- لما ولد لإبراهيم عليه السلام ذلك الولد كان على رأس ست وثمانين سنة؛ ثم كان الابتلاء بالذبح حين شَبّ وصار يسعى في مصالحه وأطاق العمل، فلما كان هذا رأى إبراهيم عليه السلام في المنام أنه يؤمر بذبح ولده هذا، ورؤيا الأنبياء وحي. إنه بلاء عظيم واختبار جسيم، حيث يختبر الله جل جلاله خليله بذبح هذا الولد العزيز الذي جاء على كِبَر وقد طعن في السن، بعدما أمر بأنه يسكنه هو وأمه في بلاد قَفْر ووادٍ غير ذي زرع، ليس به حسيس ولا أنيس، ولا زرع ولا ضرع، مع هذا كله ـ وهنا العبرة أيها المؤمنون ـ امتثل أمر الله في هذا البلاء، وترك الولد وأمه ثقة بالله وتوكّلاً عليه، فجعل الله لهما فرجًا ومخرجًا، ورزقهما من حيث لا يحتسبان.
- ما من مؤمن من ملة هذا الأب الصالح عليه السلام يمتثل أمر الله ـ وإن كان في نظرنا القاصر أنه صعب الفعل والامتثال ـ إلا ويسهله الله ويجعل منه خيرًا كثيرًا. وهذا جانب الأسوة المهم في شخصية أبينا إبراهيم عليه السلام، بعد هذا الاختبار الشاق، حيث قذف بالابن وأمه في تلك الصحراء الجرداء، يأتيه الوحي باختبار أصعب من الأول، بعد هذا كله، أُمِر بذبح ولده، بِكره ووحيده الذي ليس له غيره، فأجاب ربه، وامتثل أمره، وسارع إلى طاعته. إن الإيمان الصادق والإسلام الحقيقي يوجب على صاحبه امتثال الأمر الإلهي وإن كان في ظاهره كُرْها للعبد، فهو خير له في الدنيا والآخرة، وكان الله بكم رحيمًا.
- ويبين لنا القرآن حنان الوالد على ولده، ويرسم للآباء منهج العطف والحنان مع الأبناء، بعيدًا عن التعنيف والإرهاب، وإن كان الأمر إلهيًّا ولا محيد عن فعله، ومع ذلك فإن الأب الحنون يطيب قلب ابنه، ويهوّن عليه شدة المحنة؛ لعل المحنة تصير منحة. إن في مقدور إبراهيم عليه السلام أن يأخذ الابن بشدة، ويذبحه بقهر، لكنها لفتات تربوية يغرسها القرآن للمربّين؛ لتكون نبتًا يافعًا يقطفون ثماره، قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى
- إن التربية الصالحة والتدين الصحيح غرستا في ضمير إسماعيل عليه السلام معنى الأمر الإلهي، وأنه لا محيد عن تحقيق إرادة الله، وإن معرفة إسماعيل لحق الوالد وقيمة كلماته، ليتعلم الأبناء منها حقوق الوالدين، ولو كانت أوامرهما في غاية الشدة على الولد، ما على الولد إلا أن يطيع، ما لم يؤمر بإثم. فما قال الأب الحنون كلمته: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى إلا وبادر الغلام الحليم وتربية الخليل إبراهيم فقال: يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ، جواب في غاية السداد والطاعة للوالد ولرب العباد.
- أدب التخاطب: إن خطاب الأب ابنه بقوله: يَا بُنَيَّ، وقول الابن لأبيه: يَا أَبَتِ، إشارة إلى أدب التخاطب بين أفراد الأسرة، بأن تكون ألفاظ الوالد ليّنة هيّنة، وألفاظ الأولاد ألفاظ أدب واحترام.
- إن وجه العبرة في هذا المقطع عظيم، وهو أن الله سبحانه إنما أمرنا بفرائض وأوامر لينظر هل نأتمر بها أم لا؟ ونهانا عن المحرمات والذنوب لينظر صدقنا في حقيقة انقيادنا وتصديقنا، حيث رضينا به ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا ورسولاً. إن الله سبحانه وتعالى لا يستفيد من ذبح فلان أو موته أو حياته، فلا تنفعه سبحانه طاعة المطيع، ولا تضره معصية العصاة، إنما هذه دار اختبار وممر، لا دار حبور ومقر، وعلى قدر الطاعة أو المعصية تكون درجة العبد. )إِنَّ هَذَا لَهُو َالْبَلاء الْمُبِينُ، إن هذا الاختبار لاختبار بيِّن واضح، إنها محنة صعبة، وبهذا الاختبار ظهرت طاعة إبراهيم عليه السلام لأمر الله، وكانت النتيجة أنّ الله اصطفى إبراهيم خليلاً، وأغدق عليه في القرآن بأوصاف لا تنالها أمم بأكملها، فسمّاه الحق في القرآن بأنه وحده أمة، فقال سبحانه: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً، وقال في حقّه: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ.
- إن إبراهيم عليه السلام لا تربطه بالله صلة قرابة، ولا لأنه من جنس معيّن، فإن الله منزّه عن كل نقيصة وشبه ومثل، إنما نال هذه المكانة بشدة تحرّيه لأوامر الله وطاعته. وفي الحديث القدسي: ((إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه)).