1ـ رحل العام، ورحل فيه آخرون، رحل رجل كان يبني المجد، وآخر يبحث في هوى النفس، وكلاهما رحل، رحل رجل بنى بعروسه ولم يدخل بها، وآخر بدأ في بناء بيته ولم يسكنه، وثالث ينتظر وظيفته أو تخرجه، ورابع، وخامس رحلوا وهم غارقون في الأمنيات، لاهون في معترك الحياة، كانوا يأملون أن الحياة أفسخ من أحلامهم، وأكبر من أمنياتهم، ونسوا أنها أضيق على قوم من ثقب أبره، وأنها مليئة بكثير من المفاجآت، رحلوا ولا زالت أيديهم لم تمتلئ من الدنيا بعد. لكنهم رحلوا، رحل من هؤلاء من سطّر كلمته وكتب اسمه بحروف من ذهب، وأشهد التاريخ أنه مر في ذاكرة الأيام وهذه آثاره، ورحل آخرون دون أن يعرفهم أحد، ولدوا صغاراً، وعاشوا صغاراً، ورحلوا حين رحلوا وهم صغار، وثمة سؤال يبعثه الوداع: كم هم الذين أهيل عليهم التراب من أهلينا؟ أما سألت الأيام كم حفظت لهم الأرض من آثار؟ وكم حفظت لهم المجالس من أقوال؟ ثم ماذا؟ هاهم هناك في بيوت أخرى، معالم مختلفة، ومآثر قديمة، لم يبق من آثارهم إلا ذكر فقط، ولم تبق من معالمهم إلا أجر أو وزر. وهكذا هي الأيام!
2ـ لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان حين يرحل من الدنيا ينتقل معه إلى قبره ثلاثة “ماله، وولده، وعمله، فيرجع المال والولد، ويبقى العمل”. فإذا كان هذا هو حال الدنيا، وليس للراحلين منها إلا أعمال البر، فإن الوقت مناسب جداً لحسابها والتفتيش عن أخطائها، والوقوف معها وقفة معاتب صادق في الخلاص من عذاب الله تعالى لها غداً؟ إننا نقدم على الله تعالى في عرصات القيامة فلا نجد عدلاً أوسع من أن نأخذ كتاباً دُوّنت فيه أعمالنا، كتاباً حَفِظَ الزلات، ورَصَدَ الخطيئات، ودوّن صغائر الأمور قبل عظائمها، قال الله تعالى {ووضع الكتب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولونا يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً} إننا نقدم على الله تعالى فإذا بنا بين طيات أعمالنا، ولا تتصوّر حال أولئك المذنبين حين يصوّر الله تعالى حالهم، قال تعالى {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً يحذركم الله نفسه} فيا لله لو رأيتهم وذل المعصية يكتنف قلوبهم، وهول الموقف يعصف بآمالهم!
الأعوام تتصرّم، والأيام تتوالى، والأقدار مجهولة، ولا ندري متى نقدم على الله تعالى؟ فما أحرانا بوقفة صادقة نستجلي فيها حياتنا، ووقفاتنا، وأعمالنا. وقفة نتأمّل فيها دقائق أعمالنا وصغائر أخطائنا. إن الموقف بين يدي الله تعالى يوم القيامة عظيم، يربح فيه الرابحون المحاسبون لأنفسهم، ويخسر فيه المفرطون، عرض الله تعالى صورة الرابحين يوم القيامة، وجزاؤهم بين يديه فقال تعالى {هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مئاب + جنّت عدن مفتحتة لهم الأبواب + متكئين فيها يدعون فيها بفكهة كثيرة وشراب + وعندهم قاصرات الطرف أتراب + هذا ما توعدون ليوم الحساب + إن هذا لرزقنا ماله من نفاد} وعرض حال أهل الخسارة ومواقف الندم، فقال تعالى {هذا وإن للطاغين لشر مآب + جهنّم يصلونها فبئس المهاد + هذا فليذوقوه حميم وغسّاق + وآخر من شكله أزواج} وصوّر الله تعالى خسارتهم، وأنها تظهر على وجوههم، وتلوّث أجسادهم فقال تعالى )ويوم القيمة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنّم مثوى للمتكبرين( وعرض صورة من صور فوز المتقين فقال تعالى )وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا مسهم السوء ولا هم يحزنون(
إن المسؤولية عظيمة جداً، وأيام الدنيا من حاسب نفسه فيها، وعرف طريقه، كان إلى الفوز أقرب من الخسارة، ولقي من النعيم ما ينسيه معالم الدنيا كلها. ومن آثر هذه الحياة، ونسي حساب الله تعالى وقع في المهالك، وخسر خسارة المفرطين. قال تعالى {فأما من طغى + وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى + وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى + فإن الجنة هي المأوى}
3ـ إن الموقف بين يدي الله تعالى عظيم، ولك أن تتصوّر اليوم الواحد في عرصات القيامة بخمسين ألف سنة قال تعالى {تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة} إنه اليوم الذي تتعرّض فيه كل المعالم للخراب والدمار، ويبقى حسابك واقعاً حتمياً، قال تعالى {يوم تكون السماء كالمهل + وتكون الجبال كالعهن + ولا يسأل حميم حميماً + يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يًومِئذ ببنيه + وصحبته وبنيه + وفصيلته التي تؤويه + ومن في الأرض جميعاً ثم ينجيه}
إن مواقف الحسرة للمفرطين تبدو في جوارحهم التي حرصوا على نعيمها تشهد عليهم في مواقف الحسرات، وتفضحهم في مواطن الهلكة والنهايات، قال الله تعالى {ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهو يوزعون + حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصرهم وجلودهم بما كانوا يعملون + وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون}
كيف يهنأ مسلم دون أن يحاسب نفسه؟ وهو يعلم أن مثاقيل الذرة محسوبة عليه، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، قال تعالى {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره + ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره}
4ـ لنحاسب أنفسنا فإنا سَنُكلّم ربنا ليس بيننا وبينه ترجمان، قال صلى الله عليه وسلم (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدّم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة) لنحاسب أنفسنا لأن أقدامنا لن تزول من مواقف الحساب إلا بعد سؤال دقيق عظيم، يقول صلى الله عليه وسلم (لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره في ما أفناه، وعن شبابه في ما أبلاه، وعن علمه في ما عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه) ويقول صلى الله عليه وسلم (والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى)
5ـ كان السلف الصالح رضوان الله عليهم يقولون: من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان يومه شراً من أمسه فهو ملعون، ومن لم يتفقد الزيادة في عمله فهو في نقصان، ومن كان في نقصان فالموت خير له. اسمع إلى هذا النداء: يا أبناء العشرين! كم مات من أقرانكم وتخلفتم؟! ويا أبناء الثلاثين! أصبتم بالشباب على قرب من العهد فما تأسفتم؟ ويا أبناء الأربعين! ذهب الصبا وأنتم على اللهو قد عكفتم!! ويا أبناء الخمسين! تنصفتم المائة وما أنصفتم!! ويا أبناء الستين! أنتم على معترك المنايا قد أشرفتم، أتلهون وتلعبون؟ لقد أسرفتم!! ويا أبناء السبعين! ماذا قدمتم وماذا أخرتم!! يا أبناء الثمانين! لا عذر لكم. ليت الخلق إذ خلقوا عملوا لما خلقوا وتجالسوا بينهم فتذكروا ما عملوا، ألا أتتكم الساعة فخذوا حذركم، فيا من كل ما طال عمره زاد ذنبه، يا من كلما أبيض شعره بمرور الأيام، اسود بالآثام قلبه.
6ـ من عرف حق الوقت، فقد أدرك قيمة الحياة، فالوقت هو الحياة، وحينما ينقضي عام من حياتنا، ويدخل عام جديد، فإنه لا بد وقفة محاسبة طويلة. نحاسب أنفسنا على الماضي وعلى المستقبل من قبل أن تأتي ساعة الحساب. لا بد من وقفة محاسبة: نندم فيها على ما ارتكبنا من أخطاء. لا بد من وقفة محاسبة: نستقبل فيها العثرات. لا بد من وقفة محاسبة: ننهض فيها ونستدرك ما فات. قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون + ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون} وقال صلى الله عليه وسلم (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني) ويقول سيدنا عمر رضي الله عنه (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم، وتزينوا للعرض الأكبر، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية)