أولاً: التسليم والانقياد لشرع الله تعالى:
نحتاج إلى ترويض عقولنا ونفوسنا كي تنقاد لشرع الله تعالى بكل تسليم وخضوع، كما قال سبحانه: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} فالحج خير مثال لتحقيق هذا التسليم، فإنّ تنقل الحجاج بين المشاعر، وطوافهم حول البيت العتيق، وتقبيلهم للحجر الأسود، ورمي الجمار… وغيره كثير: كل ذلك أمثلة حية لتحقيق هذا الانقياد لشرع الله تعالى، وقبول حكم الله عز وجل بكل انشراح صدر، وطمأنينة قلب.
لقد دعا إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام فقالا: {ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم} لقد دعوا لنفسيهما، وذريتهما بالإسلام، الذي حقيقته خضوع القلب وانقياده لربه المتضمن لانقياد الجوارح.
ورضي الله عن الفاروق عمر إذ يقول عن الحجر الأسود: (إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبلك ما قبلتك) يقول الحافظ ابن حجر: وفي قول عمر هذا التسليم للشارع في أمور الدين، وحسن الاتباع فيما لم يكشف عن معانيها، وهو قاعدة عظيمة في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيما يفعله ولو لم يعلم الحكمة فيه.
ويقول قوام السنة إسماعيل الأصفهاني رحمه الله: ومن مذهب أهل السنة: أن كل ما سمعه المرء من الآثار مما لم يبلغه عقله، فعليه التسليم والتصديق والتفويض والرضا، لا يتصرف في شيء منها برأيه وهواه.
ويقول ابن القيم رحمه الله: إن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله على التسليم، وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع، ولهذا لم يحك الله سبحانه عن أمة نبي صدقت نبيها وآمنت بما جاء، أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما، ونهاها عنه، وبلغها عن ربها، بل انقادتْ، وسلمتْ، وأذعنت، وما عرفت من الحكمة عرفته، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها وإيمانها واستسلامها بسبب عدم معرفته، وقد كانت هذه الأمة التي هي أكمل الأمم عقولاً ومعارف وعلوماً لا تسأل نبيها لِمَ أمر الله بذلك؟ ولِمَ نهى عن ذلك؟ ولِمَ فعل ذلك؟ لعلمهم أن ذلك مضاد للإيمان والاستسلام”.
ثانياً: إقامة التوحيد:
إن هذه الشعيرة العظيمة قائمة على تجريد التوحيد لله وحده لا شريك له؛ قال سبحانه: {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ألا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود}.
وحذر سبحانه من الشرك ونجاسته، فقال عز وجل: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور * حنفاء لله غير مشركين به}.
بل من أجل تحقيق التوحيد لله وحده، والكفر بالطاغوت، شُرع للحاج أن يستهل حجه بالتلبية قائلاً: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك).
ومن أجل تحقيق التوحيد شُرع للحاج أن يقرأ في ركعتي الطواف بعد الفاتحة بسورتي الإخلاص قل هو الله أحد، وقل يا أيها الكافرون، كما كان يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم.
كما شَرعَ الله تعالى التهليل عند صعود الصفا والمروة، فيستحب للحاج والمعتمر أن يستقبل القبلة عند صعوده الصفا والمروة ويحمد الله ويكبره ويقول: (لا إله إلا الله، والله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحي ويميت، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده).
ومن أجل تحقيق التوحيد أيضاً كان خير دعاء يوم عرفة أن يقال: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحي ويميت، وهو على كل شيء قدير).
وفي مناسك الحج وشعائره تربيةٌ للأمة على إفراد الله سبحانه بالدعاء والسؤال والطلب، والرغبة إليه، والاعتماد عليه، والاستغناء عن الناس، والتعفف عن سؤالهم، والافتقار إليهم؛ فالدعاء مشروع في الطواف والسعي، وأثناء الوقوف بعرفة، وعند المشعر الحرام، وفي مزدلفة، كما يشرع الدعاء وإطالته بعد الفراغ من رمي الجمرة الصغرى والوسطى في أيام التشريق.
ثالثاً: تعظيم شعائر الله تعالى وحرماته:
قال الله تعالى بعد أن ذكر أحكاماً عن الحج: {ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه}. والحرمات المقصودة هاهنا أعمال الحج المشار إليها في قوله تعالى: {ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم} وقال سبحانه: {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب}، فتعظيم مناسك الحج عموماً من تقوى القلوب.
وتعظيم شعائر الله تعالى يكون بإجلالها بالقلب ومحبتها، وتكميل العبودية فيها؛ يقول ابن القيم رحمه الله: وروح العبادة هو الإجلال والمحبة، فإذا تخلى أحدهما عن الآخر فسدت.
ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تزال هذه الأمة بخير ما عظموا هذه الحرمة يعني: الكعبة حق تعظيمها، فإذا ضيعوا ذلك هلكوا).
رابعاً: محبة الرسول صلى الله عليه وسلم:
إن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم من أجل أعمال القلوب، وأفضل شعب الإيمان، ومحبة الرسول توجب متابعته والتزام هديه، وإن التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء القيام بمناسك الحج سبب في نيل محبته، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني مناسككم)، وفي اتباع النبي صلى الله عليه وسلم تحقيق لمحبة الله تعالى؛ كما قال سبحانه: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}.
خامساً: تحقيق الولاء بين المؤمنين والبراءة من المشركين:
كم هو محزن حقاً تفرق المسلمين شيعاً وأحزاباً.. وتمزقهم إلى دول متعددة ومتناحرة.. وقد غلبتْ عليهم النعرات الجاهلية المختلفة، وإن فريضة الحج أعظم علاج لهذا التفرق والتشرذم، فالحج يجمع الشمل، وينمي الولاء والحب والنصرة بين المؤمنين، وإذا كان المسلمون يجمعهم مصدر واحد في التلقي الكتاب والسنة وقبلتهم واحدة، فهم في الحج يزدادون صلة واقتراباً، حيث يجمعهم لباس واحد، ومكان واحد، وزمان واحد، ويؤدون جميعاً مناسك واحدة.
كما أن في الحج أنواعاً من صور الولاء للمؤمنين: حيث الحج مدرسة لتعليم السخاء والإنفاق، وبذل المعروف أياً كان، سواء أكان تعليم جاهل، أو هداية تائه، أو إطعام جائع، أو إرواء غليل، أو مساعدة ملهوف.
وفي المقابل: ففي الحج ترسيخ لعقيدة البراء من المشركين ومخالفتهم؛ يقول ابن القيم: استقرت الشريعة على قصد مخالفة المشركين لا سيما في المناسك.
لقد لبى النبي صلى الله عليه وسلم بالتوحيد، خلافاً للمشركين في تلبيتهم الشركية، وأفاض من عرفات مخالفاً لقريش حيث كانوا يفيضون من طرف الحرم، كما أفاض من عرفات بعد غروب الشمس مخالفاً أهل الشرك الذين يدفعون قبل غروبها.
ولما كان أهل الشرك يدفعون من المشعر الحرام مزدلفة بعد طلوع الشمس، فخالفهم الرسول صلى الله عليه وسلم، فدفع قبل أن تطلع الشمس.
وأبطل النبي صلى الله عليه وسلم عوائد الجاهلية ورسومها كما في خطبته في حجة الوداع، حيث قال: (كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع)؛ يقول ابن تيمية: وهذا يدخل فيه ما كانوا عليه من العادات والعبادات، مثل: دعواهم يا لفلان، ويا لفلان، ومثل أعيادهم، وغير ذلك من أمورهم.
سادساً: تذكر اليوم الآخر واستحضاره:
فإن الحاج إذا فارق وطنه وتحمل عناء السفر: فعليه أن يتذكر خروجه من الدنيا بالموت إلى ميقات القيامة وأهوالها.
وإذا لبس المحرم ملابس الإحرام: فعليه أن يتذكر لبس كفنه، وأنه سيلقى ربه على زي مخالف لزي أهل الدنيا.
وإذا وقف بعرفة: فليتذكر ما يشاهده من ازدحام الخلق وارتفاع أصواتهم واختلاف لغاتهم، موقف القيامة واجتماع الأمم في ذلك الموطن؛ قال ابن القيم: فلله ذاك الموقف الأعظم الذي… كموقف يوم العرض، بل ذاك أعظم