فمن أعظم ما يبتلى به العبد أن يقسو قلبه؛ فلا ينتفع بموعظة ولا ذكر، ولا يرعوي لأمر ولا نهي، ولا تؤثر فيه قصة ولا مثل، ولا يذعن لوعد ولا وعيد؛ وهذه هي البلية العظمى التي كانت في الأمم من قبلنا؛ قال الله تعالى مخاطباً بني إسرائيل {ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون} وقال مخبراً عن حال من قبلنا {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وهي الخصلة التي حذر الله منها هذه الأمة {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون} وتوعد جل جلاله من قست قلوبهم {فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله}
1- الْقَسْوَةُ: الصَّلَابَةُ وَالشِّدَّةُ وَالْيُبْسُ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ خُلُوِّهَا مِنَ الْإِنَابَةِ وَالْإِذْعَانِ لِآيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةُ وغيرهما: الْمُرَادُ قُلُوبُ جَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ قُلُوبُ وَرَثَةِ الْقَتِيلِ، لِأَنَّهُمْ حِينَ حَيِيَ وَأَخْبَرَ بِقَاتِلِهِ وَعَادَ إِلَى مَوْتِهِ أَنْكَرُوا قَتْلَهُ، وَقَالُوا: كَذَبَ، بَعْدَ مَا رَأَوْا هَذِهِ الْآيَةَ الْعُظْمَى، فَلَمْ يَكُونُوا قَطُّ أَعْمَى قُلُوبًا، وَلَا أَشَدَّ تَكْذِيبًا لِنَبِيِّهِمْ مِنْهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ، لَكِنْ نَفَذَ حُكْمُ اللَّهِ بِقَتْلِهِ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تُكْثِرُوا الْكَلَامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ فَإِنَّ كَثْرَةَ الْكَلَامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ قَسْوَةٌ لِلْقَلْبِ وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ الْقَلْبُ الْقَاسِي). وَفِي مُسْنَدِ الْبَزَّارِ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَرْبَعَةٌ مِنَ الشقاء جمود العين وقساء الْقَلْبِ وَطُولُ الْأَمَلِ وَالْحِرْصُ عَلَى الدُّنْيَا)
2- قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} أَوْ قِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى الْوَاوِ كَمَا قَالَ: “آثِماً أَوْ كَفُوراً”.”عُذْراً أَوْ نُذْراً” وَقَالَ الشَّاعِرُ: نَالَ الْخِلَافَةَ أَوْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا، أَيْ وَكَانَتْ. وَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى بَلْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: “وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ” الْمَعْنَى بَلْ يَزِيدُونَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ فِي رَوْنَقِ الضُّحَى … وَصُورَتُهَا أَوْ أَنْتِ فِي الْعَيْنِ أَمْلَحُ، أَيْ بَلْ أَنْتِ وَقِيلَ: مَعْنَاهَا الْإِبْهَامُ عَلَى الْمُخَاطَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ:
أُحِبُّ مُحَمَّدًا حُبًّا شَدِيدًا … وَعَبَّاسًا وَحَمْزَةَ أَوْ عَلِيًّا
فَإِنْ يَكُ حُبُّهُمْ رُشْدًا أُصِبْهُ … وَلَسْتُ بِمُخْطِئٍ إِنْ كَانَ غَيًّا
وَلَمْ يَشُكَّ أَبُو الْأَسْوَدِ أَنَّ حُبَّهُمْ رُشْدٌ ظَاهِرٌ، وَإِنَّمَا قَصَدَ الْإِبْهَامَ. وَقَدْ قِيلَ لِأَبِي الْأَسْوَدِ حِينَ قَالَ ذَلِكَ: شَكَكْتَ! قَالَ: كَلَّا، ثُمَّ اسْتَشْهَدَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:” وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ” وَقَالَ: أَوَ كَانَ شَاكًّا مَنْ أَخْبَرَ بِهَذَا! وقيل: معناها التخيير، أي شبهوها بالحجارة
قَالَ مُجَاهِدٌ: مَا تَرَدَّى حَجَرٌ مِنْ رَأْسِ جَبَلٍ، وَلَا تَفَجَّرَ نَهْرٌ مِنْ حَجَرٍ، وَلَا خَرَجَ مِنْهُ مَاءٌ إِلَّا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، نَزَلَ بِذَلِكَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ.
3- والمسلم الموفق دائماً يراقب قلبه؛ لأن التعويل على القلوب وقد علمنا يقيناً أنه لا ينجو يوم القيامة إلا {من أتى الله بقلب سليم} وأن الله تعالى لا ينظر إلى الصور والألوان ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال؛ وهذه القلوب لا تدوم على حال واحدة بل هي في تقلب دائم؛ قال عليه الصلاة والسلام “إنما سمي القلب من تقلبه، إنما مثل القلب كمثل ريشة معلَّقة في أصل شجرة يقلبها الريح ظهراً لبطن” رواه أحمد، وقال عليه الصلاة والسلام “لقلب ابن آدم أسرع تقلباً من القدر إذا استجمعت غلياناً” رواه ابن أبي عاصم؛ ولذا كان أكثر دعائه عليه الصلاة والسلام “يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك” وكان إذا اجتهد في يمينه قال “لا ومقلب القلوب” وقسوة القلب يا أخي من المصائب العظام قال تعالى {فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله} قال القرطبي رحمه الله تعالى: قال أهل المعاني: وصف الله قلوب الكفار بعشر صفات وهي المرض والموت والقسوة والرين والطبع والختم والغشاوة والانصراف والحمية الإنكار.ا.هـــــ ومن أسباب قسوة القلب:
- الوقوع في المعاصي وارتكاب المحرمات؛ وكثرة الوقوع فيها يؤدي إلى تحولها إلى عادة مألوفة،
- عدم إتقان العبادات؛ ومن ذلك شرود الذهن أثناء الصلاة، وتلاوة القرآن والأدعية ونحوها، وعدم التدبر والتفكر في معاني الأذكار، فتجد الواحد لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، لا يشعر للعبادة بلذة، ولا للمناجاة بحلاوة، بل هي حركات جوفاء لا روح فيها
- التكاسل عن الطاعات والعبادات، وإضاعتها، وإذا أداها فإنما هي حركات جوفاء لا روح فيها، وقد وصف الله عز وجل المنافقين بقوله {وَإذَا قَامُوا إلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} ويدخل في ذلك عدم الاكتراث لفوات مواسم الخير وأوقات العبادة؛ وهذا يدل على عدم اهتمام الشخص بتحصيل الأجر.
- الغفلة عن ذكر الله عز وجل ودعائه سبحانه وتعالى فيثقل الذكر على الذاكر، وإذا رفع يده للدعاء سرعان ما يقبضهما ويمضي؛ وقد وصف الله المنافقين بقوله {إنَّ المُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإذَا قَامُوا إلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلاَّ قَلِيلاً}
- التعلق بالدنيا، والشغف بها، والاسترواح إليها، فيتعلق القلب بالدنيا إلى درجة أن يحس بالألم إذا فاته شيء من حظوظها كالمال والجاه والمنصب والمسكن، ويعتبر نفسه سيئ الحظ، ويحس بألم أكثر إذا رأى أخاه المسلم قد نال بعض ما فاته هو من حظوظ الدنيا.
- الابتعاد عن الأجواء الإيمانية فترة طويلة: وهذا مدعاة لضعف الإيمان في النفس، يقول الله عز وجل {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ}.
- الابتعاد عن طلب العلم الشرعي والاتصال بكتب السلف والكتب الإيمانية، التي تحيي القلب؛ فهناك أنواع من الكتب يحس القارئ بأنها تستثير في قلبه الإيمان، وتحرك الدوافع الإيمانية الكامنة في نفسه؛ وعلى رأس هذه الكتب: كتاب الله تعالى وكتب الحديث، ثم كتب العلماء المجيدين في الرقائق والوعظ.
- وجود الإنسان في وسط يعج بالمعاصي؛ فهذا يتباهى بمعصية ارتكبها، وآخر يترنم بألحان أغنية وكلماتها، وثالث يدخن، ورابع يبسط مجلة ماجنة، وخامس لسانه منطلق باللعن والسباب والشتائم… وهكذا، أما القيل والقال والغيبة والنميمة وأخبار المباريات فمما لا يحصى كثرة.
- طول الأمل؛ قال الله تعالى {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} وجاء في الأثر (أربعة من الشقاء: جمود العين، وقسوة القلب، وطول الأمل، والحرص على الدنيا). وقيل {من قصر أمله قصر همه وتنوّر قلبه؛ لأنه إذا استحضر الموت اجتهد في الطاعة}
- الإفراط في الأكل والنوم والسهر والكلام والخلطة، وكثرة الضحك؛ فإن الوقت الذي لا يُملأ بطاعة الله تعالى ينتج قلباً صلداً لا تنفع فيه زواجر القرآن ولا مواعظ الإيمان
وعلاج قسوة القلب – أخي – يكون بأمور منها:
- المحافظة على الصلاة مع جماعة المسلمين مع حضور القلب واستدعاء الخشوع
- المحافظة على ورد دائم من القرآن الكريم لا تخل به مهما يكن من أمر
- عيادة المرضى؛ لتتذكر نعمة الله حين أسبغ عليك ثوب العافية وصرف عنك الأمراض والآفات فتستديم شكره جل جلاله
- تغسيل الموتى واتباع الجنائز؛ لعل ذلك يحزنك فإن الحزين في ظل الله يوم القيامة يتعرض لكل خير
- زيارة القبور لتتذكر الآخرة وتحسن الاستعداد لها
- اصطناع المعروف بالمسح على رأس اليتيم وإكرام السائل وإجابة الداعي
وأما تدبر القرآن فلا بد من الأخذ بالأسباب المؤدية إليه، ومن ذلك:
- الإكثار من تلاوة القرآن؛ لأن من أدام طرق الباب فتح له، وكما قيل: أعط للعلم كلك يعطك بعضه
- الإخلاص لله تعالى عند تلاوة القرآن؛ فلا يقرأ رياء ولا سمعة ولا طلباً للأجر الدنيوي من الناس
- فراغ القلب عن شواغل الدنيا؛ لأن ذلك أدعى لتحصيل الغرض المراد
- البعد عن الذنوب والمعاصي؛ لأن للذنوب تأثيراً في حجب القلب عن الاستنارة بنور القرآن، وهذا من شؤم المعصية
- محاولة البكاء عند تلاوته، أو التباكي؛ لما رواه ابن ماجه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول {إن هذا القرآن نزل بحزن؛ فإذا قرأتموه فابكوا؛ فإن لم تبكوا فتباكوا}
- تحري الأوقات التي يكون القلب فيها بعيداً عن الشواغل وأقرب إلى الخشوع؛ خاصة في جوف الليل وبعد صلاة الفجر )إن قرآن الفجر كان مشهودا(
- تأمل الأوامر والنواهي واعتقاد قبولها، وأن الله تعالى يخاطب بها القارئ قبل غيره؛ كما قال بعض السلف: من أراد أن يكلِّمه الله فليقرأ القرآن
- تحصيل الآداب المطلوبة عند التلاوة من الطهارة الظاهرة والباطنة، وأن يستقبل القبلة إن أمكنه ذلك بغير مشقة والسواك، وأن يقبل على القرآن بقلبه
أن يكون عاملاً بالقرآن، وقافاً عند حدوده، منفذاً لأوامره، متخلقاً بأخلاقه