إن الله تعالى بعدما أمرنا بالصلاة التي هي عبادة البدن، ثنى بالزكاة التي هي عبادة المال، ابتلانا الله تعالى ببذل أموالنا التي هي أثيرة عندنا حبيبة إلى نفوسنا؛ وجعل ذلك من خصال البر فقال جل من قائل {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة} وجعلها من خصال المؤمنين {والذين هم للزكاة فاعلون}
إن الإسلام فرض على الأغنياء في أموالهم حقاً معلوماً للسائل والمحروم، ولما احتج الجاحدون منهم بمشيئة الله وقدرته ردّ عليهم زعمهم ورماهم بصفة الضلال المبين، قال تعالى {وإذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إنْ أَنتُمْ إلاَّ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} إنهم في ضلال مبين؛ لأنهم لو عقلوا لعلموا أن الله قد أراد أن يرزق الناس بعضهم من بعض، وأن يتعاونوا على رد قدر الله من الفقر بقدر الله من التكافل وحسن توزيع الثروات وإيجاد فرص العمل وأسباب الرزق.
إذ من طبيعة الإنسان بدون تزكية الأديان أن يتهم الله عز وجل كما قال سبحانه عنه{إذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ}وقد قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه بين الفقر والكفر فقال {اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر} وقال في الحديث الذي أخرجه أبو نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب والطبراني في الأوسط وضعَّف العراقي سنده {كاد الفقر أن يكون كفراً} وأوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الحاجة والطمع في المال تدفع المرء إلى بيع دينه، كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة {يبيع أحدهم دينه بعرضٍ من الدنيا قليل}
وفي مجال الأخلاق والسلوك: الفقر والفاحشة تعد الحاجة والفقر من الأسباب الرئيسة التي تقف وراء الرذائل والفواحش؛ إذ يكون الفقر في حال غياب الإيمان أو ضعفه أقوى من مراقبة الله والخوف منه والاستجابة لنداء الضمير، لذا قيل: (صوت المعدة أقوى من صوت الضمير).
ودلالة الاقتران بين الفقر والفاحشة واضحة في النصوص الحديثية الصحيحة الآتية: الحديث المتفق عليه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال {قال رجل: لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون: تُصدِّق الليلة على سارق!! فقال: اللهم لك الحمد على سارق!! لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على زانية!! فقال: اللهم لك الحمد على زانية!! لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على غني!! فقال: اللهم لك الحمد على سارق وزانية وغني؛ فأُتي فقيل له: أمَّا صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما صدقتك على زانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما صدقتك على غني فلعله أن يعتبر فينفق مما أعطاه الله}
وفي الحديث المتفق عليه من رواية ابن عمر رضي الله عنهما عن الثلاثة الذين آواهم المبيت أو ألجأهم المطر إلى الغار، فسقطت الصخرة وسدت عليهم باب الغار، فأشار بعضهم على بعض بالتوسل إلى الله بصالح الأعمال لينجوا من الموت والهلكة، فقال أحدهم {اللهم كانت لي ابنة عم كانت أحب الناس إليَّ فأردتها عن نفسها (راودتها) فامتنعتْ مني حتى ألمت بها سنةٌ من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلِّي بيني وبين نفسها، ففعلت؛ حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أُحِلُّ لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرَّجتُ من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إليَّ…
ما الذي جعل المرأة العفيفة توافق على أن تخلي بينها وبين نفسها لابن عمها؟! إنها الحاجة والفقر: (ألمت بها سنة من السنين)، وهذا هو الشاهد!! ثم ما الذي حفظها وابن عمها من الفاحشة؟! إنه الإيمان وتقوى الله الذي نادت به ابن عمها: (اتق الله).وقد قيل:
إذا قلَّ مال المرء قلَّ بهاؤه وضاقت عليه أرضه وسماؤه
وأصبح لا يدري وإن كان دارياً قدامه خير له أم وراؤه
قال أهل العلم: الصدقة أفضل من الجهاد في حال الحاجة والفاقة والمسغبة، وأفضل من الحج؛ لأنها متعدية والحج قاصر؛ ففي الصدقة تفريج كربة، وإغناء عن سؤال، وإشباع لجائع ، وفرحة لصغير، وإعفاف لأسرة، وسرور يدخل على قلب شيخ كبير
من الأحاديث في فضل الصدقة قوله صلى الله عليه وسلم {اتقوا النار ولو بشق تمرة} وقوله {الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار} وقوله {ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه} وكان عليه الصلاة والسلام لا يرد سائلاً، وبشَّر المنفق بالزيادة {ما نقص مال من صدقة}
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم على حال من الكمال في التسابق إلى النفقة في أبواب الخير وصنوف البر:
- قول عمر بن الخطاب t {اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً}
- ما كان من أبي طلحة الأنصاري t وتصدقه ببيرحاء
في الصدقة عشر خصال محمودة، خمسة منها في الدنيا وهي: تطهير المال، وتطهير البدن، ودفع البلاء والأمراض، وإدخال السرور على المساكين، وفيها بركة المال، وأما التي في الآخرة: فالصدقة تكون ظلاً لصاحبها من حر يوم القيامة، وفيها خفة الحساب، وتثقيل الميزان، وجواز على الصراط، وزيادة الدرجات في الجنة
يا مسلم: إن المال الذي تمسكه وتبخل به مصيره كما قال عليه الصلاة والسلام {يقول ابن آدم: مالي مالي، وإنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو تصدق فأبقى، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس}فأطلق يدك، وثق بالخلف من الله }الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا{ أبشر أيها المنفق ببشارة الله من فوق سبع سموات }الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون{ ولا تكن ممن قال الله فيهم }الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله{ وقال سبحانه }ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء{ سارع إلى النفقة }من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة{
ما أصاب المسلمين في أبي كرشولا وما حولها
عباد الله: إن إخواناً لنا قد ابتلاهم الله تعالى بعدو صائل لا يرجو لله وقاراً، أخرجهم من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، وقد انتهك حرماتهم وسفك دماءهم واعتدى عليهم؛ ابتلاهم الله بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، فخرجوا من بيوتهم لا يلوون على شيء؛ قد ذهبت أموالهم، وأتلفت مزارعهم؛ فصاروا بلا مأوى ولا مال، يعانون حرارة الشمس بالنهار، وبرودة الطقس بالليل، قد عضهم الجوع بنابه، ينتظرون إخوانهم المسلمين وما يجودون به، فالله الله فيهم لا تضيعوهم ولا تخذلوهم، ابذلوا لهم ما تستطيعون؛ فإن صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب، ومن نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة )والله لا يضيع أجر المحسنين( وفروا المأوى لمن لا مأوى له، وابذلوا الطعام لمن احتاج إليه؛ فخير الإسلام إطعام الطعام وأن تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف، وما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفا، وما نقصت صدقة من مال، ومن تصدق بعدل تمرة من كسب طيب؛ فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل )وما تنفقوا من خير فلأنفسكم(
- قال ابن مسعود رضي الله عنه : يحشر الناس يوم القيامة أعرى ما كانوا قط، وأجوع ما كانوا قط، وأظمأ ما كانوا قط، وأنصب ما كانوا قط، فمن كسا لله جل جلاله كساه الله، ومن أطعم لله Uأطعمه الله، ومن سقى لله عز وجل سقاه الله، ومن عفا لله عز وجل أعفاه الله. رواه المنذري في الترغيب والترهيب.
- إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها، وبطونها من ظهورها، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: هي لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وصلى لله بالليل والناس نيام. رواه أحمد والترمذي والحاكم وصححه
ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفا. رواه الشيخان