خطب الجمعة

محبة النبي

خطبة يوم الجمعة 11/3/1433 الموافق 3/2/2012

إن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم أصل عظيم من أصول الدين، فلا إيمان لمن لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين. قال الله تعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين} قال القاضي عياض في شرح الآية: فكفى بهذا حضاً وتنبيهاً ودلالة وحجة على إلزام محبته، ووجوب فرضها، وعظم خطرها، واستحقاقه لها صلى الله عليه وسلم، إذ قرّع الله من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله وتوعدهم بقوله تعالى: {فتربصوا حتى يأتي الله بأمره}، ثم فسَّقهم بتمام الآية، وأعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله.

وقال الله تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين” وقال أيضاً: “والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده” وعن عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذٌ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله لأنت أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك”، فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إليّ من نفسي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “الآن يا عمر”.

والمحبة عمل قلبي اعتقادي تظهر آثاره ودلائله في سلوك الإنسان وأفعاله ومن علامات ذلك:

أولاً: تعزير النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره: قال الله تعالى: {إنا أرسلناك شاهداْ ومبشراْ ونذيراْ لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزِّروه وتوقِّروه وتسبِّحوه بكرة وأصيلاْ} ذكر ابن تيمية أن التعزير: اسم جامع لنصره وتأييده ومنعه من كل ما يؤذيه. والتوقير: اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام، وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار. وتوقير النبي صلى الله عليه وسلم له دلائل عديدة، منها:

1- عدم رفع الصوت فوق صوته: قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} وعن السائب بن يزيد قال: كنت قائماً في المسجد فحصبني رجل فنظرت فإذا عمر بن الخطاب، فقال: اذهب فأتني بهذين، فجئته بهما، قال: من أنتما أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهـل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

2- الصلاة عليه: قال الله تعالى: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} قال ابن عباس: يصلون: يُبرّكون. وفي الآية أمر بالصلاة عليه، والأمر يقتضي الوجوب، لهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: “البخيل من ذكرتُ عنده فلم يصل عليّ”. وقال: “رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليّ”.

 ثانياً: الذب عنه صلى الله عليه وسـلم، فتلك آية عظيمة من آيات المحبة والإجلال، قال الله تعالى: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاْ من الله ورضواناْ وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون}.

ولقد سطر الصحابة رضي الله عنهم أروع الأمثلة وأصدق الأعمال في الذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفدائه بالأموال والأولاد والأنفس، في المنشط والمكره، في العسر واليسر، وكتب السير عامرة بقصصهم وأخبارهم التي تدل على غاية المحبة والإيثار، ومن ذلك:

  • ما قاله أنس بن النضر يوم أحد لما انكشف المسلمون: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني أصحابه وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين، ثم تقدم فاستقبله سعد، فقال: يا سعد بن معاذ، الجنة ورب النضر، إني أجد ريحها من دون أحد، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع، قال أنس بن مالك: فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل، وقد مثل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه.
  • وما كان من المرأة التي نعي إليها أبوها وأخوها وزوجها فقالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسـلم؟ فقالوا: هو بخير يا أم فلان. فقالت: كل مصيبة بعده جلل.
  • ما كان من الصحابة رضوان الله عليهم في حرصهم على التبرك بماء وضوئه ونخامته عليه الصلاة والسلام

ثالثاً: الذب عن سنته صلى الله عليه وسلم: بحفظها وتنقيحها، وحمايتها من انتحال المبطلين وتحريف الغالين وتأويل الجاهلين، ورد شبهات الزنادقة والطاعنين في سنته، وبيان أكاذيبهم ودسائسهم، وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنضارة لمن حمل هذا اللواء بقوله: “نضر الله امرءاً سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه، فرب مُبلّغ أوعى من سامع”.

والتهاون في الذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الذب عن سنته وشريعته، من الخذلان الذي يدل على ضعف الإيمان، أو زواله بالكلية، فمن ادعى الحب ولم تظهر عليه آثار الغيرة على حرمته وعرضه وسنته، فهو كاذب في دعواه.

رابعاً: تصديقه فيما أخبر: من أصول الإيمان وركائزه الرئيسة، الإيمان بعصمة النبي صلى الله عليه وسلم وسلامته من الكذب أو البهتان، وتصديقه في كل ما أخبر من أمر الماضي أو الحاضر أو المستقبل، قال الله تعالى: {والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} الجفاء كل الجفاء، بل الكفر كل الكفر اتهامه وتكذيبه فيما أخبر، ولهذا ذم الله المشركين بقوله: {وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين، أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين}

 ومن لطائف هذا الباب التي تدل على منزلة الشيخين الجليلة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: “بينما راع في غنمه عدا عليه الذئب فأخذ منها شاة فطلبها حتى استنقذها، فالتفت إليه الذئب، فقال له: من لها يوم السبع ليس لها راع غيري؟ وبينما رجل يسوق بقرة قد حمل عليها، فالتفتت إليه فكلمته فقالت: إني لم أخلق لهذا، ولكني خلقت للحرث، فقال الناس: سبحان الله! قال النبي صلى الله عليه وسلم: فإني أومن بذلك وأبو بكر وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما”.

خامساً: اتباعه وطاعته والاهتداء بهديه؛ إذ الأصل في أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله أنها للاتباع والتأسي، قال الله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراْ} قال ابن كثير: هذه الآية أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله، ولهذا أمر الله تبارك وتعالى الناس بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه عز وجل.

وجاء أمر الله سبحانه وتعالى في وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} وجعل الله عز وجل طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم من طاعته سبحانه، فقال: {من يطع الرسول فقد أطاع الله}

أمر بالرد عند التنازع إلى الله والرسول، فقال: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا}.

وتواترت النصوص النبوية في الحث على اتباعه وطاعته، والاهتداء بهديه والاستنان بسنته، وتعظيم أمره ونهيه، ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة” وقال صلى الله عليه وسلم: “صلوا كما رأيتموني أصلي” وقال: “لتأخذوا عني مناسككم”.

فطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي المثال الحي الصادق لمحبته عليه الصلاة والسلام فكلما ازداد الحب، زادت الطاعات، ولهذا قال الله عز وجل: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} فالطاعة ثمرة المحبة، وفي هذا يقول أحد الشعراء: تعصى الإله وأنت تزعم حبه ذاك لعمري في القياس بديع لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن أحب مطيع

سادساً: التحاكم إلى سنته وشريعته: إن التحاكم إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم أصل من أصول المحبة والاتباع، فلا إيمان لمن لم يحتكم إلى شريعته، ويسلم تسليماً، قال الله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاْ مما قضيت ويسلموا تسليماْ}.

وقد بين الله سبحانه وتعالى أن من علامات الزيغ والنفاق الإعراض عن سنته، وترك التحاكم إليها، قال الله تعالى: {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاْ بعيداْ، وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداْ}.

من هدي السلف في تعظيم النبي صلى الله عليه وسـلم

  • ذكر عن مالك أنه سئل عن أيوب السختياني؟ فقال: «ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أوثق منه. وقال عنه مالك: وحجّ حجتين، فكنت أرمقه، ولا أسمع منه، غير أنه كان إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، بكى حتى أرحمه، فلما رأيت منه ما رأيت، وإجلاله للنبي صلى الله عليه وسلم كتبت عنه.
  • وقال مصعب بن عبد الله: كان مالك إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يتغير لونه وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه، فقيل له يوماً في ذلك، فقال: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم عليَّ ما ترون
  • وذكر مالك عن محمد ابن المنكدر وكان سيد القراء: لا نكاد نسأله عن حديث أبداً إلا يبكي حتى نرحمه، ولقد كنت أرى جعفر بن محمد وكان كثير الدعابة والتبسم فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم اصفرَّ لونه، وما رأيته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على طهارة، ولقد اختلفت إليه زماناً فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إما مصلياً، وإما صامتاً، وإما يقرأ القرآن، ولا يتكلم فيما لا يعنيه، وكان من العلماء والعباد الذين يخشون الله.
  • وكان الحسن رحمه الله إذا ذكر حديث حنين الجذع وبكائه يقول: يا معشر المسلمين! الخشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقاً إلى لقائه؛ فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه.
  • وكان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم فينظر إلى لونه كأنه نزف منه الدم، وقد جف لسانه في فمه هيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم
  • ولقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع: نزف البكاء دموع عينك فاستعر عيناً لغيرك دمعها مدرارُ.
  • ولقد رأيت الزهري وكان لَمِنْ أهنأ الناس وأقربهم فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه ما عرفك ولا عرفته.
  • ولقد كنت آتي صفوان بن سليم، وكان من المتعبدين المجتهدين فإذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى، فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه ويتركوه.
  • وقال عمرو بن ميمون: اختلفت إلى ابن مسعود سنة فما سمعته يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أنه حدّث يوماً فجرى على لسانه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم علاه كربٌ، حتى رأيت العرق يتحدّر عن جبهته، ثم قال: هكذا إن شاء الله، أو فوق ذا، أو ما دون ذا، ثم انتفخت أوداجه، وتربَّد وجهه وتغرغرت عيناه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى