1ـ حكمة الشرع في جعل العبادات على أنواع مختلفة؛ فمنها ما هو بدني ومنها ما هو مالي، ومنها ما يكون فعلاً ومنها ما يكون تركا؛ ثم إنها على هيئات شتى؛ مفروضة ومسنونة؛ ليسهل على المكلف الإتيان بها
2- ومن أعظم هذه العبادات قيام الليل الذي أثنى الله على أهله فقال جل من قائل: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} أي: تهجد بالقرآن الذي أنزله الله تعالى عليك. أي: بهذا القرآن. أخبر بأنه ينزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين، وأن المصلين مأمورون بأن يتهجدوا بهذا القرآن؛ فالتهجد: هو الصلاة في الليل. ومن الأدلة على فضل قيام الليل قوله تعالى في صفة عباد الرحمن {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} إلى قوله {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} يعني: يقطعون الليل. يقطعون ليلهم في هذا العمل {سُجَّدًا وَقِيَامًا} اقتصر على السجود؛ لأنه أفضل أركان الصلاة، ثم على القيام؛ لأنه أطولها. والسجود فيه: الدعاء، والذكر. والقيام فيه: قراءة القرآن، وفيه التأمين على قراءة الفاتحة. هكذا مدحهم أنهم ثم ذكر فضلهم، وذكر جزاءهم، فقال في آخر الآيات {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا} وفي آية أخرى وصفوا بقوله تعالى {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ # آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ # كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ # وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} {قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} الهجوع: هو النوم يعني لا ينامون إلا قليلا، لا ينامون في الليل إلا جزءً يسيرا بقية الليل، ماذا يفعلون؟ يصلون، ويتهجدون، ويركعون ويسجدون، ويتلذذون بهذه الصلاة التي يحبها الله تعالى. وإذا كان في آخر الليل جلسوا يستغفرون أي يستغفرون ربهم، يُحسون بأنهم لم يقوموا بما يلزمهم، كأنهم مذنبون في ليلهم؛ فيختمون ليلهم بالاستغفار كما أمروا بذلك، أو كما مدحوا بذلك في آية أخرى؛ ففي قول الله تعالى {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ}؛ يعني: أنهم في آخر الليل يستغفرون. كيف ذلك مع أنهم طوال ليلهم وهم يصلون؟ إذا جاء في آخر الليل يقولون: ربنا اغفر لنا.. ربنا اغفر لنا.. ربنا اغفر لنا. نستغفرك ونتوب إليك من تقصيرنا ومن إساءتنا ومن نقصنا. هكذا كانت حالتهم؛ ليلهم في تهجد، وآخر ليلهم في استغفار. هذا -بلا شك- مدح لمثل هؤلاء.
3- أيها المسلمون: إن صلاة الليل هي علامة الإخلاص لله تعالى؛ قال قتادة رحمه الله: “كان يقال: ما سهر الليل منافق” وهي دواء لأمراض القلوب؛ قال يحيى بن معاذ رحمه الله تعالى: دواء القلب خمسة أشياء: (قراءة القرآن بالتفكر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين).
4- وكان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسـلم يصلي بالليل حتى تتفطر قدماه، ويقرأ القرآن وصدره يغلي كأزيز المرجل، قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه:
وفينا رسول الله يتلو كتابه إذا انشق معروف من الفجر ساطع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضـــــاجع
5- وهكذا كان الصحابة رضي الله عنهم فهذا عليٌّ رضي الله عنه صلى بالناس الفجر ثم التفت عن يمينه ومكث كأن عليه كآبة يسبح ويهلل حتى إذا كادت الشمس تطلع قلّب يده وقال: لقد رأيت أثر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلم أرَ أحداً يشبههم!! والله إن كانوا ليصبحون شعثاً غبراً صفراً بين أعينهم مثل ركب المعزى، قد باتوا يتلون كتاب الله، يراوحون بين أقدامهم وجباههم، إذا ذكر الله مادوا كما تميد الشجر في يوم ريح، تنهمل أعينهم بالدموع حتى تبلّ والله ثيابهم، والله لكأني بالقوم باتوا غافلين!!
ومعاذ بن جبل رضي الله عنه كان إذا جنَّ الليل قال: اللهم نامت العيون، وغارت النجوم، وأنت حيٌ قيوم، اللهم طلبي للجنة بطيء، وهربي من النار ضعيف، ويبكي ويصلي. ولما حضره الموت سأل هل طلع الفجر؟ فقيل: لا. ثم سأل؛ فقيل: نعم. فقال: أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار.. اللهم إني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك
6- وقد قال القائل: إن لله عباداً فطناً. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا. نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطناً. جعلوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا.
لله قوم أخلصوا في حبه. فرضي بهم واختصهم خداما
قوم إذا جن الظلام عليهم. باتوا هنالك سجدا وقياما
خمص البطون من التعفف ضمَّرا. لا يعرفون سوى الحلال طعاما
7- النصوص جاءت متكاثرة في الأمر بصلاة الوتر؛ كقوله صلى الله عليه وسلم من رواية عليٍّ رضي الله عنه (يا أهل القرآن أوتروا؛ فإن الله وتر يحب الوتر) رواه النسائي والترمذي وحسنه والحاكم وصححه، وعن أبي أيوب رضي الله عنه (الوتر حقٌّ على كلِّ مسلم) رواه النسائي، وعن بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الوتر حقٌّ فمن لم يوتر فليس منا)