1/ روى ابن إسحاق قال: قدم رجل من إراش بإبل له إلى مكة، فابتاعها – أي اشتراها- منه أبو جهل، فمطله بأثمانها، فأقبل الإراشي حتى وقف على نادي قريش، ورسول الله جالس في ناحية من المسجد، فقال يا معشر قريش، من رجل يعديني على أبي الحكم بن هشام؟ فإني غريب وابن سبيل، وقد غلبني على حقي، فقال أهل المجلس: ترى هذا؟ – وأشاروا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما يعلمون ما بينه وبين أبي جهل من العداوة- اذهب إليه، فهو يعديك عليه، يريدون الاستهزاء به، فأقبل الإراشي حتى وقف على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فذكر ذلك له، فقام معه، فلما رأوه قام معه قالوا لرجل ممن معهم: اتبعه فانظر ما يصنع؟! فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى جاءه فضرب عليه بابه، فقال: من هذا؟ قال: «محمد، فاخرج»، فخرج إليهم وما في وجهه قطرة دم، وقد انتقع لونه، فقال: «أعط هذا الرجل حقه» قال: لا تبرح حتى أعطيه الذي له، فدخل، فخرج إليه بحقه، فدفعه له، ثم انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال للإراشي: «الحق لشأنك»، فأقبل الإراشي حتى وقف على ذلك المجلس، فقال: جزاه الله خيرا، فقد أخذت الذي لي!! ولما جاء الرجل الذي أرسلوه ليرى ما يصنع أبو جهل، قالوا له: ويحك ماذا رأيت؟ قال: عجبا من العجب! والله ما هو إلا أن ضرب عليه بابه فخرج وما معه روحه، فقال له: «أعط هذا الرجل حقه» فأعطاه!! ثم لم يلبث أن جاء أبو جهل فلاموه، وقالوا- ساخرين منه-: فو الله ما رأينا مثل الذي فعلت!! فقال: ويحكم، ما هو إلا أن ضرب عليّ بابي، وسمعت صوتا فملئت رعبا! وإن فوق رأسه فحلاً من الإبل ما رأيت مثل هامته، ولا قصرته، ولا أنيابه لفحل قط!!
عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا رَجَعَتْ مُهَاجِرَةُ الْحَبَشَةِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أَلَا تُحَدِّثُونِي بِأَعْجَبَ مَا رَأَيْتُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ؟) قَالَ فِتْيَةٌ مِنْهُمْ: يَا رسول الله بينما نَحْنُ جُلُوسٌ مرَّتْ عَلَيْنَا عجوزٌ مِنْ عَجَائِزِهِمْ، تَحْمِلُ عَلى رَأْسِهَا قُلَّةً مِنْ مَاءٍ، فمرَّت بِفَتًى مِنْهُمْ؛ فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيْهَا ثُمَّ دَفَعَهَا عَلَى رُكبتيها؛ فَانْكَسَرَتْ قُلَّتُها فَلَمَّا ارْتَفَعَتِ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ ثُمَّ قَالَتْ: سَتَعْلَمُ يَا غُدَرُ إِذَا وَضَعَ اللَّهُ الكرسيَّ وَجَمَعَ الْأَوَّلِينَ والآخرين وتكلَّمت الأيدي والأرجل بما كانوا يَكْسِبُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُ أَمْرِي وَأَمْرَكَ عِنْدَهُ غَدًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (صَدَقَتْ ثُمَّ صَدَقَتْ كَيْفَ يُقَدِّسُ اللَّهُ قَوْمًا لا يُؤْخَذُ لضعيفهم من شديدهم)
2/ أيها المسلم من أعظم الأسباب التي نتقي بها جميعًا شر الفتن، ونتقي بها العقوبات الإلهية، أن نحرص على طاعة الله عز وجل، وأن نحذر المعاصي أشد الحذر، وأن نحرص على العدل، وعلى أن نتواصى به فيما بيننا، وأن نأخذ على يد الظالم، وأن ننصر المظلوم، فإن هذا من أعظم الأسباب التي تؤدي إلى قوة بنيان المجتمع وتماسكه وحينئذ لا تزعزعه المحن ولا تضره عوادي الزمن.
إذا فعلنا ذلك وتواصينا بذلك حكامًا ومحكومين ورعاة ورعية فإن هذا من أعظم الأسباب لاتقاء شر الفتن واتقاء غضب الجبار عز وجل فإن الظلم مجلبة لغضب الجبار عز وجل.
وإن عصيان العارف بربه مجلبة لغضب الجبار عز وجل ولعقوبته والعياذ بالله إذا وقع ظلم ثم رفع المظلوم يده يشكو إلى ربه ارتفعت دعوته إلى السماء فتفتح لها أبواب السماء حتى ترفع إلى الجبار عز وجل ليس بينها وبينه حجاب.
فإن شاء حينئذ عز وجل أمهل الظالم حتى يزيده من العذاب، أمهله إلى أجل حتى يزيده من العذاب، وإن شاء أخذه أخذ عزيز مقتدر فهو سبحانه عزيز ذو انتقام، يمهل الظالم ولا يهمله.
وإذا كثر المظلومون في مجتمع ما ولم يجدوا في ذلك المجتمع من ينصرهم ويؤازرهم ولم يجد الظالمون من يردعهم ويضرب على أيديهم إذ كان أفراد ذلك المجتمع لا يتواصون بالعدل ونصرة المظلوم فالخوف كل الخوف حينئذ أن ترتفع دعوات عشرات المظلومين أو مئات المظلومين إلى السماوات فيغضب الجبار عز وجل على ذلك المجتمع كله فيهلكه ويدمره ويسلط عليه عدوه فيمحقه.
3/ لا يكفي أيها المسلم أن تسلم أنت من الظلم فلا تظلم ولا تُظلم بل يجب أن تتواصى مع إخوانك أفراد المجتمع المسلم تتواصوا جميعًا بالعدل ورفع الظلم ونصرة المظلوم والأخذ على يد الظالم، ما مدح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من أمر الجاهلية كما مدح حلف الفضول وأثنى عليه، فقال في الحديث الصحيح (لقد شهدت في دار ابن جدعان حلفاً ما يسرني أن لي به حمر النعم، ولو أدعى إليه في الإسلام لأجبت) وكان سبب ذلك الحلف أن رجلاً من زبيد جاء ببضاعة له إلى مكة فاشتراها منه العاص بن وائل السهمي، وكان ذا شرف وقدر في قومه من قريش؛ فمنعه حقه؛ فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف من قريش فأبوا أن ينصروه؛ فذهب الرجل إلى جبل أبي قبيس وعلاه ثم أنشد شعراً يصف فيه ظلامته وقريش في أنديتها حول الكعبة تسمعه، فسعوا في ذلك سعى منهم الزبير بن عبد المطلب في هذا الأمر واجتمعت هاشم وزهرة وتيم بن مرة اجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان وتعاقدوا وتعاهدوا ليكونن يداً واحدة مع المظلوم على ظالمه حتى يأخذوا له بحقه منه. فسمعت قريش بهذا الحلف فأثنت عليه وآزرته ثم مضى هؤلاء إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه حق هذا الزبيدى.
نعم فلا عجب حينئذ إذا حمى الله تعالى بيته من أبرهة الأشرم الحبشي النصراني إذا حمى بيته وهؤلاء العرب إذ ذاك جيران البيت وفيهم هذه الخصال الكريمة. فيهم هذه الأخلاق الشريفة على الرغم من كفرهم وشركهم، هذه سنة إلهية من سنن الله عز وجل أن الكافر المشرك إذا عدل وأخذ بأسباب العدل كوفئ على عدله في الدنيا إذ لا ثواب له في الآخرة، وأما المسلم إذا ظلم وإذا عصى الله عز وجل فلا يشفع له عند الله شيء فإن الله عز وجل ليس بينه وبين أحد نسب.
4/ في تعريف العدل قال ابن حزم: هو أن تعطي من نفسك الواجب وتأخذه. وقال الجرجانيّ: العدل الأمر المتوسّط بين الإفراط والتّفريط
5/ من صور العدل التي جاءت بها شريعة الإسلام:
– المساواة بين الرّجل والمرأة في أداء الواجبات الشّرعيّة والإثابة عليها.
– المساواة بين الزّوجات في حقوق الزّوجيّة (في حالة التّعدّد).
– المساواة بين الأجناس والأعراق في التّمتّع بالحقوق المشروعة لكلّ منهم.
– المساواة بين الأبناء في الهبة والوصيّة ونحوهما.
– المساواة بين الخصوم في مجالس القضاء وفي سماع الحجّة منهم والقصاص من المعتدي أيّا كانت منزلته.
– المساواة في حقّ الكرامة الإنسانيّة، فلا يؤذى أحد بسبب لونه أو جنسه أو مذهبه أو عقيدته.
– المساواة في حقّ إبداء الرّأي من المسلم وغير المسلم ((قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ)).
– المساواة في حرمة الدّماء والأموال والأعراض.
– المساواة في إيقاع الجزاء بكلّ من ينتهك حدّا من حدود اللّه، فلا يعفى أحد من العقوبة لشرفه أو قرابته من الحاكم فتلك الّتي أهلكت الأمم السّابقة، أمّا في الإسلام فلا أدلّ على المساواة الكاملة في هذه النّاحية من قوله صلّى اللّه عليه وسلّم: «لو أنّ فاطمة بنت محمّد سرقت لقطع محمّد يدها».
– المساواة في نيل الجزاء في الدّنيا والثّواب في الآخرة لكلّ من يعمل عملا صالحا.
– المساواة بين المسلمين في الحضور لأماكن العبادة كالمسجد الحرام وغيره
5/ من الأمثلة التطبيقية في حياة النبي صلى الله عليه وسلم التي تبين حبه للعدل:
- عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: يا ابن أختي (لعروة بن الزّبير) كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لا يفضّل بعضنا على بعض في القسم، من مكثه عندنا، وكان قلّ يوم إلّا وهو يطوف علينا جميعا، فيدنو من كلّ امرأة من غير مسيس حتّى يبلغ إلى الّتي هو يومها فيبيت عندها، ولقد قالت سودة بنت زمعة حين أسنّت، وفرقت أن يفارقها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: يا رسول اللّه، يومي لعائشة، فقبل ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم منها قالت: تقول في ذلك أنزل اللّه تعالى وفي أشباهها – أراه قال – {وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً …}
- عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقسم فيعدل، ويقول: «اللّهمّ هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» يعني القلب
- عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا خرج أقرع بين نسائه، فطارت القرعة على عائشة وحفصة، فخرجتا معه جميعا. وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا كان باللّيل سار مع عائشة يتحدّث معها، فقالت حفصة لعائشة: ألا تركبين اللّيلة بعيري، وأركب بعيرك، فتنظرين وأنظر؟ قالت: بلى. فركبت عائشة على بعير حفصة، وركبت حفصة على بعير عائشة. فجاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى جمل عائشة، وعليه حفصة، فسلّم ثمّ سار معها حتّى نزلوا فافتقدته عائشة فغارت. فلمّا نزلوا جعلت تجعل رجلها بين الإذخر وتقول: يا ربّ سلّط عليّ عقربا أو حيّة تلدغني، رسولك ولا أستطيع أن أقول له شيئا
- عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه قال: إنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كان عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمّهات المؤمنين مع خادم بقصعة فيها طعام، فضربت بيدها فكسرت القصعة، فضمّها، وجعل فيها الطّعام وقال: «كلوا» وحبس الرّسول والقصعة حتّى فرغوا، فدفع القصعة الصّحيحة، وحبس المكسورة
6/ كتب بعض عمّال عمر بن عبد العزيز إليه: أمّا بعد، فإنّ مدينتنا قد خربت، فإن رأى أمير المؤمنين أن يقطع لها مالاً يرمّها به فعل. فكتب إليه عمر، “أمّا بعد، فقد فهمت كتابك وما ذكرت أنّ مدينتكم قد خربت، فإذا قرأت كتابي هذا فحصّنها بالعدل، ونقّ طرقها من الظّلم، فإنّه مرمّتها”
7/ قد سرَّ كل منصف ما كان من قرار المحكمة العليا من إعادة المفصولين من الخدمة بأمر تلك اللجنة الكاذبة الخاطئة التي يقوم عليها أناس موتورون؛ وقد أعطت نفسها جميع السلطات؛ فصارت هي الخصم والحكم، تحدد المذنب – من وجهة نظر أعضائها القاصرة القائمة على التشفي والأحقاد؛ ثم بعد ذلك تشهر بهم في أجهزة الإعلام وتصفهم بكل نقيصة، ثم تباشر فصلهم، ولربما تصادر ممتلكاتهم وتنكل بهم، مما يترك أثراً سيئاً في نفوس أولئك ونفوس أزواجهم وذرياتهم وأرحامهم وأحبابهم، وتمنع الاستئناف فلا معقب لأحكامها.
قد عاش الناس في آثار ذلك الظلم حولين كاملين؛ منهم من فقد وظيفته، ومنهم من صودر ماله، ومنهم من ألقي – ولا يزال – في غياهب السجن، وهذه اللجنة باشرت إغلاق منظمات خيرية وأخرى دعوية كانت تبذل المعروف للناس، وأغروا الناس بعضهم ببعض؛ حتى وجد كل لئيم وصاحب غرض فرصة ينال بها من فضلاء الناس وأكابرهم؛ ثم لم تمض الأيام حتى ثبت للناس أن كثيراً من هؤلاء الذين يدعون شرفاً وأمانة وأنهم جاؤوا لرفع الظلم وإحقاق الحق ليسوا إلا لصوصاً متغلبين، وأنهم ينفِّسون عن أمراض نفسية وعاهات خلقية حين يتهمون غيرهم بما هو فيهم، وكما قيل:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدق ما يعتاده من توهم