– ففي مثل هذه الأيام التي تشتد فيها الظلمات ويعظم فيها الخطب ويتتابع على المسلمين الكرب يلتفت بعض الناس يميناً وشمالاً فماذا يرون؟ يرون أمة الإسلام وقد سفكت دماؤها وانتهكت أعراضها واستبيحت حرماتها واحتلت ديارها وانتقصت أرضها من أطرافها؛ فيسيء بعض الناس الظن بربه ويطرح أسئلة مفادها: أين نصر الله لأوليائه؟ أين خذلانه لأعدائه؟ أين موعوده لأهل طاعته؟ أين وعيده لأهل معصيته؟ ويظهر المنافقون المفترون على الله الكذب فيقررون أن هذه كلها خرافات وأوهام وأن الغلبة للقوة المادية وحدها، ولا اعتبار للغيبيات البتة، وها هنا لا بد من التذكير يجملة من الحقائق الإيمانية والشواهد التاريخية:
أولها: إن يقيننا أن الله تعالى وسع كل شيء رحمةً وعلما، ورحمته جلَّ جلالُـه تقتضي إيصال المنافع لعباده ودفع المضار عنهم، إن ربنا سبحانه رحيم بنا وإن عظم بلاؤه لنا، رحيم بنا وإن بدا لمن لا يقدره حق قدره خلاف ذلك، وقد رأينا من أحوال الناس ما يقرِّب هذه المعاني؛ فهذا الوالد يقسو على ولده ويحمله حملاً على أن يبقى الساعات الطوال مذاكراً دروسه مقبلاً على كتبه وما فعل ذلك إلا رحمة به وشفقة عليه، وهذا الطبيب الرحيم يحمل المريض على تجرع الدواء المر أو تناول الحقن الموجعة، بل ربما أعمل مشرطه في جسد المريض تقطيعا، وما يفعل ذلك إلا رحمة به وطلباً لبرئه وشفائه؛ فأرحم الناس بك من شقَّ عليك في إيصال مصالحك ودفع المضار عنك، ولهذا كان من رحمة أرحم الراحمين تسليط أنواع البلاء على عباده المؤمنين من القتل والتعذيب والأسر والحبس والتهجير والجوع والخوف ونحو ذلك من البلايا؛ ليستخرج منهم الدعاء وليأجرهم على ما أصابهم في دين الله تعالى أجراً موفورا
– وأبين دليل على ذلك أن أكثر من يعذَّبون في دينهم هم الأنبياء وأتباعهم وهم أحبابُ الله تعالى وأولياؤه، وقد جاء في الأثر أن المبتلى إذا دعي له (اللهم ارحمه) يقول الله سبحانه: (كيف أرحمه من شيء به أرحمه) وفي سنن الترمذي من حديث قتادة بن النعمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله علـيه وسلم قال (إذا أحبَّ الله عبداً حماه الدنيا كما يظل أحدُكم يحمي سقيمَه الماء)
ثانيها: إن ناساً يرون ويسمعون ما يصيب أهل الإيمان من المصائب وما ينال كثيراً من الفجار والكفار والظلمة في الدنيا من الجاه والتمكين والمال فيعتقد أن النعيم في الدنيا لا يكون إلا للكفار والفجار، ويعتقد أن العزة والنصر في الدنيا مستمرٌّ للكفار والمنافقين، وهذا سوء ظن بالله الذي قال {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} وقال {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي} وقال {وإن جندنا لهم الغالبون} وقال {والعاقبة للمتقين} وقد كان بعض الملاحدة يخرج بأصحابه إلى أهل البلاء من المجذومين والمجانين فيقولون: انظروا أحرم الراحمين يفعل مثل هذا!!
إن هذه الظنون الفاسدة التي ينطق بها المنافقون ويكتمها بعض ضعاف الإيمان مبنية على مقدمتين فاسدتين:
أولاهما: حسن ظن العبد بنفسه واغتراره بعمله، واعتقاده أنه قائم بأمر الله عز وجل، وفي الوقت نفسه علم الله من حاله أنه مسيء عاصي مذنب مقصر مخطئ؛ لكن المسكين لا ينظر إلى إساءته وتقصيره؛ فأقعده ذلك عن محاسبة نفسه وتوبته من ذنوبه بل أوصله إلى الغرور بعمله
المقدمة الثانية: اعتقاده أن الله تعالى لا يؤيد صاحب الدين الحق وينصره، بل يعيش عمره مقهوراً مستضاماً مع قيامه بأمر الله ظاهراً وباطناً، وانتهائه عما نهى الله عنه ظاهراً وباطنا؛ فأقعدهم ذلك عن نصرة إخوانهم المسلمين لاعتقادهم أن حظَّ المؤمنين في الدنيا العذاب والبلاء كما أن حظ الكافرين النصر والتمكين والغلبة والنعيم
5- ألا فاعلموا أيها المسلمون أن للنصر أسباباً لا بد من استكمالها، وأن تأخيره لحكم عظيمة يعلمها ربُّ العباد جل جلالـه:
- إن حقيقة الانتصار إنما تكون بالثبات على المبدأ وعدم إعطاء الدنية في الدين، ولكم أن تتأملوا أيها المسلمون في قوله تعالى {إلا تنصروه فقد نصره الله} متى نزلت هذه الآية؟ وفيم نزلت؟
- قد يبطئ النصر لأن بنية الأمة المؤمنة لم تنضج بعد نضجها، ولم يتم بعدُ تمامها، ولم تحشد بعدُ طاقاتها، ولم تتحفز كل خلية وتتجمع لتعرف أقصى المذخور فيها من قوى واستعدادات؛ فلو نالت النصر حينئذ لفقدته وشيكاً لعدم قدرتها على حمايته طويلاً!!!
- وقد يبطئ النصر حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة، وآخر ما تملكه من رصيد، فلا تستبقي عزيزاً ولا غالياً، لا تبذله هيناً رخيصاً في سبيل الله.
- وقد يبطئ النصر حتى تجرب الأمة المؤمنة آخر قواها، فتدرك أن هذه القوى وحدها بدون سند من الله لا تكفل النصر. إنما يتنزل النصر من عند الله عندما تبذل آخر ما في طوقها ثم تكل الأمر بعدها إلى الله.
- وقد يبطئ النصر لتزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله، وهي تعاني وتتألم وتبذل؛ ولا تجد لها سنداً إلا الله، ولا متوجهاً إلا إليه وحده في الضراء. وهذه الصلة هي الضمانة الأولى لاستقامتها على النهج بعد النصر عندما يتأذن به الله. فلا تطغى ولا تنحرف عن الحق والعدل والخير الذي نصرها به الله
- وقد يبطئ النصر لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعدُ في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوته فهي تقاتل لمغنم تحققه، أو تقاتل حمية لذاتها، أو تقاتل شجاعة أمام أعدائها. والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله، بريئاً من المشاعر الأخرى التي تلابسه، وقد سئل رسول الله r عن الرجل يقاتل حمية والرجل يقاتل شجاعة والرجل يقاتل ليرى. فأيها في سبيل الله؟ فقال {من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله}
- قد يبطئ النصر لأن في الشر الذي تكافحه الأمة المؤمنة بقية من خير، يريد الله أن يجرد الشر منها ليتمحض خالصاً، ويذهب وحده هالكاً، لا تتلبس به ذرة من خير تذهب في الغمار!
- وقد يبطئ النصر لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تماماً. فلو غلبه المؤمنون حينئذ فقد يجد له أنصاراً من المخدوعين فيه، لم يقتنعوا بعد بفساده وضرورة زواله؛ فتظل له جذور في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة. فيشاء الله أن يبقى الباطل حتى يتكشف عارياً للناس، ويذهب غير مأسوف عليه من ذي بقية!
- وقد يبطئ النصر لأن البيئة لا تصلح بعدُ لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة. فلو انتصرت حينئذ للقيت معارضة من البيئة لا يستقر لها معها قرار. فيظل الصراع قائماً حتى تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر، ولاستبقائه!
ولا بد لنا أن نعتقد يقيناً أن الله تعالى لا يخلف الميعاد، وأنه سبحانه هو القائل {ولينصرن الله من ينصره} وهو القائل {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي} وهو القائل {إن تنصروا الله ينصركم} وهو القائل {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ^ إنهم لهم المنصورون ^ وإن جندنا لهم الغالبون} وهو القائل )إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد(
مشاهد من التاريخ
1- قصة أصحاب الأخدود
2- ما كان للمشركين مع المسلمين في مكة
3- مقتل حمزة بن عبد المطلب والتمثيل به في أحد
4- ما كان مع المسلمين في مؤتة ومقتل القادة الثلاثة
5- تسلُّط التتار على المسلمين وإسقاطهم الخلافة
6- دخول الصليبيين بيت المقدس ومنعهم الصلاة تسعين سنة