خطب الجمعة

فتح مكة دروس وعبر

خطبة يوم الجمعة 20/9/1437 الموافق 24/6/2016

1- حرص النبي صلى الله عليه وسلم على عدم إراقة الدماء؛ لم يلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أخذ التجهز للخروج إلى مكة، وأذّن في الناس بالتجهيز، وأخفى مقصده إلا عن بعض خاصته كالصدّيق، وكان غرض رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبغت قريشاً في عقر دارها من غير أن تأخذ أهبتها، حرصاً ألا تراق الدماء في بلد الله الحرام، فلما تجمعت الجموع وتهيأت للمسير أخبرهم بمقصده وقال: «اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها».

2- العظيم من يرحم الضعفاء؛ كتب حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه كتاباً يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله، ثم أعطاه مولاة لبعض بني عبد المطلب تسمى سارة، وجعل لها جعلاً على أن تبلّغه قريشا، فجعلته في عقاص شعرها، ثم خرجت به، فإذا الوحي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما صنع حاطب، فبعث علياً والزبير والمقداد رضي الله عنهم وقال: «انطلقوا حتى تأتوا (روضة خاخ) فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها» فانطلقوا تتعادى بهم خيلهم حتى أدركوها، فقالوا لها أخرجي الكتاب، فقالت: ليس معي كتاب، فقالوا لها: لتخرجنّ الكتاب، أو لنكشفنّ الثياب، فخافت وأخرجته من عقاصها، فأتوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإذا فيه: «يا معشر قريش فإن رسول الله جاءكم بجيش كالليل، يسير كالسيل. فوالله لو جاءكم وحده لنصره الله، وأنجز له وعده، فانظروا لأنفسكم، والسلام» فقال النبي: «يا حاطب ما هذا؟» فقال: يا رسول الله لا تعجل عليَّ، إني كنت امرأ ملصقاً في قريش- يعني حليفاً ولم يكن من أنفسها- وكان من معك من المهاجرين من لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي بها، ولم أفعله ارتداداً عن ديني ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام، فقال الرسول العظيم: «أما إنه قد صدقكم» فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال الرسول: «إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله قد اطّلع على من شهد بدراً فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»، فبكى عمر وقال: الله ورسوله أعلم!! فأنزل الله هذا التأديب الإلهي وهو صدر سورة الممتحنة: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ إلى قوله سبحانه: فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ}

3- المفاضلة بين العبادات وتقديم الأهم على المهم؛ كان خروجه لعشر مضين من رمضان من السنة الثامنة، فصام وصام الناس معه، حتى إذا كان بالكديد- موضع بين مكة والمدينة- أفطر حتى قدم مكة وانسلخ الشهر، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ؛ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ, فَصَامَ النَّاسُ؛ ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَرَفَعَهُ؛ حَتَّى نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ؛ ثُمَّ شَرِبَ؛ فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ. قَالَ: «أُولَئِكَ الْعُصَاة، أُولَئِكَ الْعُصَاةُ». وَفِي لَفْظٍ: فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمُ الصِّيَامُ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُونَ فِيمَا فَعَلْتَ، فَدَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَشَرِبَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

4- حسم مادة المقاومة للإسلام وأهله؛ وسار الجيش الإسلامي حتى وصل (ذا طوى)، وفي هذا المكان رأى الرسول الحكيم والقائد المحنك صلى الله عليه وسلم أن يفرّق الجيش فرقا، وأوصاهم أن يكفوا أيديهم، ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم، وأمر خالد بن الوليد رضي الله عنه أن يدخل من أسفلها من كدي، وأمر الزبير بن العوام رضي الله عنه أن يدخل في فرقته من شمالها، وقيس بن سعد بن عبادة الأنصاري رضي الله عنه من جانبها الغربي. ودخلت الجيوش مكة ولم يلق منها مقاومة تذكر إلا جيش خالد بن الوليد رضي الله عنه فقد كان يقيم في أسفل مكة أشد قريش عداوة للرسول، ومن اشتركوا مع بني بكر في نقض عهد الحديبية، هؤلاء لم يرضهم أن يستسلموا من غير إراقة دماء، ولم يعتدّوا بما منحوا من أمان فأعدوا عدتهم للقتال، ومن هؤلاء: صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، وحماس بن قيس، فلما دخل جيش خالد أمطروه بنبالهم، ولكن خالداً لم يلبث أن فرقهم، ولم يقتل من رجاله إلا اثنان ضلّا طريقهما، أما قريش ففقدت ثلاثة عشر رجلاً في رواية، وأربعة وعشرين في رواية أخرى، ولم يلبث صفوان وعكرمة وسهيل أن ولّوا الأدبار منهزمين. ولما قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خالد بن الوليد يقتل، فقال: «قم يا فلان فأت خالداً فقل له يرفع يديه من القتل»

5- زهوق الباطل أمام قوة الحق؛ ثم قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة فطاف بها سبعاً، يستلم الركن بمحجن في يده، وكان على الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً مشدودة إليها برصاص، فصار يطعنها بعود في يده وهو يقول: {جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً} {جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ} فجعلت الأصنام تتهاوى وتسقط إلى غير رجعة، ورجعت الكعبة كما كانت على عهد الخليل إبراهيم رمز التوحيد، وعبادة الله واحده.

6- البر والوفاء؛ ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قام إليه علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ومفتاح الكعبة بيده، فقال: يا رسول الله اجمع لنا الحجابة مع السقاية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أين عثمان بن طلحة»؟ فدعي له فقال: «هذا مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء» وقال: «خذوها يا بني شيبة خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم»

7- حقوق الإنسان في خطبة ذلك اليوم العظيم؛ وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على باب الكعبة، وقد تكاثر الناس في المسجد، وأوجس المشركون خيفة، وكادت تغص حلوقهم بقلوبهم من شدة الخوف، وصارت أبصارهم مشدودة إلى الرسول، ولكن المظلوم المنتصر أبى إلا أن يضرب مثلاً نادراً في العفو، فقام خطيباً وكان مما قال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا إن كل مأثرة كانت في الجاهلية، أو دم، أو مال يدعى، فهو موضوع تحت قدمي هاتين، إلا ما كان من سدانة البيت وسقاية الحاج فإنهما أمضيتهما لأهلها على ما كانت، ألا وإن قتيل الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا، ففيه الدية مغلّظة مائة من الإبل: أربعون منها في بطونها أولادها. يا معشر قريش إنّ الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظّمها بالآباء، الناس من ادم، وادم من تراب» ثم تلا هذه الآية: {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} في غداة الفتح بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن خزاعة حلفاءه عدت على رجل من هذيل فقتلوه وهو مشرك برجل قتل في الجاهلية، فغضب وقام بين الناس خطيباً فقال: «يا أيها الناس، إن الله قد حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دماً، ولا يعضد- يقطع- فيها شجراً لم تحل لأحد كان قبلي، ولا تحل لأحد يكون بعدي، ولم تحل لي إلا هذه الساعة غضباً على أهلها، ثم قد رجعت كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فمن قال لكم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قاتل فيها فقولوا: إن الله قد أحلّها لرسوله ولم يحلها لكم.

8- العفو عند المقدرة؛ حين قال: «يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم»؟ قالوا: خيرا، أخ كريم، وابن أخ كريم قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»!! أما فضالة بن عمير فقد كانت نفسه قد حدثته أن يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت عام الفتح، فلما دنا منه قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: «أفضالة»؟ قال نعم فضالة يا رسول الله، قال: «ماذا كنت تحدّث به نفسك»؟ قال لا شيء، كنت أذكر الله، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: «استغفر الله» ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه. فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إليَّ منه.

9- ظهور آية لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كان الحارث بن هشام، وعتّاب بن أسيد وأبو سفيان بن حرب جلوسا بفناء الكعبة، وبلال يؤذن فوق ظهر الكعبة، فقال عتّاب: لقد أكرم الله أسيداً ألا يكون سمع هذا، فسمع منه ما يغيظه، فقال الحارث بن هشام: أما والله لو أعلم أنه محق لاتبعته، فقال أبو سفيان: لا أقول شيئا، لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصا، فطلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «قد علمت الذي قلتم» ثم ذكره لهم، فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله، ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول: أخبرك!!

10- الإسلام دين القوة والحسم؛ لقد كان النبي صلوات الله وسلامه عليه حريصاً غاية الحرص على أن تبقى لمكة حرمتها، وأن يتم الفتح من غير إراقة دماء، وقد أوصى أمراء الجيوش ألا يقاتلوا إلا مكرهين، وتوّج هذا بالعفو عن أهل مكة عفواً شاملا، بيد أنه استثنى بضعة عشر رجلاً أمر بقتلهم وإن وجدوا متعلقين بأستار الكعبة، لأنهم عظمت جرائمهم في حق الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وحق الإسلام، ولما كان يخشاه منهم من إثارة الفتنة بين الناس بعد الفتح. قال الحافظ ابن حجر في الفتح: وقد جمعت أسماءهم من متفرقات الأخبار، وهم: عبد العزّى بن خطل، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعكرمة بن أبي جهل، والحويرث بن نقيد- مصغّرا- ومقيس بن صبابة، وهبّار بن الأسود، وقينتان كانتا لابن خطل: فرتنى وقريبة، وسارة مولاة بني عبد المطلب، وذكر أبو معشر فيمن أهدر دمه الحارث بن طلاطل الخزاعي، وذكر الحاكم أن فيمن أهدر دمه كعب بن زهير، ووحشي بن حرب، وهند بنت عتبة. ومن هؤلاء من قتل، ومنهم من جاء مسلماً تائباً فعفا عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وحسن إسلامه.

11- وفاء النبي صلى الله عليه وسلم وبره بالأنصار؛ لما رأى الأنصار سرور رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفتح، وحفاوته بالكعبة والمسجد الحرام، وذهابه إلى الصفا داعياً وشاكراً لله على عظم نعمائه تخوفوا أن يقيم رسول الله صلى الله عليه وسلم في بلده، ولا يرجع إليهم فيحرموا منه، فقال بعضهم لبعض فيما بينهم: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته، ورأفة بعشيرته، أترون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم بها؟ فأوحى الله إليه بما جرى، فذهب إليهم فأخبرهم بما قالوا فأقروا، فطمأنهم قائلا: «كلا إني عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، فالمحيا محياكم، والممات مماتكم»، فأقبلوا إليه يبكون ويقولون: والله ما قلنا الذي قلنا إلا الضن بالله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عله وسلم: «إن الله ورسوله يصدّقانكم ويعذرانكم»

12- هدم الأصنام؛ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد في ثلاثين فارسا لهدم العزّى، وهي هيكل بنخلة تعظمه قريش وكنانة ومضر؛ وكان ذلك لخمس بقين من رمضان، فذهب إليها وهدمها وهو يقول: يا عزّ كفرانك لا سبحانك … إني رأيت الله قد أهانك

وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص لهدم سواع، وهو أعظم صنم لهذيل على ثلاثة أميال من مكة، فذهب إليه وهدمه. وبعث سعد بن زيد الأشهلي في عشرين فارساً لهدم مناة، وهي صنم لكلب وخزاعة، وهيكلها بالمشلل، وهو جبل على ساحل البحر يهبط منه إلى قديد، فتوجهوا إليها وهدموها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى