الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون، وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له يحق الحق بكلماته ولو كره المجرمون، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله وخيرته من خلقه وأمينه على وحيه، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الذين عزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون. أما بعد
فمن الأدعية التي تعلمناها من القرآن قول ربنا جل جلالـه {ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم} هذا الدعاء القرآني البليغ جاء بعد قوله سبحانه وتعالى {ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير} الْفِتْنَةُ: اضْطِرَابُ الْحَال وفساده، وَهِي اسْمُ مَصْدَرٍ فَتَجِيءُ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} وَتَجِيءُ وَصْفًا لِلْمَفْتُونِ وَالْفَاتِنِ.
وَمَعْنَى جَعْلِهِمْ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا: جَعْلُهُمْ مَفْتُونِينَ يَفْتِنُهُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَيُصَدَّقُ ذَلِكَ بِأَنْ يَتَسَلَّطَ عَلَيْهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَيُفْتَنُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ} إِلَخْ. وَيُصَدَّقُ أَيْضًا بِأَنْ تَخْتَلَّ أُمُورُ دِينِهِمْ بِسَبَبِ الَّذِينَ كَفَرُوا، أَيْ بِمَحَبَّتِهِمْ وَالتَّقَرُّبِ مِنْهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ دُعَاءِ مُوسَى إِنْ هِيَ {إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ}
وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَالْفِتْنَةُ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} فِي سُورَةِ يُونُسَ
وَاللَّامُ فِي لِلَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى الْوَجْهَيْنِ لِلْمِلْكِ، أَيْ مَفْتُونِينَ مُسَخَّرِينَ لَهُمْ.
وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ تَكُونَ فِتْنَةً مَصْدَرًا بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ، أَيْ لَا تَجْعَلْنَا فَاتِنَيْنِ، أَيْ سَبَبَ فِتْنَةٍ لِلَّذِينَ كَفَرُوا، فَيَكُونَ كِنَايَةً عَنْ مَعْنَى لَا تُغَلِّبِ الَّذِينَ كَفَّرُوا عَلَيْنَا وَاصْرِفْ عَنَّا مَا يَكُونُ بِهِ اخْتِلَالُ أَمْرِنَا وَسُوءُ الْأَحْوَالِ كَيْلَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَاتَنًا الَّذِينَ كَفَرُوا، أَيْ مُقَوِّيًا فِتْنَتَهُمْ فَيُفْتَتَنُوا فِي دِينِهِمْ، أَيْ يَزْدَادُوا كُفْرًا وَهُوَ فِتْنَةٌ فِي الدِّينِ، أَيْ فَيَظُنُّوا أَنَّا عَلَى الْبَاطِلِ وَأَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ، وَقَدْ تُطْلَقُ الْفِتْنَةُ عَلَى مَا يُفْضِي إِلَى غُرُورٍ فِي الدِّينِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} فِي سُورَةِ الزُّمَرِ وَقَوْلِهِ: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ} فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ.
وَاللَّامُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَامُ التَّبْلِيغِ وَهَذِهِ مَعَانٍ جَمَّةٌ أَفَادَتْهَا الْآيَةُ. {وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا}
أَعْقَبُوا دَعَوَاتِهِمُ الَّتِي تَعُودُ إِلَى إِصْلَاحِ دِينِهِمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِطَلَبِ مَا يُصْلِحُ أُمُورَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ وَمَا يُوجِبُ رِضَى اللَّهِ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ رِضَاهُ يُفْضِي إِلَى عنايته بهم بتسيير أُمُورِهِمْ فِي الْحَيَاتَيْنِ. وَلِلْإِشْعَارِ بِالْمُغَايَرَةِ بَيْنَ الدَّعْوَتَيْنِ عَطَفَتْ هَذِهِ الْوَاوُ وَلَمْ تَعْطِفِ الَّتِي قَبْلَهَا.
{إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} قال المفسرون: قالوه بعد المجاهدة وشق العصا التجاءً إلى الله تعالى في جميع أمورهم، لا سيما في مدافعة الكفرة وكفاية شرورهم، كما ينطق به قوله تعالى: {رَبَّنَا} بدل من الأول، وكذا قوله: {رَبَّنَا} فيما بعده. {لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً}؛ أي: مفتونين {لِلَّذِينَ كَفَرُوا}؛ أي: بأيديهم بأن تسلطهم علينا فيفتنونا بعذاب لا نطيقه، فالفتنة بمعنى المفعول، وقال الزجاج: لا تظهرهم علينا، فيظنوا أنهم على حق فيفتنوا بذلك، وقال مجاهد: لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولوا: لو كان هؤلاء على حق ما أصابهم هذا، وقال بعضهم: ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا فتقتر علينا الرزق وتبسطه عليهم فيظنوا أنهم على الحق ونحن على الباطل. {وَاغْفِرْ لَنَا} ما فرط منا من الذنوب وإلا كان سببًا لظهور العيوب وباعثًا للابتلاء المرهوب {رَبَّنَا} تكرير النداء للمبالغة في التضرع والجؤار، فيكون لاحقًا بما قبله، ويجوز أن يكون سابقًا لما بعده توسلا إلى الثناء بإثبات العزة والحكمة، والأول أظهر وعليه ميل السجاوندي حيث وضع علامة الوقف الجائز على {رَبَّنَا} وهو في اصطلاحه ما يجوز فيه الوصل، والفصل باعتبارين، وتلك العلامة الجيم بمسماه وهو “ج”. {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ}؛ أي: الغالب الذي لا يذل من التجأ إليه، ولا يخيب رجاء من توكل عليه. {الْحَكِيمُ} لا يفعل إلا ما فيه حكمة بالغة.