1ـ فإن الله تعالى جعل القرآن نوراً وهدى ورحمة وبشرى للمؤمنين الطيبين، وخسارة ولعنة وظلمة على الكافرين والمنافقين؛ كما قال سبحانه {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا} {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد} فما هي الأسباب التي تمنع هداية القرآن من النفاذ إلى القلوب؟ إن ربنا جل جلاله قد بيَّن في سورة البقرة ثلاثة منها؛ أولها نقض العهد، وثانيها قطيعة الرحم، وثالثها الإفساد في الأرض فقال سبحانه {وما يضل به إلا الفاسقين. الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون}
2ـ فما هو العهد؟ قالوا: هو اليمين والأمان والوصيّة والموثق والذّمّة، ومنه قيل للحربيّ يدخل بالأمان: ذو عهد ومعاهد (بكسر الهاء وفتحها)؛ وذلك لأنّ العهد لا يكون إلّا من اثنين فكلّ واحد يفعل بصاحبه مثل ما يفعله صاحبه به، فكلّ واحد من المتعاهدين فاعل ومفعول
3ـ ينقضون عهد الله؛ فما هو عهد الله؟ هو ما أخذه اللّه على بني آدم من الإقرار بربوبيّته ووحدانيّته، ويشمل أيضاً ما أخذه على هذه الأمّة أن يوفّوا به ممّا أحلّ وحرّم وفوّض، ويتضمّن العهد أيضاً ما يكون من اتّفاق بين المسلمين والمشركين. قال القرطبيّ في تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ} اختلف النّاس في تعيين هذا العهد فقيل:
- هو الّذي أخذه اللّه على بني آدم حين استخرجهم من ظهره.
- وقيل: هو وصيّة اللّه تعالى إلى خلقه، وأمره إيّاهم بما أمرهم به من طاعته، ونهيه إيّاهم عمّا نهاهم عنه من معصيته في كتبه على ألسنة رسله، ونقضهم ذلك ترك العمل به.
- وقيل: بل نصب الأدلّة على وحدانيّته بالسّموات والأرض وسائر الصّنعة هو بمنزلة العهد ونقضهم ترك النّظر في ذلك.
- وقيل: هو ما عهده إلى من أوتي الكتاب أن يبيّنوا نبوّة محمّد صلى اللّه عليه وسلّم ولا يكتموا أمره. فالآية على هذا في أهل الكتاب. قال أبو إسحاق الزّجّاج: عهده- جلّ وعزّ- ما أخذه على النّبيّين ومن اتّبعهم ألّا يكفروا بالنّبيّ صلى اللّه عليه وسلّم. ودليل ذلك: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ} إلى قوله تعالى: {وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي} أي عهدي.
- وقال الرّاغب: عهد اللّه تارة يكون بما ركزه في عقولنا، وتارة يكون بما أمرنا به بالكتاب وبالسّنّة، وتارة بما نلتزمه وليس بلازم في أصل الشّرع كالنّذور وما يجري مجراها.
4ـ ونقض العهد هو عدم الوفاء بما أعلن الإنسان الالتزام به أو قطعه على نفسه من عهد أو ميثاق، سواء فيما بينه وبين اللّه تعالى أو فيما بينه وبين النّاس.
5ـ وقد ذم الله نقض العهد في كثير من آيات كتابه؛ وبين أن ذلك سبب لحلول غضبه ونزول لعنته؛ من ذلك قوله سبحانه {يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً. وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً. فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا. وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً. وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً. بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً. وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} وقوله سبحانه {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ. فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ} وهي خصلة من خصال الكفار المشركين {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ. فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ. وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ. وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ} وهي الحجاب بين الإنسان وحصول الهداية له حتى يصير بمنزلة الأعمى الذي لا يبصر {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ. الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ. وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ. وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ. جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ. وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}
6ـ وتواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذم هذه الخصلة مع بيان منافاتها للإيمان؛ فعن عبد اللّه بن عمرو رضي اللّه عنهما أنّه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم: «أربع من كنّ فيه كان منافقاً خالصا، ومن كانت فيه خلّة منهنّ كانت فيه خلّة من نفاق حتّى يدعها: إذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر» وعن أنس رضي اللّه عنه أنّه قال: ما خطبنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم إلّا قال: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له». وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النّبيّ صلى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: «من خرج من الطّاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهليّة، ومن قاتل تحت راية عمّيّة يغضب لعصبة، أو يدعو إلى عصبة، أو ينصر عصبة فقتل فقتلة جاهليّة، ومن خرج على أمّتي يضرب برّها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس منّي، ولست منه. وعن عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما قال: أقبل علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم فقال: «يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهنّ، وأعوذ باللّه أن تدركوهنّ: لم تظهر الفاحشة في قوم قطّ حتّى يعلنوا بها إلّا فشا فيهم الطّاعون والأوجاع الّتي لم تكن مضت في أسلافهم الّذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلّا أخذوا بالسّنين وشدّة المؤونة وجور السّلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلّا منعوا القطر من السّماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد اللّه وعهد رسوله إلّا سلّط اللّه عليهم عدوّا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمّتهم بكتاب اللّه، ويتخيّروا ممّا أنزل اللّه، إلّا جعل اللّه بأسهم بينهم».
7ـ وقد كان الصحابة الكرام رضي الله عنهم أحرص الناس على الوفاء بالعهد؛ فهذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما جمع بنيه وأهله لمّا خلع النّاس يزيد بن معاوية ثمّ تشهّد ثمّ قال: أمّا بعد فإنّا قد بايعنا هذا الرّجل على بيع اللّه ورسوله، وإنّي سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم يقول: «إنّ الغادر ينصب له لواء يوم القيامة يقال: هذه غدرة فلان. وإنّ من أعظم الغدر- أن لا يكون له الإشراك باللّه تعالى- أن يبايع رجل رجلاً على بيع اللّه ورسوله صلى اللّه عليه وسلّم ثمّ ينكث بيعته فلا يخلعنّ أحد منكم يزيد ولا يسرفنّ أحد منكم في هذا الأمر فيكون صلى اللّه عليه وسلّم بيني وبينه». قال يزيد بن شريك التّيميّ أبو إبراهيم التّيميّ: خطبنا عليّ رضي اللّه عنه على منبر من آجرّ وعليه سيف فيه صحيفة معلّقة فقال: «واللّه ما عندنا من كتاب يقرأ إلّا كتاب اللّه وما في هذه الصّحيفة فنشرها فإذا فيها أسنان الإبل، وإذا فيها: “المدينة حرم من عير إلى كذا، فمن أحدث فيها حدثاً فعليه لعنة اللّه والملائكة والنّاس أجمعين لا يقبل اللّه منه صرفاً ولا عدلا، وإذا فيه: ذمّة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة اللّه والملائكة والنّاس أجمعين، لا يقبل اللّه منه صرفاً ولا عدلا. وإذا فيه: من ولي قوماً بغير إذن مواليه فعليه لعنة اللّه والنّاس أجمعين لا يقبل اللّه منه صرفاً ولا عدلا”. بل بلغ الحال أن يحذر النبي صلى الله عليه وسلم من نقض العهد حتى مع الكافر؛ فعن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنّه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم: «ألا من قتل نفساً معاهداً له ذمّة اللّه وذمّة رسوله فقد أخفر بذمّة اللّه فلا يرح رائحة الجنّة، وإنّ ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفا». وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنّه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم: «الصّلاة المكتوبة إلى الصّلاة الّتي بعدها كفّارة لما بينهما، والجمعة إلى الجمعة، والشّهر إلى الشّهر- يعني رمضان إلى رمضان كفّارة لما بينهما» ثمّ قال بعد ذلك: «إلّا من ثلاث» قال: فعرفت أنّ ذلك الأمر حدث: «إلّا من الإشراك باللّه، ونكث الصّفقة، وترك السّنّة» قال: «أمّا نكث الصّفقة أن تبايع رجلا ثمّ تخالف إليه، تقاتله بسيفك، وأمّا ترك السّنّة: فالخروج من الجماعة».
وقد كان المسلمون حريصين على ذلك حتى مع من ظهر شره وبان فساده من الدجاجلة المحاربين لله ورسوله؛ فعن رفاعة بن شدّاد أنّه قال: كنت أقوم على رأس المختار فلمّا تبيّنت كذابته هممت وايم اللّه أن أسلّ سيفي فأضرب عنقه حتّى ذكرت حديثا حدّثنيه عمرو بن الحمق أنّه قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم يقول: «من أمّن رجلا على نفسه فقتله أعطي لواء الغدر يوم القيامة». وعن جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنهما أنّه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم: «من أعطى بيعة ثمّ نكثها لقي اللّه وليس معه يمينه» بل حتى في أثناء القتال؛ فعن عمرو بن عبسة رضي اللّه عنه أنّه قال: كان معاوية يسير في أرض الرّوم وكان بينه وبينهم أمد فأراد أن يدنو منهم فإذا انقضى الأمد غزاهم فإذا شيخ على دابّة يقول: اللّه أكبر، اللّه أكبر، وفاء لا غدر، إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم قال: «من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلّ عقدة ولا يشدّها حتّى يمضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء» فبلغ ذلك معاوية، فرجع. قال أبو العالية: ستّ خصال في المنافقين إذا كانت فيهم الظّهرة على النّاس أظهروا هذه الخصال: إذا حدّثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا ائتمنوا خانوا، ونقضوا عهد اللّه من بعد ميثاقه وقطعوا ما أمر اللّه به أن يوصل، وأفسدوا في الأرض، وإذا كانت الظّهرة عليهم أظهروا الخصال الثّلاث: إذا حدّثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا ائتمنوا خانوا.
وقد شبه الله ناقض العهد بحال امرأة لا تعقل؛ قال سبحانه {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ} قال ابن عطيّة رحمه اللّه تعالى: شبّهت هذه الآية الّذي يحلف أو يعاهد أو يبرم عقداً بالمرأة الّتي تغزل غزلها وتفتله محكما، وشبّه الّذي ينقض عهده بعد الإحكام بتلك الغازلة إذا نقضت قوى ذلك الغزل فحلّته بعد إبرامه.
وقال الحافظ ابن حجر- رحمه اللّه تعالى-: الغدر حرمته غليظة لا سيّما من صاحب الولاية العامّة لأنّ غدره يتعدّى ضرره إلى خلق كثير، ولأنّه غير مضطرّ إلى الغدر لقدرته على الوفاء. وقال- رحمه اللّه تعالى-: كان عاقبة نقض قريش العهد مع خزاعة حلفاء النّبيّ صلى اللّه عليه وسلّم أن غزاهم المسلمون حتّى فتحوا مكّة واضطرّوا إلى طلب الأمان، وصاروا بعد العزّة والقوّة في غاية الوهن إلى أن دخلوا في الإسلام، وأكثرهم لذلك كاره.