- ضرب الله التيه على بني إسرائيل {أربعين سنة يتيهون في الأرض} جزاء تمردهم على نبيهم وسوء أدبهم مع ربهم حين نكلوا عن الجهاد وقالوا لنبيهم في صفاقة وصلافة {اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون} ثم طلبوا من نبيهم الطعام في فترة التيه فأنزل الله عليهم المن والسلوى، لكنهم ما شكروا ذلك لربهم وما صبروا على النعمة ولا شكروها بل بطروا النعمة وقالوا {لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} كان هذا القول منهم في التيه حين ملوا المن والسلوى وتذكروا عيشهم الأول بمصر قال الحسن : كانوا نتانى أهل كراث وأبصال وأعداس فنزعوا إلى عكرهم عكر السوء واشتاقت طباعهم إلى ما جرت عليه عادتهم فقالوا : لن نصبر على طعام واحد وكنوا عن المن والسلوى بطعام واحد وهما اثنان لأنهم كانوا يأكلون أحدهما بالآخر فلذلك قالوا طعام واحد وقيل لتكرارهما : في كل يوم غذاء كما تقول لمن يداوم على الصوم والصلاة والقراءة: هو على أمر واحد لملازمته لذلك. وقيل : المعنى لن نصبر على الغنى فيكون جميعنا أغنياء فلا يقدر بعضنا على الاستعانة ببعض لاستغناء كل واحد منا بنفسه وكذلك كانوا فهم أول من اتخذ العبيد والخدم.
قوله تعالى {عَلَى طَعَامٍ} الطعام يطلق على ما يطعم ويشرب قال الله تعالى {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} وقال {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} أي ما شربوه من الخمر على ما يأتي بيانه. وإن كان السلوى العسل – كما حكى المؤرج – فهو مشروب أيضا
فأجابهم عليه الصلاة والسلام قَائلاً لهم مقرعاً وموبخا {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} يقول لهم: هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز، بل هو كثير في أي بلد دخلتموه وجدتموه، فليس يساوي مع دناءته وكثرته في الأمصار أن أسأل الله فيه، وكان جزاؤهم عند الله أن {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} هذا الذي جازيناهم من الذلة والمسكنة، وإحلال الغضب بهم بسبب استكبارهم عن اتباع الحق، وكفرهم بآيات الله، وإهانتهم حملة الشرع وهم الأنبياء وأتباعهم، فانتقصوهم إلى أن أفضى بهم الحال إلى أن قتلوهم، فلا كبْر أعظم من هذا، أنهم كفروا بآيات الله وقتلوا أنبياء الله بغير الحق؛ ولهذا جاء في الحديث المتفق على صحته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “الكبر بَطَر الحق، وغَمْط الناس”
- بنو إسرائيل بكفرهم النعمة جديرون بقول ربنا جل جلاله {يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون} وبقوله سبحانه {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار} وإن الله تعالى قد حذرنا معشر أهل الإيمان من كفران النعم {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} وعن فضالة بن عبيد- رضي اللّه عنه- أنّه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم: «ثلاثة من العواقر: إمام إن أحسنت لم يشكر، وإن أسأت لم يغفر، وجار سوء إن رأى خيرا دفنه، وإن رأى شرّا أذاعه، وامرأة إن حضرت آذتك، وإن غبت عنها خانتك». ومن كفران النعمة أن يمنع الإنسان عن أخيه ما لا يضره بذله؛ فعن أبي هريرة- رضي اللّه عنه- قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم: «ثلاثة لا يكلّمهم اللّه يوم القيامة ولا ينظر إليهم: رجل حلف على سلعة لقد أعطي بها أكثر ممّا أعطي وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال امرىء مسلم، ورجل منع فضل ماء فيقول اللّه يوم القيامة: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك».
- ما زالت الأحداث في مصر تتوالى، من تقتيل الصالحين وسجن الدعاة المصلحين، والسعي لتغيير الدستور الذي أقره الشعب ورضيه، وقد انطلقت ألسنة الشامتين الشانئين ممن تجردوا من كل قيمة إنسانية وأخلاقية، يظهرون الفرح والسرور بتلك المقتلة التي تئن لها السموات والأرض والجبال؛ لكن إذا أصيب في أخلاقهم فأقم عليهم مأتماً وعويلا. وقد أغرى ذلك عدو الله ورسوله الجاثم على صدور إخواننا في بلاد الشام فأحدث في الناس مقتلة عظيمة باستخدام الغازات السامة؛ فرأينا جثث الأطفال والنساء والرجال مرصوصة حتى اضطروا لدفنهم في مقابر جماعية، وقتل في يوم واحد ألفاً وثلاثمائة في مشهد تقعشر له الأبدان؛ وكأنه لما رأى أخاه في الفجور فرعون مصر ووزير داخليته الكذاب الأشر يقتلون في يوم واحد ثلاثة آلاف أو يزيدون، بادر هو إلى قتل نصفهم آمناً من المؤاخذة والعتاب؛ لأن هذه الصنائع الاستبدادية قد أجمعت أمرها على إبادة المسلمين، وقد أخذوا الضوء الأخضر من أسيادهم الصليبيين واليهود
- إننا على يقين لا يتزعزع وإيمانٍ راسخ لا تهزه العواصف وأملٍ بالله ليس له حدود، وموعدٍ ربانيٍ مع آيات الكتاب العزيز {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} {وسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} وهذا الوعد لمن رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم -نبياً ورسولاً، وآمن بأن شريعة الله قادرة على إسعاد البشرية في الدنيا والآخرة وفي مجتمعاتها ودولها.
ولنا في التاريخ والحاضر عبرة كان للجيش التركي فيما مضى من الزمان صولة وجولة حيث أفسد الحياة السياسية والاقتصادية وسجن الدعاة إلى الله ومنعهم من ممارسة العمل السياسي وكان هذا في عام 1998م، وإذا هي دورة من الزمان، فإذا بالجيش التركي يكون في ثكناته وتتغير عقيدته السياسية، ورئيس الأركان في السجن، والشعب التركي يختار قادته من خلال صندوق الاقتراع وإذا بقادة العمل السياسي المدني الجدد يضربون أروع الأمثلة في البناء الاقتصادي، والانفتاح السياسي والإصلاح والاجتماعي ومعالجة البطالة والفقر.
وكأني أنظر عبر سنن الله وقوانينه ونواميسه الغلابة إلى مستقبل مشرق لمصر ومن حولها ونهوض حضاري شامل في أرض الكنانة، اما المفسدون والمجرمون فبإذن الله بين احكام قضائية عادلة تجعل منهم عبرة لغيرهم فما بعد الابتلاء والمحن الا المنح والتمكين، فلن تجد لسنّة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلا، إنه صراع بين الشورى والاستبداد، والعدل والظلم، والنور والظلام، والحق والباطل، والخير والشر، وستنتصر بإذن الله القيم الإنسانية الرفيعة المغروسة في فطرة الإنسان والمؤيدة بتعاليم الإسلام في الجولة القادمة لا محالة .