1- قال الفيروز اباديّ: الخشية أخصّ من الخوف، فإنّ الخشية للعلماء بالله تعالى، فهي خوف مقرون بمعرفة، قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنّي أتقاكم الله وأشدّكم له خشية» فالخوف حركة، والخشية انجماع وانقباض وسكون. فالخوف لعامّة المؤمنين، والخشية للعلماء العارفين، والهيبة للمحبّين، والوجل للمقرّبين، وعلى قدر العلم والمعرفة تكون الخشية. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، ولما تلذّذتم بالنّساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصّعدات تجأرون إلى الله تعالى»
2- قد مدح الله أهل الخشية في كتابه الكريم؛ وبيَّن جزاءهم في آيات:
- هم أهل الجنة {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ}
- وهم أهل التذكر {طه. ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى. إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى} {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى. سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى}
- وهي صفة الملائكة عليهم السلام {وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ. يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}
- وهم أهل التقوى {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ}
3- وقد نهانا ربنا جل جلاله أن نخشى أحداً سواه فقال سبحانه
- {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}
- وقال عن المنافقين {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا}
- وقال في خطاب نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه {أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
4- أما ثواب الذين يخشون ربهم فما أجله وما أعظمه:
- هم أهل الهداية {إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ}
- توفيقهم للمسارعة إلى الخيرات {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ}
- حصول الفوز لهم {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ}
- حصول المغفرة {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}
- حصول الرضوان لهم {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ. جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}
- وصولهم إلى الجنة {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ. هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ. مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ. ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ. لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ}
5- الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان حال أهل الخشية:
- عن حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ رجلاً حضره الموت، فلمّا يئس من الحياة أوصى أهله: إذا أنا متّ فاجمعوا لي حطبا كثيرا وأوقدوا فيه نارا، حتّى إذا أكلت لحمي وخلصت إلى عظمي فامتحشت فخذوها فاطحنوها، ثمّ انظروا يوماً راحاً فاذروه في اليمّ، ففعلوا. فجمعه الله فقال له: لم فعلت ذلك؟ قال: من خشيتك، فغفر الله له»
- عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «عينان لا تمسّهما النّار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله»
- عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحقر أحدكم نفسه» قالوا: يا رسول الله كيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: «يرى أمرا لله عليه فيه مقال، ثمّ لا يقول فيه. فيقول الله- عزّ وجلّ- له يوم القيامة: ما منعك أن تقول فيّ كذا وكذا؟، فيقول: خشية النّاس، فيقول: فإيّاي كنت أحقّ أن تخشى»
- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يلج النّار رجل بكى من خشية الله حتّى يعود اللّبن في الضّرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنّم»
- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لقد سمعت من في رسول الله حديثا لو لم أسمعه إلّا مرّة أو مرّتين حتّى عدّ سبعا، ولكنّي سمعته أكثر من ذلك قال: كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورّع عن ذنب عمله، فأتته امرأة فأعطاها ستّين دينارا على أن يطأها، فلمّا قعد منها مقعد الرّجل من امرأته، أرعدت فبكت، فقال: ما يبكيك، أكرهت؟ قالت: لا. ولكنّ هذا عمل لم أعمله قطّ، وإنّما حملني عليه الحاجة. قال: فتفعلين هذا ولم تفعليه قطّ؟ قال: ثمّ نزل: فقال اذهبي والدّنانير لك. قال: ثمّ قال: والله لا يعصي الكفل ربّه أبدا فمات من ليلته، وأصبح مكتوبا على بابه: قد غفر للكفل»
6- حال الصحابة رضي الله عنهم مع خشية الله عز وجل:
- قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: «آخ الإخوان على قدر التّقوى، ولا تجعل حديثك بذلة إلّا عند من يشتهيه، ولا تضع حاجتك إلّا عند من يحبّ قضاءها، ولا تغبط الأحياء إلّا بما تغبط الأموات، وشاور في أمرك الّذين يخشون الله عزّ وجلّ»
- عن أبي الدّرداء رضي الله عنه قال: «إنّما أخاف أن يكون أوّل ما يسألني عنه ربّي أن يقول: قد علمت فما عملت فيما علمت؟»
- عن ابن أبي مليكة قال: «مرّ رجل على عبد الله بن عمرو. وهو ساجد في الحجر وهو يبكي، فقال: أتعجب أن أبكي من خشية الله، وهذا القمر يبكي من خشية الله؟ قال: ونظر إلى القمر حين شفّ أن يغيب»
- وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: ابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا، فوالذي نفسي بيده لو يعلم العلم أحدكم لبكى حتى ينقطع صوته، ولصلى حتى ينكسر صلبه.
7- من أحوال السلف عند الموت:
- دخلوا على الجنيد وكان في النزع وكان يصلي فقالوا له: الآن؟! قال: الآن تطوى صحيفتي.
- ودخلوا على أبي بكر النهشلي وكان صائماً وكان في النزع، فقالوا له: اشرب قليلاً من الماء، فقال: حتى تغرب الشمس.
- وكان ثابت البناني يقول: يا رب! إن أذنت لأحد أن يصلي في قبره فأذن لي.
- وكان يزيد الرقاشي يبكي ويقول: يا يزيد! من يبكي بعدك لك؟ من يترضى ربك عنك؟
- وبكى أحد السلف فسئل عن سبب بكائه فقال: سمعت الله عز وجل يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}
- وبكى أحد السلف عند موته فسئل ما يبكيك؟ فقال: أبكي لأن يصوم الصائمون ولست فيهم، ويصلي المصلون ولست فيهم. أي: أنه يشفق لترك هذه العبادات بعد الموت.
- ويقول من رأى الحسن البصري: كان إذا أقبل فكأنما أقبل من دفن حميمه، وإذا جلس فكأنه أسير أمر بقطع رقبته، وإذا ذكرت النار فكأنها لم تخلق إلا له. وقيل له: نراك شديد البكاء؟ فقال: أخاف أن يطرحني في النار ولا يبالي. وكان يقول: إن المؤمنين قوم ذلت والله منهم الأسماع والأبصار والجوارح، حتى يحسبهم الجاهل مرضى وإنهم والله الأصحاء، ولكن دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم، ومنعهم من الدنيا علمهم بالآخرة، أما والله ما أحزنهم ما أحزن الناس، ولا تعاظم في قلوبهم شيء طلبوا به الجنة، إنه من لم يتعز بعزاء الله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، ومن لم ير لله عليه نعمة في غير مطعم أو مشرب فقد قل علمه وحضر عذابه. وقد كان كلامه يشبه كلام الأنبياء. وكانوا يقولون عنه: كأنه عاين الآخرة وأتى يخبر عنها.
- ولما نزل الموت بـ محمد بن المنكدر رحمه الله بكى بكاءً شديداً، فأحضروا له أبا حازم الزاهد من أجل أن يخفف عنه، فسأله أبو حازم عن سبب بكائه؟ فقال له: سمعت الله عز وجل يقول: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} فأخاف أن يبدو لي من الله عز وجل ما لم أكن أحتسب. قال: فأخذ أبو حازم يبكي معه، فقالوا: أتينا بك من أجل أن تخفف عنه فزدت في بكائه.
- كان سيدنا مالك بن دينار يقول: لو أن لي أعواناً لفرقتهم في منارات الدنيا يصيحون بالناس: النار، النار! علهم يفيقون من غفلتهم. ويقول: والله لقد هممت أن آمر إذا أنا مت أن يطرحوني على مزبلة، وأن يضعوا الرماد على وجهي، ويقال: هذا جزاء من عصى الله. فمن رآني لم يعص ربه.
- كان النبي صلى الله عليه وسلم ربما بكى في الصلاة حتى يسمع لصوت صدره أزيز كأزيز المرجل، وكان إذا تغير الجو دخل وخرج، وعرف ذلك في وجهه، فتقول له السيدة عائشة: إن الناس إذا رأوا المطر استبشروا، فقال: (وما يؤمنني أن يكون فيه عذاب من الله عز وجل؟).
- يقول سيدنا أنس بن مالك: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، وإن كنا لنعدها على عهد رسول الله من الموبقات. أي: من المهلكات.
- وروي أن أحد العباد كان بمكانٍ فغشي عليه، فلما أفاق سألوه: فقال: هذا مكان عصيت الله فيه يوماً من الأيام.
- وسيدنا خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام يقول المولى عز وجل فيه: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} كان إذا ذكر ذنبه تأوه، كما كان يفعل سيدنا داود، يقول: أواه من عذاب الله، قبل ألا تنفع أواه. ويقول: يا رب! إني لا أستطيع حر شمسك، فكيف أستطيع حر نارك؟! يا رب! إني لا أستطيع سماع صوت رحمتك وهو الرعد، فكيف أستطيع سماع صوت غضبك؟! فيا عباد الله! ابكوا قبل ألا ينفع البكاء، وقبل أن تكون الدموع دماً، وقبل أن يؤمر بنا ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
- يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (مررت ليلة أسري بي بجبريل كالحلس البالي من خشية الله).
- وقال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل: (ما لي لم أر ميكائيل ضاحكاً؟! فقال: لم يضحك ميكائيل منذ خلقت النار).