1/ من سنن الله تعالى في كونه أنه ينصر من نصره، ويؤيد من آمن به، ولذلك لمّا رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غار حراء خائفاً وجلاً بعد أن جاءه جبريل، وظنّ أنه سيموت أو سيهلك أو سيُخزى، لأنه رأى صورة ما رآها من قبل، فقالت له خديجة رضي الله عنها وأرضاها {كلا والله لا يُخزيك الله أبداً، إنك لَتَصِلُ الرحِم، وتحمِل الكَلَّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق} فاستدلّت رضي الله عنها بحُسن أفعاله، وبجميل سيرته على أنّ الله لا يُخزيه أبداً
2/ من سننه جل جلاله أنه يجود على من ينفق على عباده، قال تعالى ]مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم(
3/ أعلى مراتب الجود الجود بالنفس، ليس هناك أكرم ممن يجود بنفسه في سبيل الله عز وجل فيا مَن يبخل بدرهمه وديناره، أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم جادوا بنفوسهم وأرواحهم في سبيل الله.
يجود بالنفس إن ضَنَّ البخيل بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود
4/ ومن مراتب الجود أيضاً: الجود بالعلم، وهو من أشرف المراتب، وبذلُه للناس من أعظم القُرَب إلى الله تعالى، وهو أشرف من الجود بالمال، كما ذكر ابن القيم رحمه الله، فيا دعاة الإسلام، ويا طلبة العلم، ويا حمَلَة الشهادات العالية، الأمة ماتت جهلاً، وشركاً وتخلُّفاً، وضياعاً، فمن يُنقذها بعد الله إلا أنتم؟ {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أُوتوا الكتاب لتُبيِّنُنه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون} ومن وصايا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه لِكُمَيل بن زياد، يا كُميل: العلم خير من المال.. العلم يحفظك وأنت تحفظ المال، العلم يزكو بالإنفاق، والمال تُنقصه النفقة. يقول تبارك وتعالى {إنّ الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيّناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون. إلا الذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التوّاب الرحيم} كان أُبي بن كعب رضي الله عنه يجلس للناس بعد كلّ صلاة فيقول: هل من متعلِّم، هل من سائل، هل من مُسْتَفتٍ، هل من مُستفسِر، فيفيض بالعلم كالبحر الذي لا ساحل له. وكذلك ابن عباس رضي الله عنه يجلس للناس من صلاة الفجر إلى صلاة الظهر، فيدخل أهل التفسير، حتى إذا انتهوا قال: اخرجوا، وعليّ بأهل الحديث، فإذا انتهوا قال: عليّ بأهل الفقه، فإذا انتهوا، نزل أهل الفَتاوى والأحكام، ثم جاء بأهل الأدب والشعر واللغة، {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم}
5/ من مراتب الجود أيضاً الجود بالمال، واعلموا أيها الناس: أنّ مَن قدّم خيراً فإنما يُقدّم لنفسه {وما تقدموا لأنفسكم من خيرٍ تجدوه عند الله} يقول عليه الصلاة والسلام، كما في الصحيح {ما من يوم يُصبح العباد فيه؛ إلا ملَكان ينزلان؛ فيقول أحدهما: اللهم أعط مُنفقاً خلَفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط مُمسكاً تلفا} فمن أراد أن يُخلف الله عليه، وأن يُبارك له في رزقه، وفي دَخلِه، فليُنفق على الفقراء، على المجاهدين، على المساكين، في مشاريع الخير، فكل ذلك من أبواب البر.
6/ لقد كان الجود من أخلاق أهل الجاهلية، قال المفسرون: إن الذي سن لقريش رحلة الشتاء والصيف هاشم بن عبد مناف، وسبب ذلك أنهم كانوا تعتريهم خصاصة فإذا لم يجد أهل بيت طعاماً لقوتهم حمل رب البيت عياله إلى موضع معروف فضرب عليهم خباء وبقوا فيه حتى يموتوا جوعاً ويسمى ذلك الاعتفار، فحدث أن أهل بيت من بني مخزوم أصابتهم فاقة شديدة فهموا بالاعتفار فبلغ خبرهم هاشماً لأن أحد أبنائهم كان ترباً لأسد بن هاشم، فقام هاشم خطيباً في قريش وقال: إنكم أحدثتم حدثاً تقلون فيه وتكثر العرب وتذلون وتعز العرب وأنتم أهل حرم الله والناس لكم تبع ويكاد هذا الاعتفار يأتي عليكم، ثم جمع كل بني أب على رحلتين للتجارات فما ربح الغني قسمه بينه وبين الفقير من عشيرته حتى صار فقيرهم كغنيهم، وفيه يقول مطرود الخزاعي:
يا أيها الرجل المحول رحله هـــــــــــــــــلا نزلت بآل عبد مناف
الآخذون العهد من آفاقها والراحلون لرحــــــــــــــــــلة الإيلاف
والخالطون غنيهم بفقيرهم حتى يصير فقيرهم كالكافي
وقد كان للصحابة رضي الله عنهم في ذلك القدح المعلى، هذا أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه يبذل ماله كلّه في سبيل الله، فيقال له: ماذا تركت لأهلك وعيالك؟ فيجيب بلسان الواثق بالله تعالى: تركت لهم الله ورسوله. عثمان بن عفّان رضي الله عنه يبذل ماله في سبيل الله، يسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول {من يشتري بئر رومة وله الجنة} فاشتراها عثمان من اليهود فكانت ثمن روحه إلى الجنة. ويسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول {من يُجهّز جيش تبوك وله الجنة} فجهّز عثمان الجيش على نفقته، فاستحق بذلك دعاء الرسول عليه الصلاة والسلام. {اللهم اغفر لعثمان ما تقدم من ذنبه وما تأخر، اللهم ارض عن عثمان، فإني عنه راضٍ، ما ضرّ عثمان ما فعل بعد اليوم}
7/ ومن الجود أيضاً أيها الناس، الجود بالجاه والوجاهة والمنصب، فبعض الناس آتاه الله الجاه والمنصب، يعرفه المسئولون بوجاهته، ويقبلون شفاعته، ويُقدّمونه على الناس، والله تعالى يقول {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نُؤتيه أجراً عظيماً} ويقول سبحانه وتعالى {من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كِفلٌ منها وكان الله على كلّ شيء مُقيتاً} فيا أيها المسئولون ويا من أنعم الله عليكم بالجاه والمنصب. هذه والله بُشرى لكم. شفاعتكم للمحتاجين، قضاء حوائج المسلمين، دفع الظلم عن المظلومين، السعي على مصالح الأرامل والمساكين، كلامك إلى المسئول، إلى الوزير في مصالح هؤلاء، له أعظم الأجر عند الله تعالى، حيث يشفع لك محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يوم لا ينفع جاه ولا منصب، وهو القائل {اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسانه ما أحب}