1- إِنَّ اللهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ، كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ، وَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الدِّينَ إِلَّا لِمَنْ أَحَبَّ، فَمَنْ أَعْطَاهُ اللهُ الدِّينَ، فَقَدْ أَحَبَّهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يُسْلِمُ عَبْدٌ حَتَّى يَسْلَمَ قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ، وَلَا يُؤْمِنُ حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ، قَالُوا: وَمَا بَوَائِقُهُ يَا نَبِيَّ اللهِ؟ قَالَ: غَشْمُهُ وَظُلْمُهُ، وَلَا يَكْسِبُ عَبْدٌ مَالًا مِنْ حَرَامٍ، فَيُنْفِقَ مِنْهُ فَيُبَارَكَ لَهُ فِيهِ، وَلَا يَتَصَدَّقُ بِهِ فَيُقْبَلَ مِنْهُ، وَلَا يَتْرُكُ خَلْفَ ظَهْرِهِ إِلَّا كَانَ زَادَهُ إِلَى النَّارِ، إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَمْحُو السَّيِّئَ بِالسَّيِّئِ، وَلَكِنْ يَمْحُو السَّيِّئَ بِالْحَسَنِ، إِنَّ الْخَبِيثَ لَا يَمْحُو الْخَبِيثَ.. بيَّن عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث أن المال المكتسب من حرام إذا أنفق منه فلا بركة فيه، وإذا تصدق به فلا قبول له، وإذا تركه المرء وراء ظهره كان زاده إلى النار؛ فالحرام شؤم في الدنيا والآخرة، شؤم في الحياة وبعد الممات
عباد الله: إن جل جـلاله قد خلق النفوس مجبولة على حب المال، ساعية للاستكثار منه دؤوبة في جمعه وتثميره، كما قال جل من قائل {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب} وقال سبحانه وتعالى {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} روى البخاري عن ابن عَبَّاسٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى ثَالِثًا وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ» وروى الإمام أحمد والترمذي والدارمي عَنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ». قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ
2- ولمداواة شح النفوس وهلعها وحرصها على حطام الدنيا حرص رسول الله صلى الله عليه وسـلم على أن يزهِّدنا فيها ويرغبنا فيما عند الله تعالى من النعيم المقيم؛ فكان في نفسه وأسرته صلوات الله وسلامه عليه خير مثال؛ حيث كان يبيت الليالي طاويا، وكان يمر على أهله الهلال والهلال والهلال وما يوقد في بيوتهن نار وما لهم من طعام إلا الأسودان، ولما طالبنه بالنفقة خيرهن بين الرضا بالشظف أو التسريح بإحسان، وأنزل ربنا جل جـلاله قوله {يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلا. وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيما} وروى مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِالسُّوقِ دَاخِلًا مِنْ بَعْضِ الْعَالِيَةِ وَالنَّاسُ كَنَفَتَهُ؛ فَمَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ؛ فَتَنَاوَلَهُ فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ ثُمَّ قَالَ: «أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ فَقَالُوا: مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ وَمَا نَصْنَعُ بِهِ قَالَ: أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ؟ قَالُوا: وَاللَّهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا فِيهِ لِأَنَّهُ أَسَكُّ فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ فَقَالَ: فَوَاللَّهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ» وعن عبيد الله بن محصن الأنصاري الخطمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها» رواه الترمذي.
3- وأعلمنا صلى الله عليه وسـلم أن هذا المال حلاله حساب وحرامه عقاب، في الترمذي والدارمي عن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة من بين يدي ربه عز وجل حتى يسأل عن ماله، من أين اكتسبه، وفيم أنفقه» روى أحمد ومسلم عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا انْتَهَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} قَالَ: يَقُولُ ابْنُ آدَمَ مَالِي مَالِي!! وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أَوْ أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ».
4- وقد تعددت أنواع الناس في شأن المال ما بين مفرط ومفرط، ومقصر وغال:
- فمنهم من جعل الدنيا أكبر همه فراح فلا يبالي أجمعها من حلال أم من حرام. روى الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ».
- ومنهم من يتحرى الحلال في كسبه ولكن شغلت الدنيا أكثر وقته وسيطرت على تفكيره.
- ومنهم من جمع المال بحقه وأنفقه في حقه فهذا بخير المنازل.
- ومنهم من هو أخرق، لا يحسن التصرف فضيع الدنيا وأصبح عالة على الناس يتفضلون ويتصدقون عليه.
- ومنهم من جعل شغله وعمله في المسألة فأذل نفسه وأهرق ماء وجهه.
5- ألا وأن من مقاصد الشريعة حفظ المال فقد قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: إن مقاصد الشارع من الخلق خمسة: أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم؛ فكل ما لا يحفظ هذه الأصول الخمسة فهو مفسدة ودفعها مصلحة.ا.هــــ ومن أجل حفظ المال حرم الإسلام الربا والقمار والغش والخيانة والغرر والاتجار في المحرمات، وحرم الاعتداء على أموال الناس وأوجب في ذلك حداً معلوماً فقال جل جـلاله {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم. فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم} بل وأباحت الشريعة للإنسان المسلم أن يقاتل من جاء قاصداً الاعتداء على ماله؛ فثبت في الصحيحين من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسـلم: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال (فلا تعطه مالك) فقال: أرأيت إن قاتلني؟ قال (قاتله) قال: أرأيت إن قتلني؟ قال (فأنت شهيد) قال: فإن قتلته؟ قال (هو في النار).
6- ألا إن من مظاهر الاعتداء على المال العام الاختلاس والخيانة والغل والرشوة والإتلاف والابتزاز وعدم إتقان العمل وإضاعة الوقت والتربح من الوظيفة واستغلال المال العام لأغراض سياسية حزبية أو فئوية والإسراف والتبذير، واستعماله في مصالح خاصة، مما يترتب عليه أضرار شتى من الفساد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بما يجعل حياة الناس ضنكاً لا استقرار لها بل خوف وقلق واضطراب
7- ألا إن ولي الأمر مكلفٌ بحفظ المال العام وضبطه وحمايته بما آتاه الله من سلطة ومكنه من أجهزة، ويسأل عن ذلك أمام الله عز وجل، وقد قال سبحانه {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} وقال النبي صلى الله عليه وسـلم (ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) وقد عرف تاريخ المسلمين نظام الحسبة وديوان المظالم وديوان زمام الأزمة، ويماثل ذلك في زماننا أجهزة الرقابة الإدارية والمالية كديوان المراجع العام وأنظمة التفتيش والرقابة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسـلم يرسل الأمناء الثقات لجبي الصدقات وتوزيعها على أهلها، ووضع لهم الأحكام والمبادئ التي يسيرون عليها كما فعل مع ابن اللتبية، وكذلك أبو بكر رضي الله عنه فحين رجع معاذ من اليمن قال له أبو بكر: ارفع حسابك؟ فقال معاذ: أحسابان حساب من الله وحساب منك؟ ثم رفع إليه ما كان من إيرادات ومنصرفات، وكذلك عمر رضي الله عنه حين ولي أمر المسلمين كان يحسن اختيار عماله ويحصي ثرواتهم قبل ولايتهم ويطبق نظام مقاسمة الأموال حين تحوم حول الوالي شبهة في كونه قد تربح من عمله أو استغل نفوذه، مع بث العيون والرقباء لمراقبة الولاة مع إرسال المفتشين ليدققوا في أعمال أولئك الولاة، ثم يأمر الوالي إذا رجع أن يدخل البلد نهاراً لئلا يخفي شيئاً مما أتى به، بل كان يسافر بنفسه إلى الولايات للتفتيش على الولاة وسماع شكوى الناس منهم، وقد قال رضي الله عنه في خطبة له: ألا وإني ما وجدت صلاح ما ولَّاني الله إلا بثلاث: أداء الأمانة، والأخذ بالقوة، والحكم بما أنزل الله، ألا وإني ما وجدت صلاح هذا المال إلا بثلاث: أن يؤخذ من حق، ويعطى في حق، ويمنع من باطل، ألا وإنما أنا في مالكم كوالي اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف تقرم البهمة الأعرابية، القضم لا الخضم.
8- إن الغال من المال العام لا يقطع، لأن النبي صلى الله عليه وسـلم قد قال (ليس على مختلس ولا منتهب ولا غاصب قطع) فهل يعني ذلك أنه ليست عليه عقوبة؟ اللهم لا، بل نص أهل العلم على عقوبته عقوبة تعزيرية؛ وهذا الكلام نحن أشد ما نكون حاجة إليه؛ أيها المسلمون عباد الله: ألا إن من مساوئ الأخلاق أن يتبارى الناس في أكل المال العام ويتنافسوا في ذلك ولا يجدوا من ينكر عليهم، حتى صار بعض الناس إذا ولي وظيفة عامة ثم خرج منها عفيفاً متعففاً خميص البطن يتهم من الناس بل من بعض قرابته وذوي رحمه، ولربما من زوجته وأولاده بأنه ما أحسن التصرف ولا الاستفادة من وظيفته ولربما نبزوه بالألقاب فوصفوه بأنه بليد الفهم أو قليل الذكاء أو سيء التصرف أو مضيع لعياله … إلى غير ذلك مما يفت في عضد أهل الاستقامة ويشجع أهل الفساد
قَالَ ابن فرحون فِي كِتَابِهِ تَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ فِي أُصُولِ الْأَقْضِيَةِ وَمَنَاهِجِ الْأَحْكَامِ: التَّعْزِيرُ لَا يَخْتَصُّ بِفِعْلٍ مُعَيَّنٍ، وَلَا قَوْلٍ مُعَيَّنٍ فَقَدْ عَزَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهَجْرِ. وَأَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِهَجْرِ صبيغ الَّذِي كَانَ يَسْأَلُ عَنْ مُشْكِلَاتِ الْقُرْآنِ فَكَانَ لَا يُكَلِّمُهُ أَحَدٌ. وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَسْرِ دِنَانِ الْخَمْرِ وَشَقِّ ظُرُوفِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ إِبَاحَتُهُ سَلَبَ الصَّائِدِ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ لِمَنْ وَجَدَهُ، وَأَمْرُهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو بِتَحْرِيقِ الثَّوْبَيْنِ الْمُعَصْفَرَيْنِ، وَأَمْرُهُ يَوْمَ خَيْبَرَ بِكَسْرِ الْقُدُورِ الَّتِي طُبِخَ فِيهَا لُحُومُ الْحُمُرِ، وَهَدْمُهُ لِمَسْجِدِ الضِّرَارِ، وَأَمْرُهُ بِتَحْرِيقِ مَتَاعِ الْغَالِّ، وَبِقَطْعِ نَخْلِ الْيَهُودِ وَتَحْرِيقِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلَغَهُ أَنَّ نَاسًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ يُثَبِّطُونَ النَّاسَ عَنْهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ طلحة فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يُحْرِقَ عَلَيْهِمُ الْبَيْتَ فَفَعَلَ»، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَمَرَ بِتَحْرِيقِ قَصْرِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ لِمَا بَلَغَهُ أَنَّهُ احْتَجَبَ عَنِ الْخُرُوجِ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ، وَأَمَرَ أَيْضًا بِتَحْرِيقِ حَانُوتِ رويشد الثقفي الَّذِي كَانَ يَبِيعُ الْخَمْرَ وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ فُوَيْسِقٌ، وَلَسْتَ برويشد، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ أَرَاقَ اللَّبَنَ الْمَغْشُوشَ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَكْثُرُ تَعْدَادُهُ، قَالَ: وَهَذِهِ قَضَايَا صَحِيحَةٌ مَعْرُوفَةٌ.ا.هـــــــــــــــ
ومن ذلك العقوبة المعنوية بنفي الشهادة عنه، وفي ذلك خبر مدعم وقول النبي صلى الله عليه وسـلم «إنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ الْغَنَائِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ تَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا» وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَةٍ خَطَبَهَا: (تَقُولُونَ فِي مَغَازِيكُمْ فُلَانٌ قُتِلَ شَهِيدًا وَلَعَلَّهُ قَدْ أَوْقَرَ دَابَّتَهُ غُلُولًا!! لَا تَقُولُوا ذَلِكَ وَلَكِنْ قُولُوا مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ)
- من ذلك أن الخلفاء – كما يقول التقي السبكي – منعوا الغال سهمه من المغنم
- من ذلك تحريق متاع الغال كما ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى في الطرق الحكمية
- ومن ذلك ترك الصلاة عليه حين موته؛ ففي مسند الإمام أحمد عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه: «أن رجلا من المسلمين توفي بخيبر، وأنه ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “صلوا على صاحبكم”، قال فتغيرت وجوه القوم لذلك، فلما رأى الذي بهم قال: “إن صاحبكم غل في سبيل الله” ففتشنا متاعه فوجدنا فيه خرزاً من خرز اليهود ما يساوي درهمين»
- ومن ذلك الغرامة المالية كما في منع الزكاة (فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا لا يحل لمحمد وآل محمد منها شيء)
9- وَقَدِ اسْتَشْكَلَ بَعْضُ النَّاسِ قَطَعَ يَدِ السَّارِقِ فِي السَّرِقَةِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْجِنَايَاتِ عَلَى الْأَمْوَالِ، كَالْغَصْبِ، وَالِانْتِهَابِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
قَالَ الْمَازِرِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ: صَانَ اللَّهُ الْأَمْوَالَ بِإِيجَابِ قَطْعِ سَارِقِهَا، وَخَصَّ السَّرِقَةَ لِقِلَّةِ مَا عَدَاهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا، مِنَ الِانْتِهَابِ وَالْغَصْبِ، وَلِسُهُولَةِ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى مَا عَدَا السَّرِقَةَ بِخِلَافِهَا، وَشَدَّدَ الْعُقُوبَةَ فِيهَا لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الزَّجْرِ، وَلَمْ يَجْعَلْ دِيَةَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْعُضْوِ الْمَقْطُوعِ مِنْهَا بِقَدْرِ مَا يَقْطَعُ فِيهِ حِمَايَةً لِلْيَدِ، ثُمَّ لَمَّا خَانَتْ هَانَتْ، وَفِي ذَلِكَ إِثَارَةٌ إِلَى الشُّبْهَةِ الَّتِي نُسِبَتْ إِلَى أَبِي الْعَلَاءِ الْمَعَرِّيِّ فِي قَوْلِهِ:
يَدٌ بِخَمْسِ مِئِينَ عَسْجَدٍ وُدِيَتْ … مَا بَالُهَا قُطِعَتْ فِي رُبْعِ دِينَارِ
فَأَجَابَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ الْمَالِكِيُّ بِقَوْلِهِ:
صِيَانَةُ الْعُضْوِ أَغْلَاهَا وَأَرْخَصَهَا … حِمَايَةُ الْمَالِ فَافْهَمْ حِكْمَةَ الْبَارِي
وَشَرْحُ ذَلِكَ: أَنَّ الدِّيَةَ لَوْ كَانَتْ رُبْعَ دِينَارٍ لَكَثُرَتِ الْجِنَايَاتُ عَلَى الْأَيْدِي، وَلَوْ كَانَ نِصَابُ الْقَطْعِ خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ لَكَثُرَتِ الْجِنَايَاتُ عَلَى الْأَمْوَالِ، فَظَهَرَتِ الْحِكْمَةُ فِي الْجَانِبَيْنِ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ صِيَانَةٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ.
وَقَدْ عَسَرَ فَهْمُ الْمَعْنَى الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ السَّرِقَةِ وَبَيْنَ النَّهْبِ وَنَحْوِهِ عَلَى بَعْضِ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ، فَقَالَ: الْقَطْعُ فِي السَّرِقَةِ دُونَ الْغَصْبِ وَغَيْرِهِ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى؛ فَإِنَّ الْغَصْبَ أَكْثَرُ هَتْكًا لِلْحُرْمَةِ مِنَ السَّرِقَةِ، فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْقِيَاسِ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُعْمَلْ بِهِ فِي الْأَعْلَى فَلَا يُعْمَلُ بِهِ فِي الْمُسَاوِي. وَجَوَابُهُ: أَنَّ الْأَدِلَّةَ عَلَى الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُتَكَلَّفَ لِإِيرَادِهَا، وَسَتَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ. اه بِوَاسِطَةِ نَقْلِ ابْنِ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي.
قَالَ الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى: الْفَرْقُ بَيْنَ السَّرِقَةِ وَبَيْنَ الْغَصْبِ وَنَحْوِهِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْمَازِرِيُّ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّ النَّهْبَ وَالْغَصْبَ وَنَحْوَهُمَا قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّرِقَةِ، وَلِأَنَّ الْأَمْرَ الظَّاهِرَ غَالِبًا تُوجَدُ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ السَّرِقَةِ، فَإِنَّ السَّارِقَ إِنَّمَا يَسْرِقُ خِفْيَةً بِحَيْثُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَيَعْسُرُ الْإِنْصَافُ مِنْهُ، فَغَلُظَتْ عَلَيْهِ الْجِنَايَةُ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الزَّجْرِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.