1ـ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم هي أزكى سيرة وأنضرها، وخيرها وأعطرها، وأبركها وأكرمها، وليس فيها ما يعاب أو يُكره أو يُستحيا منه، وما زال المسلمون الصالحون لحديث السيرة يطربون، وعلى تذاكُرها حريصون، وبمجالسها مستبشرون، ومهما استعادوها لا يملون؛ لأنها سيرة من تعبَّدهم الله عز وجل بحبه، وأمرهم بالاقتداء بهديه والائتساء بسنته صلوات الله وسلامه عليه )لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا(
2ـ ولم تُعن أمة من الأمم في القديم والحديث بآثار نبيها وحياته وكل ما يتصل به من قريب أو بعيد، مثلما عُنيت الأمة الإسلامية في تاريخها الطويل، وقد كان من آثار تلك العناية هذه الثروة الطائلة من الكتب المؤلَّفة في مولده صلى الله عليه وسلم وسيرته وحياته وشمائله وفضائله وخصائصه ومعجزاته وأخلاقه وآدابه وأزواجه وأولاده وأجداده وجداته وأحفاده ونسبه من لدن جدِّه الأعلى خليل الرحمن وابنه الذبيح عليهما السلام وخدمه ومماليكه وسراريه ومرضعاته وحاضناته، بل بلغت العناية من كتَّاب السير أن بحثوا في نياقه وبغاله وحميره وأسمائها ونعاله ومطهرته وسواكه وغير ذلك مما يدل على غاية الحب، وعلى أن سيرته صلى الله عليه وسلم كتاب مفتوح للعالمين ليس فيه غوامض ولا أسرار؛ فكل من هدى الله قلبه أمكنه أن يسبر غورها وأن يحيط بها كلها في علاقاته الإنسانية بأزواجه وأولاده وأصحابه وخدمه وأحواله السياسية مع حلفائه وأعدائه وأمكنه أن يحيط كذلك بأخلاقه في زهده وتواضعه وحلمه وصفحه وكرمه وجوده وشجاعته وبسالته وعبادته.
3ـ أول من عُرف بالمغازي والسير جماعة منهم: أبان بن عثمان بن عفان وعروة بن الزبير بن العوام ومحمد بن شهاب الزهري، ثم جاء بعدهم عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان الأنصاري وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، ثم جاء بعدهم موسى بن عقبة ومحمد بن إسحاق بن يسار المطلبي والواقدي محمد بن عمر بن واقد مولى بني هاشم، ثم جاءت بعد ذلك طبقة أخرى من مشاهيرهم: أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري ومحمد بن سعد.
4ـ من أين نأخذ سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم وكيف نتعامل مع الأخبار التي رويت فيها؟ إن خير معين للسيرة كتاب ربنا سبحانه وتعالى حيث حفلت آياته بالكثير من ذكر أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ومغازيه؛ فنجد في القرآن حديثاً عن نعمة الله على نبيه صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى )ألم يجدك يتيماً فآوى ووجدك ضالاً فهدى ووجدك عائلاً فأغنى( وقوله تعالى )ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك ورفعنا لك ذكرك( وقوله تعالى )وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عظيما( وحديثاً عن نسبه الزكي كما في قوله تعالى )الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين( كما أن في القرآن حديثاً عن بدايات الدعوة وتنزل الوحي وحديثاً عما لقيه النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين وإعراض المكذبين، وحديثاً عن الهجرة ومراحلها وحديثاً عن الجهاد والغزوات كالأحزاب وبدر وأحد والحديبية وبني النضير وحديثاً عن الإفك وتخرصات المشركين وأراجيف المنافقين، القرآن هو المرجع الأول في دراسة السيرة لأنه الكتاب المتواتر الذي يفيد القطع واليقين ولا يتطرق إليه الشك والارتياب. ولدراسة السيرة من خلال كتاب الله ميزات عديدة منها: أن مدارسته عبادة عظيمة، وكونه قد اشتمل على إشارات تفصيلية لا توجد في مصدر آخر كما في أحداث زواج زينب رضي الله عنها، مع دقة وصفه للأحداث والشخوص؛ حتى إنه ليصور نبضات القلب وتقاسيم الوجه وخلجات الفؤاد، وتركيزه على خصائص سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم مثل كونه بشراً وأن رسالته عامة، وأنه خاتم النبيين، مع بيانه لحكمة الحدث ونتائجه.
5ـ بعد القرآن تأتي الأحاديث الصحيحة أو الحسنة أو المقبولة، فما من كتاب من كتب الحديث في الصحاح والسنن والمسانيد والمصنفات إلا وقد حوى كتاباً عن الشمائل والمغازي والحديث عن أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هذا مع وجوب استبعاد الروايات الشديدة الضعف وكذلك الأخبار المكذوبة والإسرائيليات التي حشيت بها بعض الكتب الحديثية.
6ـ ثم يأتي الاعتماد على كتب التاريخ والسِّيَر قديمها وحديثها، مع البحث والتمحيص والموازنة، فإذا تعارضت رواية ابن إسحاق مثلاً مع ما في الصحيحين أو أحدهما فلا شك أن رواية الصحيح مقدمة، ولا تُقبل رواية تصادم عقلاً أو تخالف نقلاً متواتراً أو صحيحاً أو يمس عصمة النبي صلى الله عليه وسلم
7ـ إن كثيرين من المبشرين والمستشرقين قد تحاملوا على النبي صلى الله عليه وسلم استجابة لنداء الصليبية التي ورثوها من آبائهم ورضعوها في لبان أمهاتهم؛ ورموه بأشنع الصفات التي يتنزه اللسان عن ذكرها، وأسفوا في ذلك غاية الإسفاف، وقد استندوا في طعونهم وسفاهاتهم إما على روايات باطلة اعتبروها صحيحة، وإما على روايات صحيحة حرفوها عن مواضعها، وإما على أوهام تخيلوها، فنجدهم يحفلون مثلاً بالحديث عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وعن قصة زواجه بزينب بنت جحش ويهتمون بقصة الغرانيق وهي باطلة مكذوبة فيبدؤون ويعيدون ويلوكونها بأفواههم.
8ـ ينبغي أن تنطلق دراسة السيرة من اليقين بعزة الإسلام وأحقيته في الحكم والسيادة، وأن الله لا يقبل ديناً سواه، وأنه لا يفهم إلا من خلال دراسة السيرة، ولذا وجب البعد عن الروح الانهزامية في تحرير السيرة وتحليلها، وخاصة في الجهاد.