- الحمد لله رب العالمين، أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام دينا، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، {أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، تركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أعلام الهدى، ومصابيح الدجى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان، وسار على نهجهم واقتفى. أما بعد.
2/ فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسـلم هم القدوة والأسوة، هم الذين زكاهم الله عز وجل في كتابه، وأثنى عليهم رسوله عليه الصلاة والسلام، وهم الذين حفظ الله بهم هذا الدين حتى بلغ الآفاق، وهم الذين جاهدوا في الله حق الجهاد، وهم أهل التقى والهدى وأهل العفاف والغنى، وهم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا، ولا يستطيع الفاعلون كفعلهم وإن حاولوا في النازلات وأجملوا
3/ يجد كل موفَّق في سيرتهم ما يعينه في مسيرته، وفي أخبارهم ما يسدده في قصده وسعيه، فهم الذين شهد الله لهم بأنهم {أذلة المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله لومة لائم} وأنهم {أشداء على الكفار رحماء بينهم} وأنهم {رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا} وأنهم {الصادقون – المفلحون}
إني أُحب أبا حفص وشيعته كما أحب عتيقاً صاحب الغار
وقد رضيت علياً قدوة علماً وما رضيت بقتل الشيخ في الدار
كل الصحابة ساداتي ومعتقدي فهل عليَّ بهذا القول من عار
4/ إني ذاكر في هذه الكلمات بعض مواقف أولئك السادة الأخيار رضوان الله عليهم؛ مما يزيد المؤمن إيماناً ويقيناً بأن محمداً صلى الله عليه وسـلم رسول الله، وأن هؤلاء الأصحاب هم أولياء الله، وأن دين الإسلام هو دين الله، فلولا الإسلام ما كان الصديق صديقا، ولا كان الفاروق فاروقا، ومن خلال عرض هذه الكلمات أبذل توجيهات ناصحة لمن ولاه الله الأمر، عسى الله أن يفتح بها أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفا، ويهدي ناساً من ضلالة، ويعلمهم من جهالة، عسى الله أن يأخذ بأيدينا جميعاً رعاة ورعية
5/ حين ولي الخلافة أبو بكر صديق أحمد صاحب الغار الذي هو في المغارة والنبي اثنان، ما كان حاله؟ وكيف كان كلامه؟ إنها الحال التي تفتقدها أمة الإسلام اليوم في ولاتها وحكامها، وجدير بكل من ولي من أمر المسلمين شيئا أن يتأمل سيرته وحاله في ولايته، أرأيتم خطبته حين تولى فماذا قال؟! “أيها الناس إني قد وليت عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، الضعيف فيكم قوي حتى آخذ الحق له، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه، لا يدع قوم الجهاد إلا خذلهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمَّهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيتهما فلا طاعة لي عليكم” هذا هو دستور أبي بكر في خلافته وولايته، فهل كانت هذه خطبة رنانة، وأقوالاً فضفاضة، كالتي تنشر على شعوب الإسلام اليوم ولا يطبق حرف؟ هل كان قوله هذا غشاً أو تجارة أو دعوة لانتخابه فقط؟ لا؛ إنه أبو بكر، إنه الصديق.
إذا تذكرت شجواً من أخي ثقة فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خير البرية أتقاها وأعدلها بعد النبي وأوفاها بما حملا
الثاني التالي المحمود مشهده وأول الناس حقاً صدق الرسلا
6/ روي في السير عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: “كنت أفتقد أبا بكر أيام خلافته ما بين فترة وأخرى، فلحقته يوماً فإذا هو بظاهر المدينة – أي خارجها – قد خرج متسللا، فأدركته وقد دخل بيتاً حقيراً في ضواحي المدينة، فمكث هناك مدة، ثم خرج وعاد إلى المدينة، فقلت: لأدخلن هذا البيت!! فدخلت فإذا امرأة عجوز عمياء، وحولها صبية صغار، فقلت: يرحمك الله يا أمة الله من هذا الرجل الذي خرج منكم الآن؟ فقالت: أنه ليتردد علينا حينا، والله إني لا أعرفه، فقلت: فما يفعل؟ فقالت: إنه يأتي إلينا فيكنس دارنا، ويطبخ عشاءنا، وينظف قدورنا، ويجلب لنا الماء، ثم يذهب، فبكى عمر حينذاك، وقال: الله أكبر والله لقد أتعبت من بعدك يا أبكر”.
7/ رأينا هذا الرجل العجيب الصديق رضي الله عنه وأرضاه الذي كان معتاداً على الصيام وعلى عيادة المرضى وعلى شهود الجنائز وعلى إطعام الفقراء رأيناه يقف على المنبر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد أن بايعه الناس يخطب خطبة متوازنة رائعة بليغة حكيمة، يرسم فيها بوضوح خطوط سياسته وبرنامجه في الحكم. ثم وجدناه بعد ذلك يعقد مجالس الحرب، ويسير الجيوش، ويفتح البلدان، ويجمع الخراج، وجدناه يضع الخطط العجيبة والتدابير المحكمة في حروبه مع المرتدين، ثم مع فارس والروم بعد ذلك.
وجدناه يهتم ببيت المال وتفيض الخيرات في زمانه على الناس مع كونه في معارك هائلة منذ أن تولى الخلافة وحتى مات، لكنه ترك اقتصاد بلده منتعشاً عظيماً متفوقاً على غيره. وجدناه مع كل هذا التفوق في مجالات السياسة والحرب والاقتصاد والدعوة والمراسلات والوفود وجدناه لا ينسى أحداً من رعيته. وجدناه ينزل بنفسه ليرعى العجوز العمياء في بيتها، ويكنس حجرتها ويعد طعامها. وجدناه يحلب الشاة للضعفاء. وجدناه ما زال عائداً للمريض متّبعاً للجنازة واصلاً للرحم، مهتماً بأولاده وزوجاته، عطوفاً حنوناً على خدمه؛ فأي شمول؟ وأي كمال؟ وإن كان الصديق رجلاً عظيماً فأعظم منه ذلك الدين الذي صنع من الصديق صدّيقاً، وأعظم معجزات الإسلام هي بناء الرجال وبناء الأمم، وفي أزمان قياسية ها هي القبائل البدوية المتفرقة والمشتتة والمتحاربة تكون في سنوات معدودات دولة حضارية عظيمة تحكم الأرض بقوانين السماء.
8/ ختم حياته أبو بكر رضي الله عنه بالمسك بأن ولي عمر بن الخطاب الخلافة بعده فكانت خلافته عزًا وقوة للإسلام، وأوصى أبو بكر في حال موته، فقال: “إنا قد ولينا أمر المسلمين فلم نأكل درهماً، ولا ديناراً، ولكن جعلنا خشن طعامهم في بطوننا، ولبسنا خشن ثيابهم على ظهورنا، وليس عندنا شيء من فيء المسلمين، فانظروا ما زاد من مالي فابعثوا به إلى الخليفة من بعدي”، فما تَرِكتُه يا ترى؟ ما تركة من كانت ميزانية الأمة تحت يديه؟ لقد خلَّف عبداً حبشياً، وبعيراً كان يسقي عليه، وعباءة لا تساوي خمسة دراهم، فلما بعثوا بها إلى عمر بكى حين رآها حتى سالت دموعه، وقال: “رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده”
9/ وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عرَف ربَّه، وعرف قدرَ نفسه، فتواضع لله، فرفَع الله ذكرَه وأعلى شأنه، ما كان رضي الله عنه يخرج على الناس في مواكب لافتة أو في مراكب فارهة، بل كان حاله بعد الخلافة كحاله قبلها، بل حرص رضي الله عنه على تقويم نفسه وإلزامها حدود الله، قال عبيد الله بن عمر بن حفص: إنّ عمر بن الخطاب حمل قربةً على عنقه فقيل له في ذلك فقال: إنّ نفسي أعجبتني فأردتُ أن أذلَّها. ولما قالت له امرأة: هيه يا ابن الخطاب: عهدتك في سوق عكاظ ترعي الغنم بعصاك؛ وأنت تدعى عميرا، ثم لم تمض الأيام حتى دعيت عمر، ثم لم تمض الأيام حتى صرت أمير المؤمنين فاتق الله يا عمر؛ فلما نهرها بعض الناس وقالوا لها: مه أغلظت على أمير المؤمنين!! قال لهم عمر: دعوها فهذه خولة بنت ثعلبة التي سمع الله قولها من فوق سبع سموات؛ فعمر أحرى أن يسمع لها.
10/ قام على الأرامل والأيتام، فقضى لهم الحاجات، وفرّج عنهم الكربات، ومن أخباره التي تروى وكأنها قصص خيال لا في عالم الناس:
- روي أن عمر لما رجع من الشام إلى المدينة انفرد عن الناس ليتفقّد أحوالَ الرعية، فمرّ بعجوزٍ في خِباء لها فقصدها، فقالت: يا هذا، ما فعل عمر؟ قال: قد أقبل من الشام سالمًا، فقالت: لا جزاه الله خيرا، قال: ولم؟ قالت: لأنّه ـ والله ـ ما نالني من عَطائه منذ تولّى أمرَ المسلمين دينارٌ ولا درهم، قال: وما يدرِي عمر بحالِك وأنت في هذا الموضع؟! فقالت: سبحان الله! والله ما ظننت أن أحداً يلي على النّاس ولا يدري ما بين مشرِقها ومغرِبها، فبكى عمر وقال: واعمراه، كلّ أحدٍ أفقه منك يا عمر، حتى العجائز. ثم قال لها: يا أمةَ الله، بكم تبيعيني ظلامَتك من عمَر، فإني أرحمه مِنَ النّار، فقالت: لا تستهزئ بنا يرحمك الله، فقال: لست بهزّاء، فلم يزل بها حتى اشتَرَى ظلامتَها بخمسةٍ وعشرين دينارا. فبينما هو كذلك إذ أقبل عليّ بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما فقالا: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فوضعَت العجوز يدَها على رأسها وقالت: واسوأتاه! شتمتُ أميرَ المؤمنين في وجهِه، فقال لها عمر: ما عليك يرحمك الله، ثم طلب رقعةً من جِلد يكتب عليها فلم يجد، فقطع قطعة من مرقعته وكتب فيها: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما اشترى به عمر من فلانة ظلامتها منذ ولي إلى يوم كذا وكذا بخمسة وعشرين دينارا، فما تدّعي عند وقوفه في الحشر بين يدَي الله تعالى فعمر منه بريء. شهد على ذلك علي وابن مسعود)، ثم دفع الكتاب إلى أحدهما وقال: إذا أنا متّ فاجعله في كفني ألقى به ربي. فرحم الله عمر، جمعت له الدنيا فأعرض عنها وزهد فيها، قال معاوية: أما أبو بكر فلم يرد الدنيا ولم ترده، وأما عمر فأرادته الدنيا ولم يرِدها. قال قتادة: كان عمر يلبس وهو خليفة جبّةً من صوف مرقوعا بعضها.
- وعن أبي عثمان النهدي قال: رأيت عمر يطوف بالبيت وعليه جبّة صوف فيها اثنَتا عشرة رقعة.
- وجيء بمال كثير من العراق فقيل: أدخِله بيت المال، فقال: لا وربّ الكعبة، لا يُرى تحت سقفه حتى أقسمه بين المسلمين، فجعل بالمسجد وحرسه رجال من المهاجرين والأنصار، فلما أصبح نظر إلى الذهب والفضة والياقوت والزبرجد والدرّ يتلألأ فبكى، فقال له العباس: يا أمير المؤمنين، ما هذا بيوم بكاء، ولكنه يوم بشرى، فقال: والله، ما ذهبتُ حيث ذهبتَ، ولكنه ما كثر هذا في قوم قطّ إلا وقع بأسهم بينهم، ثم أقبل على القبلة فقال: اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرَجا، فإني أسمعك تقول: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ}
- ولما ذهب إلى الشام ليستلم مفاتيح بيت المقدس ذهب وثوبه مرقع ومعه حمار يتناوب ركوبه هو وغلامه، وجاء عليه الدور ليمشي عند الوصول فأصر على أن يدخل على وجهاء الشام ماشياً وغلامه راكب.
- ولما قدم وفد المسلمين ومعهم الهرمزان – وكان قائداً من قواد كسرى – دخلوا على عمر وقد نام في المسجد وتوسد برنساً كان قد أعده لاستقبال الوفد فجعل الهرمزان يقول: أين عمر؟ قالوا: هو ذا ويخفضون أصواتهم لئلا ينبهوه، وجعل الهرمزان يقول: أين حُجّابه؟ وأين حرسه؟ قالوا: ليس له حجاب ولا حرس ولا كاتب، فقال: هذا ينبغي أن يكون نبياً، فقالوا: إنه يعمل بعمل الأنبياء، وقد أسلم بسبب ذلك الهرمزان.
- وروِي أنّه كان يقسِم شيئاً من بيت المال فدخَلت ابنةٌ له صغيرة فأخذت دِرهما، فنهض في طلبها حتى سقطت مِلحفته عن منكبَيه، ودخلت الصّبيّة إلى بيت أهلها تبكي، وجعلت الدرهم في فمها، فأدخل عمر أصبعه في فمها فأخرج الدرهم وطرحه مع مال المسلمين.
- ولما أصاب الناس هولُ المجاعة والقَحط في عهد عمر كان لا ينام الليل إلا قليلا، وما زال به الهمّ حتى تغيّر لونه وهزل، وقال من رآه: لو استمرّت المجاعة شهورا أخرى لمات عمر من الهمّ والأسى.
- وجاءته يومًا قافلة من مصر تحمل اللحم والسّمنَ والطعام والكِساء، فوزّعها على الناس بنفسه وأبى أن يأكل شيئا، وقال لقائد القافلة: ستأكل معي في البيت، ومنَّى الرجل نفسَه وهو يظنّ أن طعام أمير المؤمنين خير من طعام الناس. وجاء عمر والرجل إلى البيت جائعَين بعد التّعب، ونادى عمر بالطعام فإذا هو خبز مكسّر يابس مع صحنٍ من الزيت، فاندهش الرجل وتعجّب، وقال: لِمَ منعتني من أن آكل مع الناسِ لحمًا وسمنا؟! فقال عمر: ما أطعمك إلا ما أطعم نفسي، فقال الرجل: وما يمنعك أن تأكل كما يأكل الناس وقد وزّعتَ اللحم والطعامَ عليهم؟! قال عمر: لقد آليتُ على نفسي أن لا أذوقَ السمن واللحم حتى يشبعَ منهما المسلمون جميعا.
- ومن ورعه وتقشّفه رضي الله عنه ما روِي من أنّ امرأته اشتهَت الحلوى، فادّخرت لذلك من نفقةِ بيتها حتى جمعَت ما يكفي لصنعها، فلمّا بلغ عمرَ ذلك ردّ ما ادّخرته إلى بيت المال وأنقص من النفقة بقدرِ ما ادّخرت.
أيها المسلمون عباد الله: إن واجباً علينا أن نحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وأن نذكر الموت والبلى، وأن نستحيي من الله حق الحيا، خاصة من ولاه الله الأمر، إني قائل لكل مسؤول: عما قليل ستموت، وعما قريب سيزول ملكك ويذهب سلطانك ويضيع صولجانك، وتنقل من سعة قصرك إلى ضيق قبرك؛ حيث لا ينفعك هناك مال ولا بنون، ولا نواب ولا مساعدون، ولا مكتب ولا فضة ولا ذهب، لا ينفعك إلا عملك ولا ينقذك إلا إخلاصك؛ فالويل ثم الويل لمن كذب على الله {ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة} والويل ثم الويل لمن كذب على الرعية (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر)
أيها المسلمون عباد الله:
كتب الموت على الخلق فكم فلَّ من جيش وأفنى من دول
أين نمرود وكنعان ومن ملك الأرض وولى وعزل
أين عاد أين فرعون ومن رفع الأهرام من يسمع يا خل
أين من سادوا وشادوا وبنوا هلك الكل فلم تغن القلل
أين أرباب الحجا أهل النهى أين أهل العلم والقوم الأول
سيعيد الله كلاً منهم وسيجزي فاعلاً ما قد فعل