1/ فقد كان من أعظم نعم الله تعالى على هذه الأمة في يوم عرفة نزول قوله جل جلاله {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِيناً} نزلت هذه الآية الجامعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بصعيد عرفة، قالت أسماء بنت عميس رضي الله عنها: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الحجة فبينما نحن نسير إذ تجلى له جبريل، فمال رسول الله صلى الله عليه وسلم على الراحلة، فلم تطق الراحلة من ثقل ما عليها من القرآن، فبركت، فأتيته فسجيت عليه برداً كان عليَّ. وقال ابن جرير وغير واحد: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوماً. ولما نزلت {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وذلك يوم الحج الأكبر، بكى عمر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (ما يبكيك؟) قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذا أكمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص، فقال (صدقت) قال ابن كثير رحمه الله تعالى: ويشهد لهذا المعنى الحديث الثابت (إن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء)
وقال أسباط عن السدي: نزلت هذه الآية يوم عرفة، ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات. وروى الإمام أحمد عن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين، إنكم تقرؤون آية في كتابكم لو علينا – معشر اليهود – نزلت، لاتخذنا ذلك اليوم عيداً. قال: وأي آية؟ قال: قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} فقال عمر: والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والساعة التي نزلت فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم: عشية عرفة في يوم جمعة، ورواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي
هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خلف كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} أي صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأوامر والنواهي، فلما أكمل لهم الدين، تمت عليهم النعمة، ولهذا قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً} أي فارضوه أنتم لأنفسكم، فإنه الدين الذي أحبه الله ورضيه، وبعث به أفضل الرسل الكرام، وأنزل به أشرف كتبه.
2/ إن ربنا جل جلاله لم يخلق الخلق عبثاً ولم يتركهم سدى، بل أنزل عليهم الكتب هادية ومرشدة، وأرسل إليهم الرسل {مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} ولقد أحكم الله الدين قبل نشأة الأمم، أو قيام الحضارات البشرية، وعلَّمه للإنسان منذ أول الطريق، حين أُهبط على الأرض؛ لأنه أساس هدايته وضرورة معاشه ومعاده، كما قال تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى. وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى} وهذا خبر الحق والصدق الذي لا يتخلف أبداً: بأن شريعة الله لعباده هي الهداية الخالصة التي تعصمهم من الضلال والضياع في كل شؤون الحياة، والتي تفضي بهم إلى سعادة الأبد. ثم هذا نذير قاطع بأن الإعراض عنها يؤدي إلى ضنك الحياة، وشقاء العيش وعماية النهاية، وضرورة أن الإنسان لا يعيش في فراغ، فمن أعرض عن الحق لا بد أن يقع في الأباطيل، وأن يتمرغ في أوحالها وأهوالها، قال الله تبارك وتعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ} وهذا تقرير واضح بشمول الهدي الإلهي لكل ما يحتاجه الإنسان في معاشه ومعاده، حتى يتأكد الاتباع، ولا يضطر الإنسان إلى الإعراض في شيء من جوانب الحياة المتلاطمة.
3/ الشريعة الدائمة العادلة: وعلى هذا الهدي تتابعت الرسل عليهم السلام بدين الله الجامع الشامل، وجاؤوا بمنهج واحد مؤتلف غير مختلف، كما قال تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}؛ ذلك لأن الشارع الموحي واحد لا شريك له.
والرسالة عبر أولي العزم جميعاً رسالة صادقة هادية، من فجر التاريخ النبوي الشريف إلى ختامه بمحمد صلى الله عليه وسلم ثم امتداده إلى يوم القيامة، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} وهذه آية جامعة لخصائص الرسالة الإلهية، وأنها تقصد قصداً إلى تحقيق العدل، وإقامة القسط بين الناس، خاصة إذا تنازعوا واختلفوا، كما قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ}.
4/ وكان كل رسول يُبعث إلى قومه بالشريعة الإلهية الجامعة، وتعادلت كثرة الرسل عليهم السلام مع تعدُّدِ الأقوام والأمم، إلى أن بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم بالرسالة الخاتمة، فقام بعموم رسالته مقام الكثرة السابقة، واجتمع له صلى الله عليه وسلم الشمول من أطرافه جميعاً، خاصة بالمعجزة الخاتمة (معجزة القرآن الكريم) أو الفرقان الذي فرَّق الله به بين الحق والباطل، وجعله حجته الدائمة على جميع البشر كلهم، وصوت النبوة الممدودة إلى آخر الدهر.
وفي هذه الرسالة الخاتمة اتسعت جوانب الشمول الإسلامي، وامتدت طولاً وعرضاً وعمقاً حتى استوعبت جميع الأفراد والأمم، وقررت كلَّ طيِّب من المبادئ والنُّظم، وتوجهت بالخطاب الأعلى لكل الأزمنة والأمكنة، مع غاية التبيان في الخطاب، وقوة الحجة، وصحة الدليل والبرهان.
5/ آفاق الشمول الإسلامي: لقد تعددت جوانب الشمول الإسلامي، واتسعت آفاقه في هذه الرسالة الخاتمة، التي أراد الله تعالى لها أن تكون خطابه الدائم إلى يوم القيامة، وحجته الممدودة في حياة الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته عليه السلام.
ويتمثل ذلك في ثلاثة أقسام:
- الشمول الظرفي: (المكان والزمان).
- الشمول الشخصي: (الأفراد والجماعات).
- الشمول التشريعي: (المبادئ والأحكام) وسنتحدث عن كلٍّ منها على الترتيب.
أولاً: الشمول الظرفي:
ونعني به أن الإسلام خطاب إلهي موجَّه لكل البقاع في الأرض ولكل الأزمنة منذ بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن ينفخ إسرافيل في الصور إيذاناً بتصدع الكون، وانتهاء مرحلة التكليف والاختبار في حياة الإنسان.
ولذلك كان خطاباً لأهل مكة الذين بدأ بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}.
وكان خطاباً لأهل الجزيرة العربية، ومن حولها من البشر، كما قال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا}، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لِتُنذِرَ أُمَّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا}
ثانياً: الشمول الشخصي:
ونعني به استيعاب جميع الأشخاص العقلاء البالغين في توجيه الخطاب الإسلامي إليهم، سواء كانوا أفراداً، أو كانوا كالأسرة أو القبيلة، أو كانوا شعوباً وأمماً تحكمهم الأعراف والتقاليد في البوادي، أو تحكمهم حكومات في دولة منظمة ذات قوانين.
إن كل من يدرج على أرض الله مخاطَب بهذه الرسالة، ومكلَّف بها في أي مكان درج، وفي أي زمان وُجِد، كما قال تعالى في العديد من الآيات الكريمة، منها قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا القُرْءَانُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} فقوله تعالى: {لِأُنذِرَكُم بِهِ} خطاب لأهل مكة أو العرب عامة برسالة القرآن وقوله تعالى: {وَمَن بَلَغَ} أي أنه خطاب لكل من بلغه القرآن، أو لكل من بلغ سن التكليف، واللفظ عام في العرب وغيرهم في معنييه:
– الأول من البلاغ بمعنى العلم به على وجه صحيح.
– الثاني من البلوغ وهو حد التكليف الملزِم بالخطاب الإلهي.
ومِن أَجْمَع وأصرَح الآيات في ذلك قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُو يُحْيِي وَيُمِيتُ} فهذا تقرير إلهي حاسم في شمول الرسالة الخاتمة، وأنها موجَّهة للناس جميعاً، بدليل التأكيد بلفظ (جميعاً) لرفع أي احتمال أو التباس بأن المراد بالناس بعضهم أو معظمهم أو أهل زمان مخصوص منهم، فأفاد ذلك أن المراد هو جميع العقلاء الذين يصلحون لهذا الخطاب الإلهي التكليفي الشامل.
ومن هذه الآيات أيضاً قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرا}، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}.
ويلاحظ أن هذه الآيات الكريمة كلها مكية نزلت في عهد الضعف قبل التمكين وقبل وجود أي قدرة للجماعة المسلمة الأُولى على تحقيق هذه القضية، وإنما سبقت في العهد المكي للتأسيس الاعتقادي، وللتأصيل الديني في ذاته، وقد وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم موضع التطبيق العملي بعد ذلك بسنوات، حين أقام الدولة في المدينة المنورة، ومهَّد الأمور من إبرام صلح الحديبية مع مشركي مكة، والذي كان فتحاً مبيناً؛ كسر الله به حميَّة المشركين في الجزيرة كلها، وأزال به رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدر المؤامرات اليهودية في خيبر، وحينئذٍ أمِنَت الطرق فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم كُتُبَه إلى ملوك الفرس والروم و مصر… وغيرها تحقيقاً وتطبيقاً لمبدأ عالمية الإسلام أو شمول الأشخاص أفراداً وجماعات.
ثالثًا: الشمول التشريعي:
وهو الأساس الثابت في الدين الإلهي للناس، على ألسنة الرسل عليهم السلام في كل العصور، مع مراعاة بعض الفروق والتفاوتات المناسبة لكل الأزمنة أو الأمكنة أو الأقوام، حسبما تقتضيه الحكمة الإلهية المبنية على العلم المحيط. والأصل في هذا هو قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}.
وفي الرسالة الخاتمة بالذات أَكثَرَ القرآن من تقرير الشمول الجامع، بصيغ عديدة غاية في الصراحة والوضوح، كما قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}.
والتبيان أبلغ من البيان، والشمول مأخوذ نصاً من قوله تعالى {لِّكُلِّ شَيْءٍ} مما يحتاجه الناس في شؤون حياتهم إيماناً وأخلاقاً وعبادات ومعاملات.
وقال تعالى في ختام العهد المكي {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} والآية الكريمة نزلت في حجة الوداع في يوم عرفة من السنة العاشرة للهجرة.
والإكمال يرجع إلى معاني الجودة في الصفات (الكيف) والإتمام يرجع إلى معاني الشمول في الأعداد (الكم).
فتعين من هذا أن الدين الذي رضيه الله تعالى لعباده مستجمِع لكل الصفات الجيدة، ولأعداد الأحكام في كل جوانب الحياة؛ لأن الله تعالى هو الذي يشرِّع لعباده، ولا يعطيهم ديناً ناقصاً أبداً، كما قال تعالى ذلك من قبل في العهد المكي {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ} وقد قال ذلك في الإسلام الذي أوحاه للرسل من قبل، ومن ذلك على سبيل المثال ما قاله عن موسى عليه السلام {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ} وهذا هو شأن الدين الإلهي في كل العصور، خاصة في الرسالة الخاتمة تفصيلاً وتدليلاً؛ فكانت بذلك كله في مرتبة العقائد المقرَّرة، والمسلَّمات المتواترة بنقل الكافة عن الكافة، لا تقبل جدلاً أو لجاجةً!