خطب الجمعة

فليفرحوا

خطبة يوم الجمعة 29/8/1438 الموافق 26/5/2017

الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، وجعل أمتنا بفضله ورحمته خير أمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، من توحد بجلال ملكوته، وتفرد بجمال جبروته، أتقن ما صنع وأحكمه، وأحصى كل شيء وعلمه، وخلق الإنسان وعلَّمه، ورفع قدر العلم وعظَّمه، ومنعه من استرذله وحرمه، وخص به من خلقه من كرَّمه، فسبحانه من إله أذهل العقول عن الوصول إلى كنه ذاته الأبدية، وأدهش الخواطر عن الإحاطة بجليل صفاته السرمدية، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، خاتم الأنبياء، وسيد الأصفياء، وصفوة الأولياء، وإمام العلماء، وأكرم من مشى تحت أديم السماء، صلِّ اللهم وسلم وبارك عليه في كل ساعة ولحظة وحين على دوام الأبد، ما لا يدخل تحت الحصر والعدد، ولا ينقطع عنه المدد، وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين، والصحابة الكرام الميامين، والتابعين لهم بأحسن إلى يوم الدين، صلاة وسلاماً تامين لا يعتريهما انصرام، دائمين بإحسان على ممر الدهور والأيام، أما بعد

1/ فإن أمة الإسلام في المشارق والمغرب تترقب دخول الشهر المبارك خلال الساعات القادمات، وهو خبر من أعظم ما يُفرح به {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} فالناس كل الناس يفرحون، ولكن بواعث الناس على هذا الفرح مختلفة متباعدة، كما قال ربنا جل جلاله {إن سعيكم لشتى}:

فمن الناس من يكون فرحه فرح المؤمن، الذي يفرح برمضان؛ لأنه شهر القرآن، شهر الصيام والقيام والعبادة والدعاء والتضرع إلى الله عزَّ وجلَّ شهر المغفرة والعتق من النار، من الناس من يفرحون برمضان، كما كان يفرح به أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام فكان عليه الصلاة والسلام إذ يبشرهم برمضان، لم يجد ما يبشرهم به في مقدم هذا الشهر الكريم، إلا ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه في صحيح البخاري وصحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لأصحابه: (إذا دخل رمضان فُتِحَتْ أبواب السماء) وفي رواية: (فُتِحَتْ أبوابُ الجنة، وغُلِّقَتْ أبوابُ النيران، وصُفِّدَتِ الشياطينُ ومَرَدَةُ الجن) فبذلك كانوا يفرحون؛ لأن فتحَ أبوابِ السماء، وفتحَ أبوابِ الرحمة وأبواب الجنة، تكرم من الله عزَّ وجلًّ على عباده، وسِعة رحمته، وكثرة مغفرته، وكثرة عتقائه في هذا الشهر الكريم من النار، ولذلك جاء في الحديث، في رواية الترمذي رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كان أول ليلة من رمضان) ونرجو أن تكون هذه الليلة، التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم هي التي نعيش ساعاتها الآن ونترقبها (إذا كان أول ليلة من رمضان غُلِّقَتْ أبوابُ النار؛ فلم يُفتح منها باب، وفُتِحَتْ أبوابُ الجنة؛ فلم يُغلق منها باب، وينادِي منادٍ: يا باغي الخير هَلُمَّ وأقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله في كل ليلة عتقاءُ من النار) فهذه مصدر فرحة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، لأنهم لم يكونوا يفرحون إلا بما يكون مقرباً لهم إلى رضوان الله تعالى ورحمته، ومباعداً لهم عن عذابه وسخطه، وهكذا يفرح المؤمنون {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}

مصدر فرحة المؤمن في رمضان: أنه يؤمِّل أن يكون فيه في ركب التائبين، الذين غُفرت لهم ذنوبُهم، ومُحيت عنهم سيئاتهم، وتجاوز الله تعالى عن خطاياهم، فساروا في موكب المؤمنين التائبين الطائعين، وما تدري يا أخي الحبيب ماذا يكون مصيرك بعد هذا الشهر الكريم، فإن الإنسان ما هو إلا نَفَسٌ يدخل ولا يخرج، أو يخرج ولا يدخل، ورُبَّ إنسان أصبح ولم يمسِ، أو أمسى ولم يصبح، أو نام ولم يستيقظ، أو استيقظ فلم ينم، وإنما هي آجال مكتوبة مضروبة قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}

2/ ومن الناس من يكون فرحه بدخول هذا الشهر؛ لأنه تاجر يعتقد أنه سوف ينمي بضاعته ويروجها في هذا الشهر، ويرى مِن إقبال الناس على شراء ما يحتاجونه، من المأكولات والمشروبات وغيرها في هذا الشهر الكريم ما يكون مصدر سعادة له وهذه فرحة دنيوية بحتة، نحن لا نلوم هؤلاء على فرحتهم تلك، فإن الإنسان مجبول على حب المال، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} ومن الخير: المال، فالنفوس جُبلت على حب المال غالباً وقد صلى أصحابُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوماً معه صلاة الفجر، فلما سلم وقام تعرضوا له وسلَّموا عليه، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عرف ما الذي جاء بهم، قال: (أظنكم سمعتم بالمال الذي قَدِم من البحرين قالوا: أجل يا رسول الله قال عليه الصلاة والسلام: أبشِروا وأمِّلوا ما يسرُّكم، فوالله ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تُفتَح عليكم الدنيا كما فُتحَت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها؛ فتهلككم كما أهلكتهم) والحديث متفقٌ عليه، عن أبي سعيد رضي الله عنه.

3/ ومن الناس من تكون فرحته فرحة العابث اللاهي الذي لا يذكر من رمضان إلا إيقاد المصابيح، وسهر الليالي، والجلسات الطويلة المتصلة، والمباريات الرياضية التي يسهرون عليها حتى وقت السحور، أو لا يذكر من رمضان إلا السهر أمام الشاشة؛ لمشاهدة الأفلام، أو مشاهدة البرامج التي تضر ولا تنفع، فيكون فرحه برمضان لا يعدو فرحة مادية دنيوية ضارة، تكون على الإنسان وبالاً في دينه ودنياه وعاجل أمره وآجله.

4/ ومن الناس من لا يتذكرون من رمضان إلا المسابقات والمنافسات في أمور لا خير فيها، وكثير من الشباب ربما كان جُلُّ همهم في رمضان ومصدر فرحتهم وسرورهم، هي الذكريات التي يعيشونها في رمضانات مضت، والسهرات الطويلة، وأنواع من الأسفار والمغامرات والمسابقات والمنافسات، التي لا يفرح بها مؤمن أبداً.

5/ ومن الناس من يكون فرحه فرح الصبيان الذين لا يذكرون من شهر رمضان إلا ألوان الأطعمة المتميزة التي يتعاطونها في هذا الشهر الكريم، على حين لم يكونوا يتعاطونها قبل ذلك، فلا يفرح من هذا الشهر إلا بمثل هذه الأمور، كما يفرح بها الصبيان الصغار الذين لا يعرفون رمضان إلا بتغير البرامج وتغير الأطعمة ومواعيد الإفطار والغداء والعشاء وغيرها.

6/ أيها الأحبة ألا ترون أنه جديرٌ بنا جميعاً أن نعاتب أنفسنا في مثل هذه الليلة، والله إن نفوسنا لجديرة بالعتاب، يا نفس، كم شهراً صمتِ؟! كم سنة أدركتِ رمضان، ثم خرجتِ منه كما دخلتِ فيه، بل ربما كنتِ على حالٍ أقل مما دخلتِ فيه في رمضان؟! كم سمعتِ في هذا الشهر من موعظة؟! بل كم حفظ الناس من أحاديث وآيات ومواعظ وأبيات سمعوها في مدخل هذا الشهر الكريم وفي لياليه العامرات، بالذكر والعبادة؟! لا أقول: كم موعظةٍ سمعتِ؟ بل كم موعظة رأيتِ بعينيكِ؟! كم جنازة شيَّعتِ؟! كم من إنسان واريناه في حفرته ثم خرجنا من المقابر وقد أنكرنا قلوبنا، ما تغيرت إلا إلى أقل مما كنا نصبو إليه؟! بل كم من موعظة أدركناها في نفوسنا؟! رُبَّ إنسان منا أشرف يوماً من الأيام أو كاد أن يقع في حادث، وربما أصابه مرض شديد ظنَّ أن فيه حتفه وهلاكه، وربما شاهد أباه أو أخاه أو قريبه وهو يلفظ أنفاسه، وربما وضع الإنسان يديه على رأسه يوماً من الأيام وهو يظن أنه في آخر أيامه ولياليه، أو آخر ساعاته ودقائق عمره، ثم خرج من ذلك كله، والقلب لا يزداد إلا قسوة، والنفس لا تزداد إلا إعراضاً، {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}

جدير بكَ أن تختلي بنفسكِ لحظةً وتتساءل: هذه المواعظ التي سمعتُ وأعظمها مواعظ الله عزَّ وجلَّ {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} هذه المواعظ التي سمعتِ، بل هذه المواعظ التي رأيت أين كان مصيرها؟! هل زادت العبد قرباً من الله عزَّ وجلَّ؟! هل زادته بصيرة في نفسه؟ هل زادته خوفاً من الله؟! هل زادته رغبة في الجنة؟! هل زادته خوفاً من النار؟! هل زادته إقبالاً على الطاعة؟! هل زادته إعراضاً عن المعصية؟! هل زادته زهداً في الدنيا؟! أم أن العبد يسمع بأذُن ويخرج الكلام من الأذُن الأخرى، ولربما تلهب سياطُ الموعظة ظهرَه لحظات، ثم بعد ذلك يغفل في الغافلين، ويشرد في الشاردين، ولا يتذكر من ذلك شيئاً قط، إلاَّ أنه يقول: طالما سمعنا هذه المواعظ فمللنا منها، نعم يا أخي الحبيب سمعتَ الكثير، سمعتَ الخطباء في أيام الجُمَع، وسمعتَ المواعظ في المساجد، وسمعتَ الكلام في مطلع شهر رمضان، لكن السؤال الكبير الذي يجب أن تسأله نفسَك: ماذا كان أثر هذه المواعظ في قلبك؟ هل حركت ساكناً؟ هل قوَّمت معْوَجَّاً؟ هل أصلحت فاسداً؟ أم أن هذه المواعظ لا تزيد الإنسان إلا غفلة؟! ألم تسمع يا أخي! كلام حبيبي وحبيبك محمد عليه الصلاة والسلام وهو يقول فيما رواه مسلم، عن أبي مالك الأشعري، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك) رُبَّ إنسان أخذ القرآنُ بيده فأدخله الجنة، ورُبَّ آخر دفع القرآنُ في قفاه إلى النار، فهو حجة لك أو عليك؛ فهذه المواعظ هي حجة للعبد إن آمن بها وعمل، أو حجة عليه إن أعرض عنها وتنكر لها.

كلمة عن الإرهاب

قد عقد مؤتمر خلال هذا الأسبوع ضم رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، واستدعي له نحو من خمسين من حكام المسلمين، وتصدرت دعوى مكافحة الإرهاب موضوعات هذا المؤتمر الذي لم ينل المسلمون من ورائه خيرا؛ وعُلم من خطاب من دعا له – وهو الرئيس الأمريكي – أنه لا يعني بالإرهاب من قتلوا المسلمين في ميانمار، ولا من يبيدون المسلمين في سوريا والأحواز، ولا يعني بالإرهاب ما يمارس في إريتريا ولا أثيوبيا، بل لا يقصد حرب الإبادة التي يشنها اليهود الصهاينة وحلفاؤهم من منافقي العرب على إخواننا في غزة، بل سمَّى – تعييناً – المجاهدين من حماس ونحوها ممن يبذلون أرواحهم ودماءهم بحثاً عن كرامة مضيعة وحقوق مهضومة، يقاتلون لأنهم مظلومون قد احتلت ديارهم وسفكت دماؤهم فصدق فيهم قول ربنا جل جلالـه {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير. الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز} والسؤال أيها المسلمون عباد الله: من هو الإرهابي حقاً؟

الإرهابي هو من يقتل ناساً كثيرين، لا يستثنون شيخاً كبيرا، ولا امرأة عجوزاً، ولا طفلاً وليدا، ولا عاجزاً في كوخه، ويتعمد القتل من أجل انتهاب الثروات وانتهاك الأعراض وبث الرعب، الإرهابي حقاً هو من يقتل الأبرياء من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا؟ ويأخذ البريء بالمذنب ويقول: من ليس معنا فهو ضدنا.

الإرهابي حقاً هو من يصنع وينتج أداة القتل التي تهلك الحرث والنسل، ولو لم يستعملها

الإرهابي حقاً هو من لا تحكمه الأخلاق حين يحارب؛ فيعمد إلى تخير البيوت والمصانع ومحطات الكهرباء والمياه ليدمر البنية التحتية للبلد التي يريد إخضاع أهلها وإذلال أحرارها

إن هذه الأوصاف تصدق حقاً على أمريكا وحلفائها من دول أوروبا، ومن يرضى بصنيعهم، والمسلمون من هذا الوصف برآء؛ فإنهم ما قتلوا بريئاً ولا خربوا عامراً ولا قطعوا شجراً مثمراً، ولم يأخذوا بريئاً بجريرة مذنب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى