1- ثبت في سنن الترمذي بسند حسن من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن البني صلى الله عليه وسلم قال: [لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره من الله تعالى وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه] [وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه] فما أصابك هو بقدر الله ولا يمكن أن يزول عنك. [وما أخطأه لم يكن ليصيبه] فلو فاتك شيء محمود كنت تمناه فقل قدر الله وما شاء فعل لأنه لم يكتب لك في هذا الوقت وقد يكتب لك فيما بعد وقد لا يكتب لك بل لأحد غيرك أيضاً فلن تستطيع أن تنال وتحصل ما فاتك مهما حاولت ولهذا كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام والحديث في المسند وسنن الترمذي وغيرهما – قال لابن عباس عندما كان رديفه: […. واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، رفعت الأقلام وجفت الصحف] فإذن ما كتبه الله لك وجعله من نصيبك لن يذهب إلى غيرك، وما كتبه لغيرك وجعله من نصيبه لا يمكن أن تناله وتحصله مهما حاولت.
يقول الله تعالى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} لقد اشتملت هذه الآية على عدة صفات لله عز وجل: كصفة العلم، وصفة القدرة، فلا يكون غالباً على أمره إلا إذا كان عالماً بما يئول إليه الحال، ولا يكون غالباً على أمره إلا إذا كان قادراً على إمضاء ما يريد، وهذا هو سر القضاء والقدر: العلم والقدرة.
2- لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم في هذا الباب نسيج وحدهم، ليس لهم نظير؛ لاستقامة فهمهم، واستقامة عربيتهم، فما كانوا يسمعون القرآن سماع الأعاجم، ولا كانوا يسمعون كلام النبي صلى الله عليه وسلم سماع الأعاجم، ففي الصحيحين من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ندفن جنازةً في بقيع الغرقد، وكان بيده عود، فجعل ينكت في الأرض بذلك العود، ثم قال: ما من نفسٍ منفوسة إلا كتب مقعدها من الجنة ومقعدها من النار، فقال سراقة بن مالك: يا رسول الله! أهذا أمرٌ مضى وانقضى أم لأمرٍ مستأنف؟ قال: بل لأمرٍ مضى) وفي الرواية الأخرى: (قالوا: يا رسول الله! ففيم العمل؟)، طالما أن كل إنسان قد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار قبل أن يخلق الله السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وقدر الله مقادير الخلائق، وجرى القلم بما كان وما يكون إلى قيام الساعة قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة إذاً ففيم العمل؟ قال: (اعملوا فكل ميسرٌ لما خلق له، فأما من كان من أهل السعادة، فسييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فإنه ييسر لعمل أهل الشقاوة. ثم تلا قوله تبارك وتعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} قال سراقة: فما أجدني أحرص على العمل مني الآن) هذا هو استقامة الفهم، قال: ما أجد حافزاً لي على الجد في العمل وطلب رضوان الله مثل الآن.
{كان عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه يجالس أبا الأسود الدؤلي، وفي أحد الأيام قال عمران لـ أبي الأسود يا أبا الأسود! أرأيت ما يعمله الناس، وما يكدحون فيه؛ أهو في أمر قد قُضي عليهم ومضى، أو فيما يستقبلون مما قامت عليهم به الحجة وبلغهم نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟}. فهذا الصحابي يمتحن التابعي، ويقول: هذه الأعمال التي يعملها الناس الآن من طاعات أو معاصي هل هي أمر قد قُضي ومضى وكتب عليهم قبل أن يوجدوا أم فيما يستقبلون مما قامت عليهم به الحجة وبلّغهم إياه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فوضعه موضع الامتحان. قال أبو الأسود: {قلت: لا. بل فيما قد قُضي ومضى، فقال له عمران: وكيف يجازيهم على ذلك؟} أي: إذا كان قد قضى ذلك وكتبه فكيف يجازيهم على ذلك. {فقال أبو الأسود: ففزعت لذلك فزعاً شديداً، وقلت: سبحان الله! {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} هو ربهم وهو خالقهم! فطمأنه عمران رضي الله عنه وقال: إنما سألتك لأحزر عقلك}، أي: لأختبرك، هل أنت متمكن من الإيمان وقوي أم أنه لو جاءتك شبهة لذهبت بك يميناً أو شمالاً؟ ثم قال عمران: {أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلان -وفي رواية رجل من مزينة- فقال له: يا رسول الله! أرأيت ما يعمل فيه الناس ويكدحون، أفيما قد قُضي ومضى، أم فيما يستقبلون به مما قامت عليهم به الحجة وبلغه نبيهم؟ فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بل فيما قد قضي ومضى}.
3- اختصاص الله تعالى بعلم مآل الأحوال، إن الإيمان بالقضاء والقدر لا يكون إلا مجملاً؛ لأن حكمة الله لا تدركها العقول.
فهذا موسى عليه السلام مع كونه نبياً مرسلاً من أولي العزم، وهو أكثر الأنبياء ذكراً في القرآن المجيد، عندما اتبع الخضر فقتل الغلام أنكر عليه: {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا}، وفي القراءة الأخرى: ((زاكيةً))؛ لكن الله عز وجل الذي علَّم الخضر هذه الأمور التي حجبها عن موسى -وهو العليم الذي يعلم مآل الأحوال وما تصير إليه- قضى بأنه إن عاش هذا الغلام سيكون كافراً، وحينها سيرهق أبويه طغياناً وكفراً.
من الذي يمكن أن يطلع على هذه النتيجة؟ من الذي يقول: إن فلاناً سيختم له بشقاء أو بسعادة؟ كون الإنسان لا يملك علم معرفة المآل؛ لا يجوز له الاعتراض بظهور الحال، فإن العبرة بالمآل، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالخواتيم)، فلو صام الإنسان يوماً طويلاً، وقبل المغرب بوقت قليل شرب الماء، لبطل صوم يومه، وكذلك قبل أن يسلم من صلاته، لو أحدث لبطلت صلاته.
إذاً: (إنما الأعمال بالخواتيم)، والخاتمة محجوبة، ومن مذهب أهل السنة والجماعة: أن لا نشهد لمعينٍ بجنة ولا نار، فلا نقول: فلان: من أهل النار، حتى لو كان مشركاً أو يهودياً أو نصرانياً، إلا أن تذكر النتيجة مقيدة، كأن يقال: فلان النصراني من أهل النار إن مات على ذلك، ذكر ذلك ابن كثير رحمه الله تعالى واستدل بقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ}، هذا هو الشرط؛ لاحتمال أن تتدارك رحمة الله عز وجل هذا النصراني فيسلم قبل أن يموت، إذاً: الذي ظهر كفره بجلاء لا تُعرف خاتمته، فإذا كان العبد يجهل الخاتمة فكيف له أن يحكم وعلمه ناقص؟! روى البخاري وغيره من حدث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافراً)، أي: خلقه الله كافراً، والخضر لو لم يعلمه الله عز وجل لما علم الحقيقة؛ بل لم يعلمها موسى الكليم، الذي هو من أولي العزم، فلذلك لا ينبغي للعبد أن يحكم على المآل بظهور الحال.
4- من الأمثلة على أمور ظنها أهلها خيراً فبانت شرا ما كان من فرعون وقومه {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا} ومثله ما كان من بعض الرماة يوم أحد حين فزعوا لجمع الغنائم مع إخوانهم وفارقوا أماكنهم فكانت العاقبة هزيمة للمسلمين قتل فيها سبعون من الأخيار، وجرح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سال الدم من وجهه الشريف.
5- من الأمثلة على أمور ظنها أهلها شرا فكان مآلها خيرا ما كان من شأن نبي الله يوسف عليه السلام، وما كان من شأن نبي الله موسى عليه السلام، وما كان من شأن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك، وما كان من شأن الصحابة يوم بدر حين ودوا أن تكون غير ذات الشوكة تكون لهم؛ لكن الله تعالى أراد أن يمنحهم أكتاف المشركين وأن يحق الحق بكلماته ولو كره المجرمون.
6- وهناك فرقة تنتسب إلى الإسلام اسمها: (القدرية)، أي: نفاة القدر، وقد ظهرت هذه الفرقة في البصرة في أواخر عهد الصحابة، كما في صحيح مسلم من حديث حميد بن عبد الرحمن الحميري ويحيى بن يعمر قالا: (خرجنا حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نسأله عما أحدث معبد الجهني من القول بالقدر، قال: فوفق لنا عبد الله بن عمر داخلاً المسجد، فاكتنفناه، فقلت له: يا أبا عبد الرحمن! إنه ظهر قبلنا ناسٌ يقرءون القرآن ويتقفرون العلم)، وذكر من شأنهم، ومن عبادتهم وجدهم واجتهادهم، قال: (وأنهم يقولون: إنه لا قدر، وأن الأمر أنف)، أي: مستأنف، أو أن الله لا يعلم الفعل إلا بعد وقوعه، قال عبد الله بن عمر: (فإذا لقيت هؤلاء فأخبرهم أنني بريء منهم وهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر! لو أن لأحدهم ملء الأرض ذهباً ما قبل الله عز وجل منه حتى يؤمن بالقدر)، ثم ساق الحديث وفيه أركان الإيمان: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره حلوه ومره.
7- الالتفات إلى الأسباب وحدها قدح في التوحيد، وتركها مصادم للعقل؛ وقد أشار الله عز وجل في عجز هذه الآية إلى شيء في غاية الأهمية، قال تعالى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}، إشارة إلى استكانة العباد إلى الأسباب، والإنسان بمجرد أن يبدأ بالعمل ويأتي بالأسباب على كمالها، يعتقد أن العمل لا بد أن يكون.
أكثر الناس لا يعلمون أن الله غالب على أمره؛ ولذلك يتقن الشيء ويظن أنه لا بد أن يحصل على مرامه، ولكن هيهات! قد يكون السبب قوياً وله صلاحية؛ ولكنه لا يصيب، كالمطر هل يكفي في إخراج البذر والنبات؟ لا يكفي، حتى تأتي الرياح، ولا تكفي الرياح حتى تنتفي الآفات عن الزرع إذاً لا بد من وقوع أسباب وانتفاء موانع. وانظر إلى الرجل والمرأة: امرأة لا عيب فيها، ورجل لا عيب فيه، ورغم ذلك لا ينجبان، فمن ظن أنه بمجرد إنزال الماء يحصل الولد فهو جاهل، فكم من رجل أنزل ولم ينجب! وتحمل المرأة ولا يتم حملها، فلا بد من انتفاء الموانع. إن الالتفات إلى الأسباب مسألة خطيرة جداً تقدح في التوحيد، كما قال بعض السلف: (الالتفات إلى الأسباب شرك، وترك الأسباب بالكلية قدحٌ في التشريع).
وفي قصة مريم عليها السلام أبلغ العبرة، فإن الله عز وجل قد يرزق العبد بدون أن يبذل أي سبب، وقد لا يرزق العبد إلا بسبب ولو كان تافهاً، فتحصيل الثروة العظيمة لا يشترط لها الجد والاجتهاد؛ بل قد تأتي بأدنى سبب، فهاهي مريم عليها السلام صحيحة، والأسباب متوفرة لديها لكسب القوت، ومع ذلك: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}، بغير سبب! مع أنها مستطيعة، وليس بها مرض، فمن الممكن أن تكسب قوتها، ومع ذلك جاءها الرزق بلا سبب، فلما حملت وولدت وكانت في أشد حالات الضعف قال لها: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا}، وفي قراءة أخرى (تسَّاقط)، ولفظ (تسَّاقط) يدل على كمية التمر الكبيرة التي نزلت عليها بهذه الهزة، وكان الأولى ألا تبذل السبب؛ لضعفها، فرزقها الله بدون سبب، وهي في كامل صحتها، فلما خارت قواها قال لها: هزي!
9- القدر ينقسم إلى قسمين: حلو ومر. وينقسم كذلك إلى: خير وشر.
فيمكن أن نقسمه إلى أربعة أقسام: القسم الأول: قدر خير حلو، مثل الأعمال الصالحة السهلة، كقوله صلى الله عليه وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) , فإذا استيقظ الإنسان في جوف الليل فقال: (سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم) وهو مؤمن فهذا قدر له هذا الأمر، وهو خير قطعاً؛ لأن له ثواباً في الآخرة، وهو حلو لأنه لا يخالف هواه.
القسم الثاني: قدر خير مر: مثل الإنسان الذي تصيبه مصيبة فيكفر الله عنه بها خطيئة، مؤمن أصابته مصيبة فكفرت عنه خطيئة، فهذا من قدر الله وهو خير له؛ لأنه كفر عنه خطيئة، ولكنه مر؛ لأنه يكره المصائب.
القسم الثالث من أقسام القدر: قدر شر مر -نعوذ بالله- مثل أن يصيب الله الكافر بغضبه وسخطه، فتحل عليه صاعقة من السماء فتحرقه، فهذا قدر الله المر، فهو يكرهه وهو شر له.
الرابع: قدر شر حلو: مثل الاستدراج، يستدرج الله الكفار بما يعطيهم من الأموال والأولاد، وهذا من قدر الله، وهو شر لهم؛ لأنه يزيد في عقوبتهم ويزيد في إغوائهم وبعدهم عن الله، ولكنه حلو؛ لأنه موافق لأهوائهم، فهذه هي أقسام القدر الأربعة، خيره وشره حلوه ومره، فهي أربع صور.