1ـ من بين الصحب الكرام صحابي جليل كان من السابقين إلى الإسلام، وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الخلفاء الراشدين، صلى إلى القبلتين، وهاجر الهجرتين، وهو أوّل من شيّد المسجد، وأوّل من خطَّ المفصَّل، وأوّل من ختم القرآن في ركعة، وبمقتله كانت الفتنة الأولى في الإسلام، توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنه راضٍ. إنه الخليفة الراشد الثالث، ذو النورين، عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أميّة القرشي، يلتقي نسبه مع رسول الله في الجد الرابع من جهة أبيه. فهو ينتمي إلى بني أمية من قبيلة قريش.
2ـ أسلم عثمان رضي اللَّه عنه في أول الإسلام قبل دخول رسول اللَّه دار الأرقم، وكانت سنِّه قد تجاوزت الثلاثين، دعاه أبو بكر إلى الإسلام فأسلم، ولما عرض أبو بكر عليه الإسلام قال له: ويحك يا عثمان واللَّه إنك لرجل حازم ما يخفى عليك الحق من الباطل، هذه الأوثان التي يعبدها قومك، أليست حجارة صماء لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع؟! فقال: بلى، واللَّه إنها كذلك، قال أبو بكر: هذا محمد بن عبد اللَّه قد بعثه اللَّه برسالته إلى جميع خلقه، فهل لك أن تأتيه وتسمع منه؟ فقال: نعم.، وفي الحال مرَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا عثمان، أجب اللَّه إلى جنته، فإني رسول اللَّه إليك وإلى جميع خلقه))، قال: فواللَّه ما ملكت حين سمعت قوله أن أسلمت، وشهدت أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأن محمدا رسول الله عبده ورسوله. قال عثمان: إن الله عز وجل بعث محمدًا بالحق، فكنتُ ممن استجاب لله ولرسوله، وآمنت بما بُعِثَ به محمدٌ، ثم هاجرت الهجرتين، وكنت صهْرَ رسول الله ، وبايعتُ رسول الله، فوالله ما عصيتُه ولا غَشَشْتُهُ حتى توفّاهُ الله عز وجل. 3ـ كان عثمان رضي الله عنه غنيًا شريفًا في الجاهلية، وأسلم بعد البعثة بقليل، فهو أول من هاجر إلى الحبشة مع زوجته رقيّة بنت رسول الله الهجرة الأولى والثانية، وقد قال رسول الله : ((إن عثمان لأول من هاجر إلى الله بأهله بعد لوطٍ))، وكان يقال: أحسن زوجين رآهما إنسان رقية وعثمان. 4ـ لقّب عثمان رضي الله عنه بذي النورين لتزوجه بنتيْ النبي رقيّة ثم أم كلثوم، فقد زوّجه رسول الله ابنته رقيّة، فلما ماتت زوّجه أختها أم كلثوم، فلمّا ماتت تأسّف رسول الله على مصاهرته فقال: ((والذي نفسي بيده، لو كان عندي ثالثة لزوّجتُكَها يا عثمان)). ولا يعرف أحد تزوج بنتَي نبيّ غيره. روى سعيد بن المسيب رحمه الله أن النبي رأى عثمان بعد وفاة رقية مهمومًا لهفان، فقال له: ((ما لي أراك مهمومًا؟!)) فقال: يا رسول اللَّه، وهل دخل على أحد ما دخل عليَّ ماتت ابنة رسول اللَّه التي كانت عندي وانقطع ظهري، وانقطع الصهر بيني وبينك، فبينما هو يحاوره إذ قال النبي : ((هذا جبريل عليه السلام يأمرني عن اللَّه عز وجل أن أزوجك أختها أم كلثوم على مثل صداقها، وعلى مثل عشرتها)). 5ـ أثبت رسول الله لعثمان سهمَ البدريين وأجرَهم، وكان قد غاب عنها لتمريضه زوجته رقيّة بنت رسول الله ، فقال الرسول له: ((إن لك أجر رجلٍ ممن شهد بدراً وسهمه)). 6ـ بعث الرسول عثمان بن عفان رضي الله عنه يوم الحديبية إلى أهل مكة لكونه أعزَّ بيتٍ بمكة، واتفقت بيعة الرضوان في غيبته، فضرب الرسول بشماله على يمينه وقال: ((هذه يدُ عثمان، اللَّهم هذه عن عثمان في حاجتك وحاجة رسولك))، فقال الناس: هنيئًا لعثمان. 7ـ وكان رضي اللَّه عنه أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بما كان فيها من خير وشر، وكان رجال قريش يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمور لعلمه وتجاربه وحسن مجالسته، وكان ليَّن العريكة كثير الإحسان والحلم. وكان من كبار تجار قريش، وعرف بشدة حيائه، حتى قال رسول الله فيه: ((أصدق أمتي حياءً عثمان))، وقال: ((ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟)) وكان لا يوقظ نائمًا من أهله إلا أن يجده يقظان فيدعوه فيناوله وضوءه، وكان يصوم، ويلي وضوء الليل بنفسه، فقيل له: لو أمرت بعض الخدم فكفوك، فقال: لا، الليل لهم يستريحون فيه. 8ـ بشّره رسول الله بالجنة كأبي بكر وعمر وعليٍّ وبقية العشرة، وأخبره بأنه سيموت شهيدًا. استخلفه رسول اللَّه على المدينة في غزوته إلى ذات الرقاع وإلى غطفان، وكان محبوباً من قريش، وكان حليماً، رقيق العواطف، كثير الإحسان. 9ـ وكان رسول اللَّه يثق به ويحبه ويكرمه لحيائه ودماثة أخلاقه وحسن عشرته وما كان يبذله من المال لنصرة المسلمين. قام عثمان بن عفان رضي الله عنه بنفسه وماله في واجب النصرة، كما اشترى بئر رومة بعشرين ألفاً وتصدّق بها، وجعل دلوه فيها لدِلاءِ المسلمين، كما ابتاع توسعة المسجد النبوي بخمسة وعشرين ألفاً. 10ـ كان الصحابة مع رسول الله في غزاةٍ، فأصاب الناس جَهْدٌ حتى بدت الكآبة في وجوه المسلمين والفرح في وجوه المنافقين، فلما رأى الرسول ذلك قال: ((والله، لا تغيب الشمس حتى يأتيكم الله برزقٍ))، فعلم عثمان أنّ الله ورسوله سيصدقان، فاشترى أربعَ عشرة راحلةً بما عليها من الطعام، فوجّه إلى النبي منها بتسعٍ، فلما رأى ذلك النبي قال: ((ما هذا؟)) قالوا: أُهدي إليك من عثمان، فعُرِفَ الفرحُ في وجه رسول الله والكآبة في وجوه المنافقين، فرفع النبي يديه حتى رُئيَ بياضُ إبطيْه، يدعو لعثمان دعاءً ما سُمِعَ دعا لأحد قبله ولا بعده. وجهّز عثمان بن عفان رضي الله عنه جيش العُسْرَة بتسعمائةٍ وخمسين بعيراً وخمسين فرساً، واستغرق الرسول في الدعاء له يومها، ورفع يديه حتى أُريَ بياض إبطيه، فقد جاء عثمان إلى النبي بألف دينار حين جهّز جيش العسرة فنثرها في حجره، فجعل يقلبها ويقول: ((ما ضرّ عثمان ما عمل بعد اليوم مرتين)). 11ـ لقد كان عثمان بن عفان رضي الله عنه أحد الستة الذين رشحهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه لخلافته، فتشاور الصحابة فيما بينهم، ثم أجمعوا على اختيار عثمان وبايعه المسلمون في المسجد بيعة عامة سنة (23هـ)، فأصبح ثالث الخلفاء الراشدين. استمرت خلافته نحو اثني عشر عاما تم خلالها الكثير من الأعمال: نَسْخ القرآن الكريم وتوزيعه على الأمصار؛ توسيع المسجد الحرام والمسجد النبوي، وقد انبسطت الأموال في زمنه، وحجّ بالناس عشر حجج متوالية. 12ـ وفي أيام خلافته رضي الله عنه غزا المسلمون ففتحوا الكثير من البلاد، فتوسعت بهم بلاد الإسلام، ومن هذه البلاد التي افتتحت جزيرة قبرص وكَرْمَان وسِجِسْتَان وكابُل وبلاد أخرى في أفريقية. وقد أنشأ أول أسطول إسلامي لحماية الشواطئ الإسلامية من هجمات البيزنطيين. 13ـ عباد الله، وفي أواخر عهد عثمان رضي الله عنه ومع اتساع الفتوحات الإسلامية ووجود عناصر حديثة العهد بالإسلام لم تتشرب روح النظام والطاعة أراد بعض الحاقدين على الإسلام وفي مقدمتهم اليهود إثارة الفتنة للنيل من وحدة المسلمين ودولتهم، فأخذوا يثيرون الشبهات حول سياسة عثمان رضي الله عنه، وحرضوا الناس في مصر والكوفة والبصرة على الثورة، فانخدع بقولهم بعض من غرر به، وساروا معهم نحو المدينة لتنفيذ مخططهم، وقابلوا الخليفة وطالبوه بالتنازل، فدعاهم إلى الاجتماع بالمسجد مع كبار الصحابة وغيرهم من أهل المدينة، وفند مفترياتهم وأجاب على أسئلتهم وعفا عنهم، فرجعوا إلى بلادهم لكنهم أضمروا شراً وتواعدوا على الحضور ثانية إلى المدينة لتنفيذ مؤامراتهم التي زينها لهم بعض الأشرار الذين تظاهروا بالإسلام. 14ـ وفي شوال سنة (35هـ) رجعت الفرقة التي أتت من مصر وادعوا أن كتاباً بقتل زعماء أهل مصر وجدوه مع البريد، وأنكر عثمان رضي الله عنه الكتاب، وحلف لهم أنّه لم يأمُر أحداً بقتل أحد، ولم يعلم من أرسل الكتاب، وصدق رضي الله عنه، فهو أجلّ قدراً وأنبل ذكراً وأروع وأرفع من أن يجري مثلُ ذلك على لسانه أو يده، وقد قيل: إن مروان هو الكاتب والمرسل. لكنهم حاصروه في داره عشرين أو أربعين يوماً، ومنعوه من الصلاة بالمسجد بل ومن الماء، ولما رأى بعض الصحابة ذلك استعدوا لقتالهم وردهم لكن الخليفة منعهم إذ لم يرد أن تسيل من أجله قطرة دم لمسلم، ولكن المتآمرين اقتحموا داره من الخلف، من دار أبي حَزْم الأنصاري، وهجموا عليه وهو يقرأ القرآن، وأكبت عليه زوجه نائلة لتحميه بنفسها لكنهم ضربوها بالسيف فقطعت أصابعها، وتمكنوا منه رضي الله عنه فسال دمه على المصحف، ومات شهيدا في صبيحة عيد الأضحى سنة (35 هـ)، في بيته بالمدينة، واستشهد وله تسعون أو ثمان وثمانون سنة، ودفِنَ رضي الله عنه بالبقيع، وكان قتله أول فتنة انفتحت بين المسلمين، فلم تنغلق إلى يومنا هذا |
15ـ كان الصحابة رضي الله عنهم يعرفون لعثمان قدره وسابقته وجهاده وفضله؛ فهذا علي رضي الله عنه يقول لعثمان أيام الفتنة: إنك لتعلم ما نعلم؛ ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه فنبلغك إياه، وقد رأيت كما رأينا، وسمعت كما سمعنا، وصحبت رسول الله صلى الله عليه وآله كما صحبنا، وما ابن أبي قحافة ولا ابن الخطاب أولى بعمل الحق منك، وأنت أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وشيجة رحم منهما، وقد نلت من صهره ما لم ينالا |
16ـ أخرج الحاكم عن الشعبي قال: ما سمعت من مراثي عثمان أحسن من قول كعب بن مالك، حيث قال:
فكف يديه ثم أغلق بابه وأيقن أن الله ليس بغافل وقال لأهل الدار: لا تقتلوهم عفا الله عن كل امرئ لم يقاتل فكيف رأيت الله صب عليهم العداوة والبغضاء بعد التواصل؟ وكيف رأيت الخير أدبر بعده عن الناس إدبار الرياح الجوافل؟ |