادس الجحيم، والسابع الهاوية .
6ـ أخبر الحق أن للنار سبعة أبواب كما قال تعالى: {وإن جهنم لموعدهم أجمعين* لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم} قال ابن كثير في تفسير الآية: أي قد كتب لكل باب منها جزء من أتباع إبليس يدخلونه لا محيد لهم عنه، أجارنا الله منها، وكل يدخل من باب بحسب عمله، ويستقر في درك بحسب عمله.ا.هــــ ونُقِلَ عن علي بن أبي طالب قوله وهو يخطب: «إن أبواب جهنم هكذا – قال أبو هارون – أطباقاً بعضها فوق بعض» ونُقل عنه أيضاً قوله: «أبواب جهنم سبعة بعضها فوق بعض، فيمتلئ الأول، ثم الثاني، ثم الثالث، حتى تمتلئ كلها»
وعندما يردُ الكفار النار تفتح أبوابها، ثم يدخلونها خالدين {وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين} وبعد هذا الإقرار يقال لهم: {ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين}، وهذه الأبواب تغلق على المجرمين، فلا مطمع لهم في الخروج منها بعد ذلك، كما قال تعالى: {والذين كفروا بئاياتنا هم أصحاب المشئمة*عليهم نار مؤصدة} قال ابن عباس: {مؤصدة} مغلقة الأبواب، وقال مجاهد: أصد الباب بلغة قريش، أي أغلقه. وقال الحق في سورة الهمزة: {ويل لكل همزة لمزة + الذي جمع مالاً وعدده + يحسب أن ماله أخلده + كلا لينبذن في الحطمة + وما أدراك ما الحطمة + نار الله الموقدة + التي تطلع على الأفئدة + إنها عليهم مؤصدة + في عمد ممدة} فأخبر الحق أن أبوابها مغلقة عليهم، وقال ابن عباس: {في عمد ممدده} يعني الأبواب هي الممددة
7ـ وقود النار الأحجار والفجرة الكفار، كما قال الحق: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة} وقال {فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين} والمراد بالناس الذين توقد النار بهم الكفرة المشركون، وأما نوع الحجارة التي تكون للنار وقوداً فالله أعلم بحقيقتها، وقد ذهب بعض السلف إلى أن هذه الحجارة من كبريت، قال عبد الله بن مسعود : هي حجارة من كبريت، خلقها الله يوم خلق السماوات والأرض في السماء الدنيا يعدها للكافرين، رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم في المستدرك. وقال بهذا القول ابن عباس ومجاهد وابن جريج. وإذا كان القول هذا مأخوذاً من الرسول صلى الله عليه وسلم فنأخذ به، ولا نجادل فيه، وإن كان أمراً اجتهادياً مبنياً على العلم بطبائع الحجارة وخصائصها فهذا قول غير مسلّم، فإن من الحجارة ما يفوق حجارة الكبريت قوة واشتعالاً. والأوائل رأوا أن حجارة الكبريت لها خصائص ليست لغيرها من الحجارة فقالوا إنها مادة وقود النار، يقول ابن رجب: وأكثر المفسرين على أن المراد بالحجارة حجارة الكبريت توقد بها النار. ويقال: إن فيها خمسة أنواع من العذاب ليس في غيرها: سرعة الإيقاد، ونتن الرائحة، وكثرة الدخان، وشدة الالتصاق بالأبدان، قوة حرها إذا حميت”. وقد يوجد الله من أنواع الحجارة ما يفوق ما في الكبريت من خصائص، ونحن نجزم أن ما في الآخرة مغاير لما في الدنيا.
ومما توقد به النار الآلهة التي كانت تعبد من دون الله {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون * لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكلٌ فيها خالدون} وحصبها: وقودها وحطبها، وقال الجوهري: كل ما أوقدت به النار أو هيجتها فقد حصبتها، وقال أبو عبيدة: كل ما قذفته في النار فقد حصبتها به