غلبت الروم
الحمد لله.. والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد.
شيئًا فشيئًا تستوي وتنضج الفكرة القائلة بأنّ الغربَ بدأ يتراجع على كل المستويات وجميع الأصعدة، فكلما قَضَمَتْ القوات الروسية أرضًا وانداح جيشها وامتد، وكلما تقدمت في اتجاه رفع الصوت ورفع اليد؛ أسقطت من صلف أوربا وأمريكا وكبريائهما ما تسقطه الهزات المتتابعة من البنيان الذي لم يبق من مقوماته إلا الصيت والسمعة مع شيء من عبق الماضي، ولا يعني هذا أنّ روسيا أفضل حالا من الغرب على أيٍّ من المستويات والأصعدة، ولكنّ الأكثر غَشَمًا واندفاعا يملك زمام المبادرة في مثل هذه الأحداث، وهذا لائق بالعرق الروسي الأرثوذكسي، بينما الأكثر خبثاً هو من يحفر لهذا المندفع أخدوداً في جوف الصراع ليتردى فيه، وهذا هو اللائق بالعرق الأنجلوسكسوني البروتستانتي؛ لذلك نقول إنّ الغرب اليوم سَيُغْلَبُ، وإنّ الروس غدا سَيُغْلَبُون، ربما في بضع سنين، وجميعهم ليس فيهم غالب.
لم يتنبه الكثيرون للمعنى – فضلا عن المغزى – في قول الله تعالى: (الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7)) (الروم: 1-7).
هذا سياق واحد متسق تمام الاتساق، ومتماسك غاية التماسك، هذا سياق يحكي أنموذجاً تطبيقيًّا لسنة الله تعالى في التهيئة لهذه الأمة؛ كلما رامت بلوغ التمكين لهذا الدين، وسعت بصدق لتحقيق ما تروم إليه، كلما أرادت نصرة الشريعة فحالت الظروف دون تحقيق ما تريد، فأمّا الذين لا يعلمون عن طبيعة الصراع إلا ظاهراً من الحياة الدنيا؛ فلا يقيسون الأمور إلا بموازين القوى المادية، ولا ينتبهون للسنن الإلهية التي تعمل ولا تنتظر مشيئة العباد، فَيَرَوْنَ النّصر أَبْعَدَ مما بين سرعة الناقة في عمق الصحراء وسرعة المكوك في أجواز الفضاء من بون شاسع وفرق واسع، فيقعون في الإفلاس والإبلاس، ولا يرون للأمة طريقاً إلا طريق التبعية الكاملة للغالب.
بينما السنّة الإلهية تعمل في الخفاء؛ لتهيئ الأرض لعالم جديد، يكون فيه للمؤمنين الكلمة العليا بإذن الله تعالى، وقد وقع هذا في أول الأمر لهذه الأمة وسيقع في آخرها، وقع في أول الأمر عندما دخلت القوتان العُظْمَيَانِ آنذاك فارس والروم في صراع استنزاف شديد، عَبْرَ حربين لم يكن بينهما سوى بضع سنين، يومها كانت الجماعة المسلمة تتهيأ مثلما يتهيأ أهل الإسلام اليوم، وتبحث لها عن مخرج مثلما نبحث اليوم، وقد أحاطت بها قوى الشر في جزيرة العرب ورمتها عن قوس واحدة مثلما يُفْعَلُ بنا اليوم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُ نفسه في مواسم الحج على الوفود؛ عَلَّه يظفر بمن يؤويه وينصره حتى يُبَلِّغ دعوة ربه ويَبْلُغَ بالأمة ما يريد من التمكين والقوة.
لا أدعي التطابق التام بين الماضي والحاضر، لكنّ معطيات الواقع تؤكد أنّ ما وقع من التهيئة الكونية للإمة الإسلامية في الماضي سيتحقق الآن؛ وذلك وفقاً لمجموعة من السنن الإلهية التي لا ريب في استمرارها واستقرارها، مثل سنة التدافع: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) (البقرة: 251)، وسنة التداول: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) (آل عمران: 140)، وسنة الاستدراك الإلهي: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (يوسف: 110)، وغيرها من السنن الإلهية الجارية منها والخارقة، وإنّ الأمة الإسلامية في عصرنا هذا منذ فجر الصحوة الإسلامية قد رامت التمكين للإسلام، وتحركت صوب غايتها، لكنّ العدو غلبها على أمرها، وإذا كانت الأخطاء التي وقعت منها قد تكاثرت وتناثرت فإنّ رحمة الله التي تداركت يونس عليه السلام سوف تتداركها؛ ليتحقق لها تمكينٌ ومتاعٌ إلى حين.
لقد كانت حرب فارس والروم حرباً بين القوى العظمى آنذاك، وكانت متابَعَةُ الرسول والمسلمين لها كمتابعتنا اليوم لابتداء الصراع بين الروس والنّاتو، ولعل المعنى الصحيح لقوله تعالى: (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ) هو فرحهم بما تحقق لهم من نصر وتمكين جاء متزامناً مع انتصار الروم بعد بضع سنين، وذلك بإقامة دولتهم وسط محيط من العداوات، وانتصار هذه الدولة على عدوها الأقرب في بدر، ثم في مواقع أخرى انتهت بالفتح الأكبر فتح مكة؛ ويُرَجِّحُ هذا التأويلَ ضعفُ التأويلِ بأن نصر الله هو نصره للروم على فارس؛ بدعوى أنّهم أهل كتاب، فهذا تأويل ضعيف؛ لأنّهم في النهاية كفار أهل جاهلية كغيرهم، والله لا يتولى أمثال هؤلاء، إنّما يكلهم وأمثالهم إلى السنن المادية.
وبدلا من الوسوسة والتشكك والتردد والتلعثم؛ يتوجب علينا أن نهيئ أنفسنا ومجتمعاتنا إلى تغيير قادم سيكون بأيدي المؤمنين، وستكون فرصة الشعوب فيه كبيرة، وكذلك فرص نجاح حركات المعارضة والمقاومة التي تعثرت وتعوقت على يد الروس المجرمين في كثير من بلاد المسلمين، يجب أن نكون إيجابيين في تفكيرنا وفي تعاطينا مع الأحداث والمتغيرات، وأن نكون متوكلين على الله تعالى، مبادرين إلى الأخذ بزمام المبادرة، وكما قال الشاعر:
إذا هبَّتْ ريـــــــاحُك فاغتنمْها … فإنّ الخافقاتِ لها سـُـــــــــــــــــــكون
وإن ولدت نياقــُك فاحتلبْــها … فلا تدري الفصيلَ لِمَنْ يكون
ولا ندري متى يتحقق للمؤمنين نصر الله، ولكنّ الله تعالى يقرر بلغة حاسمة أنّه قريب: (أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة: 214)، وكأني أشعر بأنّ القرب ليس زمانيًّا وحسب، وإنّما هو مكانيٌّ كذلك، فنصر الله قريب من أيدي المؤمنين إن تحركوا صوبه، وإن تهيأت أسبابه حسب السنن الإلهية؛ فما عليهم إلا أن يقطفوه بثقة ويقين، وإذا لم تكن أحداث كهذه – ولاسيما مع اشتدادها المتوقع وتشابكها وامتدادها المرتقب – فرصةً مواتية لحراك إسلاميّ تغييري؛ فمتى تأتي الفرصة؟ فالبدار البدار يا أيها الأحرار.