1ـ يقول الله سبحانه مخاطباً عباده المؤمنين {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: يحذر تعالى عباده المؤمنين عن سلوك طَرَائق الكفار من أهل الكتاب، ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين، مع علمهم بفضلهم وفضل نبيهم. ويأمر عباده المؤمنين بالصفح والعفو والاحتمال، حتى يأتي أمر الله من النصر والفتح.ا.هــــــ
ويقول السعدي رحمه الله تعالى: أخبر عن حسد كثير من أهل الكتاب، وأنهم بلغت بهم الحال، أنهم ودوا {لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا} وسعوا في ذلك، وأعملوا المكايد، وكيدهم راجع عليهم كما قال تعالى: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وهذا من حسدهم الصادر من عند أنفسهم. فأمرهم الله بمقابلة من أساء إليهم غاية الإساءة بالعفو عنهم والصفح حتى يأتي الله بأمره.ا.هــــ
وفي هذا المعنى قوله سبحانه {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم} وقوله سبحانه {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا} وقوله جل جلالـه {لا يألونكم خبالا ودودا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر}
هذه العداوة أيها المسلمون وهذا الحسد والمكر الكبار كان على أيام رسول الله صلى الله عليه وسـلم حين أراد اليهود قتله مرارا، وعملوا على فتنة المسلمين عن دينهم تكرارا، {وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون} وسعوا في إيقاع العداوة والبغضاء بين الأوس والخزرج، وحرضوا كفار قريش على غزو المدينة حيناً بعد حين، ونشطوا في إطفاء نور الله بأفواههم؛ وهكذا دولة النصارى في الشام وما حولها عمدوا إلى التخطيط لغزو المدينة فالتقوا مع المسلمين في مؤتة، ثم كان موعد في تبوك، واستعملوا عملاءهم العرب من الغساسنة وغيرهم، لكن ردهم الله خاسئين خاسرين، وباؤوا بغضب على غضب، وضربت عليهم الذلة والمسكنة، ونصر الله عز وجل عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده. وهكذا تتابعت مؤامرات اليهود حتى قتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه وتفرق المسلمون وما اجتمعوا بعده على إمام واحد.
- وبعد هذا كله هل يئس الذين كفروا من أهل الكتاب من حرب الإسلام وأهله؟ وهل كفوا أيديهم عن إيذاء المسلمين؟ اللهم لا بل طفقوا يحاربون الإسلام في كل واد، وما انفكوا يشنون الحملات لتشويهه وصد الناس عنه؛ فجاءت الحملات الصليبية واحدة تلو الأخرى لتحتل بلاد المسلمين وتسفك دماءهم، وبعد سبع حملات صليبية فاشلة في مائتي سنة، يؤسَر قائد الحملة الصليبية السابعة ملك فرنسا لويس التاسع في مصر على يد المماليك، ثم يطلق سراحه من سجن المنصورة بفدية مالية كبيرة، فيقسم الأيمان المغلظة ألا يعود لحرب المسلمين، ثم يطلب من الصليبيين في وصيته قبل وفاته، أن يغيِّروا خططهم في غزو المسلمين، ويتحولوا من القتال العسكري إلى الغزو الفكري فكانت بداية الحركة الاستشراقية.
ولا يزال التاريخ يعيد نفسه، والسيناريو يتكرر، عندما أعلن بوش الحرب الصليبية على بلاد المسلمين ولقي هزيمة نكراء في العراق وأفغانستان، فارتفعت الأصوات بانتخاب أوباما والتحول من الحرب الغاشمة إلى الحرب الناعمة. جاء أوباما بعد بوش، ومنذ انتخاب هذا الرجل وعقلاء الأمة يتخوفون من تحول الوجه الأمريكي من القوة الغاشمة إلى القوة الناعمة وفق ما تقتضيه المرحلة القادمة. إن جرائم بوش وإن كانت فظيعة، لكنها بوضوحها أيقظت الأمة، وفضحت أمريكا الظالمة، وأسقطت أقنعتها الكاذبة. ثم جاء أوباما ليغسل وجه أمريكا الذي لوثته دماء المسلمين، فخطب الأمة من قاهرة المعز، بخطاب ذكي كتب وألقي ببراعة، لم يستعمل فيه عبارات بوش كالحرب على الإرهاب، بل أشاد في خطابه بحضارة الإسلام واستشهد بعدد من الآيات القرآنية. وبالفعل كسب ود وتصفيق الآلاف من السذج، كالضعيف المظلوم الذي يفرح بأدنى تعاطف وتقدير من الظالم القوي.
والتاريخ يعيد نفسه. نقل المؤرخ الجبرتي أن نابليون بونابرت الذي احتل مصر وخرب الأزهر الشريف واتخذ من أروقته اسطبلاً لخيوله، عندما دخل مصر جمع العلماء والمشايخ وألقى فيهم خطابًا تاريخيًا استفتحه بالبسملة استشهد فيه بالآيات القرآنية قائلاً: (بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله، لا ولد له ولا شريك له في ملكه.. أيها المشايخ والأئمة، قولوا لأمّتكم إن الفرنساوية هم أيضًا (مسلمين)، وإثبات ذلك أنهم قد نزلوا في روما الكبرى وخرّبوا فيها كرسي البابا الذي كان دائمًا يحث النصارى على محاربة الإسلام. علق عليه الجبرتي بقوله: “تمويهات على العقول بفاسد التخيلات التي تنادي على بطلانها بديهة العقل فضلا عن النظر”، ثم تهكم الجبرتي بقوله “إن الفرنساوية هم أيضا مسلمين” فقال: قوله مسلمين صوابه الرفع، ونكتة العدول إلى النصب إشارة إلى أن إسلامهم نصب. وأبى الشعب المصري الأبي أن يسكت عن هذا المحتل، وجاهده بكل ما يملك من قوة حتى طرده وجيشه. ويصدق عليه قول القائل:
برز الثعلب يوماً في ثياب الواعظينا، فمشى في الأرض يهذي ويسب الماكرينا، يا عباد الله توبوا فهو كهف التائبينا، واتركوا الديك يؤذن لصلاة الصبح فينا، فأتى الديك رسول من إمام الناسكينا، عرض الأمر عليه ورجاه أن يلينا، فأجاب الديك مهلاً يا أضل المهتدينا، سائلو التاريخ عنا عن جدود سالفينا، من ذوي التيجان فينا ممن دخل البطن اللعينا، مخطىء من ظن يوما أن للثعلب دينا
فما حقيقة هذه الحرب، وما موقفنا منها؟ فإن الله تعالى يقول: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} ويقول أيضًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} ويقول {وخذوا حذركم} ويقول سبحانه {وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم} ويقول {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} ويقول {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ}
- والقوم في حربهم للإسلام لا يصدرون عن غضبة سريعة ولا يمارسون إجراءات منفعلة، ولا هم بالحمقى الذين تستفزهم المصائب أو تستهلكهم الأزمات، بل كل قرار بحرب أو سلم إنما يكون بعد دراسة متأنية وقراءة للواقع سليمة، وقد روى مسلم في صحيحه أن الْمُسْتَوْرِدَ الْقُرَشِىّ قال عِنْدَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرُّومُ أَكْثَرُ النَّاسِ». فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو أَبْصِرْ مَا تَقُولُ. قَالَ أَقُولُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ إِنَّ فِيهِمْ لَخِصَالاً أَرْبَعًا إِنَّهُمْ لأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ، وَأَسْرَعُهُمْ إِفَاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ، وَأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ، وَخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ وَيَتِيمٍ وَضَعِيفٍ، وَخَامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ ظُلْمِ الْمُلُوكِ.
هناك دراسات كثيرة، من أهمها دراسات مؤسسة راند.. ولماذا هذه المؤسسة بالذات؟ راند مؤسسة فكرية بحثية تابعة للقوات الجوية الأمريكية، وهي أهم مؤسسة فكرية مؤثرة على صناعة القرار في الإدارة الأمريكية، خاصة فيما يتعلق بالشرق الأوسط.
- ومن أبرز ما أصدرته مؤسسة راند تقريران خطيران:
التقرير الأول: نشر في عام 2004م بعنوان (الإسلام المدني الديمقراطي: الشركاء والموارد والاستراتيجيات) يهدف التقرير إلى تغيير الإسلام من خلال فهم طبيعة المنطقة؛ وتقسيم المسلمين إلى أربع فئات: مسلمين أصوليين أو متشددين، ومسلمين تقليديين، ومسلمين عصرانيين أو حداثيين، ومسلمين علمانيين.
أما فئة الأصوليين فتضم السلفيين السنة، و(الوهّابيين) كما يزعمون، وأتباع تنظيم القاعدة، وهؤلاء يعادون الديمقراطية والغرب، ويتمسكون بالجهاد وبالتفسير الدقيق للقرآن، ويريدون أن يعيدوا الخلافة الإسلامية، وهم متمكنون في الحجّة واستخدام العلم والوسائل الحديثة. ويوصي التقرير بمحاربتهم والقضاء عليهم، وتشويه فهمهم للإسلام، وإظهار عدم قدرتهم على الإدارة والسياسة ومواكبة الحياة، وتشجيع الصحفيين لنشر قضايا الفساد والخيانة ضدهم.
أما التقليديون وهم زوار الأضرحة وأرباب التصوف، فلهم رؤى معتدلة في العموم، وبعضهم قريب من الأصوليين، وهؤلاء يجب تأييدهم ضد الأصوليين، وإشعال الاختلاف والفتنة بين الطائفتين.
هناك أمور محددة في الفكر الصوفي من أجلها سيركز الغرب على هذا التيار, حيث إن مخرجات التصوف تتناسب جدًّا مع ما يفكر الغرب في أن يكون عليه المجتمع المسلم في هذه المرحلة، وسأضرب لك بعض الأمثلة:
الغرب (أمريكًا تحديدًا) يهتم جدًّا بمسألة وحدة الأديان، والتي تضمن له إطفاء أي عداوات دينية قد تنشأ بسبب توسعاته وأطماعه في العالم، وفكرة وحدة الوجود في الفكر الصوفي مؤداها وحدة الأديان، كما يقول ابن عربي:
لقد صار قلبي قابلًا كل صورة… فمرعى لغزلانٍ ودير لرهبان
وبيتٌ لأوثان وكعبة طائف… وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت… ركائبه فالحب ديني وإيمان
مثال آخر، اشتغال المتصوفة طوال حياتهم بتهذيب النفس والتزهيد في الدنيا وفي الدخول في معتركها يخدم الغرب في إنتاج مجتمع مسلم لا يرفض علمانية سياسية ولا رأسمالية اقتصادية، بل إن هذه الأمور لن تكون ضمن حساباته الدينية المنحصرة فقط في الجانب الروحي والأخلاقي.
وأيضًا الغرب بحاجة إلى مسلم مستسلم مهزوم أمام حضارته، ومخرجات الفكر الصوفي في جانب الإيمان بالقدر تؤمن له مثل هذا الاستسلام.. وهكذا الأمر ببساطة مؤلمة.
الإسلام الذي يريده الغرب هو الإسلام الذي ينسجم مع وجود المسجد والخمارة والشاطئ المتفسخ جنبًا إلى جنب دونما حرج، حيث لا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر، وإنما هو إسلام فردي روحي لا أثر له في الواقع.
هو الإسلام الذي لا يرى فيه المسلم أنه متميز بعقيدة أو ثقافة أو لغة أو حتى ملبس.
هو الإسلام الخامل المستهلك لنتاج الغرب الاقتصادي دونما إحساس أو شعور بخطر.
هو الإسلام الذي يتبرأ من عبارة “دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله” نظريًا، ويطبقها عمليًا.
هذه بعض ملامح الإسلام الذي يريده الغرب ويخدمه التصوف –من حيث يشعر أو لا يشعر – في الوصول إليه.
وأما الحداثيون أو العصرانيون الذين يريدون مسخ الإسلام ليتعايش مع العصر. ومعهم العلمانيون الذين يرون فصل الدين الحياة، فهم الأقرب إلى الغرب في المبادئ والسياسات، لكنهم في موقف ضعيف، فيجب مساندتهم، ونشر أعمالهم في الإعلام والمناهج، وتوفير الدعم الشعبي لهم، وتطوير منظماتهم المدنية.
ويتحدث التقرير عن قضايا أخرى من منظور تغريبي مشوه، مثل الديموقراطية وحقوق الإنسان، وتعدد الزوجات، والقوانين الجنائية في الإسلام كقطع الأيدي ورجم الزناة، والأقليات والأديان الأخرى، ولباس المرأة، وضرب الزوجات، واختتم التقرير بالتشكيك في جمع القرآن ونقله.
- إنهم يعملون ويخططون، ويكيدون ويمكرون، {ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} ورغم الخطر نقول: تضمنت التقارير اعترافاً بالفشل وتناقضاً وتخبطاً، يدل على أن أمريكا فَشَلت ولا زالت تفشَل بحمد الله في حربها على الإسلام، {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}
هذه نداءات عاجلة:
النداء الأول: إلى قادة الأمة وحكامها.. يا قادة الأمة: إن كان بقي فيكم بقية من دين، وحرارة من يقين، فاتقوا الله في الثغر الذي ائتمنكم الله عليه، واتقوا الله يوم أن تعرضون عليه، والدنيا متاع قليل، وظل زائل، وكم من ملك رسمت له في الأرض علامات، فلما علامات.
إن المسؤولية أمام الله عظيمة جداً. ذكر ابن كثير في “البداية والنهاية” في أحداث سنة أربع وثمانين، قال: وفيها توفي عبد الله بن عبد العزيز العمري، وكان عابداً زاهداً، وعظ الرشيد يوماً فأطنب وأطيب، قال له وهو واقف على الصفا: أتنظر كم حولها من الناس؟ -يعني: الكعبة- فقال هارون: كثير. فقال الشيخ: كل منهم يسأل يوم القيامة عن خاصة نفسه، وأنت تسأل عنهم كلِهم. فبكى الرشيد بكاءً كثيراً، وجعلوا يأتونه بمنديل بعد منديل ينشف به دموعه. إن التاريخ لا يرحم، وإن الشعوب المسلمة اليوم أكثر وعياً، ولا يجمعها إلا الدين، وما أزمة غزة وأزمة رسوم الاستهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم عنا ببعيد.
النداء الثاني: إلى علماء الأمة الإسلامية.. ففي الأزمات يكثر السؤال والقيل والقال, وتتلفت الأمة إلى العلماء؛ لتسمع الكلمة الفصل؛ والكلمة هناك غالية قد تكلف الروح، لكنها ضرورة خصوصا إذا شوش التوحيد, ونطق الروبيضة في أمر العامة.
إن العالم قائد، فإن لم يقد انقاد؛ فإن انقاد أقبلت الفتنة والفساد.. العالم حارس فإذا نام الحارس دخل السراق.. العالم راعي، فإذا غفل الراعي هجم الذئب.. العالم ربان، فإذا حاد وماد غرقت السفينة. ووالله ما انتهكت الشريعة، وهدم الدين، وغربت المجتمعات، إلا لما سكت العلماء الناصحون، وضعفت كلمتهم، وتأول بعضهم، وفسد دعيّهم، وآثر السلامة بدعوى الحكمة والفتنة {ألا في الفتنة سقطوا}
النداء الثالث: إلى دعاة الإسلام.. يا حملة الرسالة، يا سفراء محمد صلى الله عليه وسلم.. هل سألتم أنفسكم: إلى ماذا تدعون؟ وعلى أي منهج؟ هل نحتاج إلى مزايدة على منهج الكتاب والسنة وقد قال الحبيب صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور: (تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض). أخرجه مالك مرسلا والحاكم مسندا وصححه وصححه الألباني وغيره. وفي الباب عشرات الأحاديث. نحن لا نشك في وسطية الأمة، (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً).. لكن السؤال: أين الوسطية؟ ومن الذي يحددها ويرسم منهجها؟ إذا كنا نعاني من تيار غالٍ متزمت، ينتهج التكفير والتفجير مركباً، ونعاني بدرجة أقل من تيار متشدد في مواطن السعة، غير مواكب للواقع، يجعل من الحبة قبة، ومن الظني قطعياً، ومن المسألة الخلافية (أعني الخلاف السائغ) أصلاً في الولاء والبراء، وربما حصل من بعض أتباعه جلافة وسوء خلق، ويا ويل من خالف رأي الشيخ فلان وكأنه معصوم.. فنحن نعاني كذلك في الطرف الآخر من تيار جافي متفلت، تمييع للواجبات، وتهرب من الالتزامات، وتسويغ للمحرمات، بدعوى الخلاف، وبدعوى فقه الأولويات، وبدعوى التيسير المعاصر، وهو منهج حادث مضطرب الأصول (إن كان له أصول وقواعد)، أحيل في نقده إلى رسالة ماجستير قيمة بعنوان منهج التيسير المعاصر.
النداء الرابع: إلى الشعوب، إلى كل مسلم ومسلمة. الوعيَ الوعي لما يحاك ضدنا، أن نعي ونوعّي غيرنا، عاملين لديننا، متعاونين في أعمالنا ومؤسساتنا الدعوية، مبتعدين عن التفرق قدر الإمكان، مدركين ما يسع الخلاف فيه وما لا يسع. محتكمين إلى الكتاب والسنة، على منهج رباني، لا أمريكي ولا تغريبي، وإذا اختلفنا فالمرجع العلماء الثقات، وهم موجودون، ولا نقول إنهم معصومون، ولا نتابعهم في زلة أو شذوذ، مع سلامة الصدر واللسان، واحترام المنزلة.
وأما التصوف تحديدًا فقد حظي بعناية ودعم المستشرقين الغربيين بشكل كبير منذ القرن التاسع عشر الميلادي، والناظر في التراث الصوفي المعاصر يجد فيه بصمات المستشرقين ظاهرة؛ سواءٌ بتحقيق كتب المتصوفة ونشرها أو التأليف في التصوف ورموزه، حتى إن آراء بعض المستشرقين المعتنين بالتصوف كالفرنسي “لويس ماسينيون” (ت1962م) والإنجليزي “رينولد نيكلسون” (ت1945م) لها أهميتها واعتبارها حتى عند المتصوفة أنفسهم، وتآليفهم شاهدة بذلك.
وقد اعتنى “لويس ماسينيون” بالحلاج عناية فائقه ونشر كتابه (الطواسين) وحقق كثيرًا من أخباره، واختار أن يكون الحلاج موضوع رسالته لنيل درجة الدكتوراه من باريس، وبالفعل أنجزها وتُرجمت إلى العربية بعنوان (آلام الحلاج، شهيد التصوف الإسلامي) وهي تطبع اليوم وتوزع بدعم من وزارة الخارجية الفرنسية والسفارة الفرنسية بلبنان!
في الحقيقة أن العالم الإسلامي لم يغب عن نظر الغرب وكيده منذ قرون عديدة، وما سقوط الدولة العثمانية وتجزئة بلدان العالم الإسلامي إلى دول إلا ثمرة من ثمرات الكيد الغربي.
وما حدث بعد 11 سبتمبر إنما هو تغيير في التكتيك وطريقة التعامل مع العالم الإسلامي، فوظفت أمريكا كل إمكاناتها العسكرية والمالية والاستخباراتية لتطبيق ذلك التكتيك الجديد دون اعتبار لكرامة أحد، حتى سيادة الدول على أراضيها ناهيك عن شعوبها، وخلع الغرب (وتحديدًا أمريكا) لقب الإرهاب على كل ما يتعارض أو لا يتماشى مع مصلحته، أما ما يتماشى مع مصالحه فهو الصديق والحليف، وهو من يستحق الدعم منهم، ويبدو جليًا أن التصوف يقع ضمن النوع الثاني.
عنوان التقرير كما جاء في النسخة العربية للتقرير والصادرة عن “مؤسسة راند” (إسلام حضاري ديمقراطي/ شركاء وموارد واستراتيجيات)، والأمر الآخر أن المؤسسة في تقريرها هذا قسمت العالم الإسلامي – باعتبار تمسكه بالإسلام – إلى أربع تيارات؛ الأصوليون والتقليديون والمجددون والعلمانيون، وخلصت فيه إلى أن تيار المجددين هو من ينبغي للغرب دعمه وليس التقليديين كما تفضلتم بذلك في السؤال.
وتيار التجديد بحسب ما ورد في التقرير هم “الذين يرغبون بأن يشكل العالم الإسلامي جزءًا من التجدد العالمي ويتمنون دخول الحداثة على الإسلام ليتطور تماشيًا مع عصره”، ويضيف التقرير بأن “المجددين في قيمهم وسياساتهم أقرب إلى الغرب”. والمقصود – بطبيعة الحال في أرض – ليس أتباع الشافعي أو عمر بن عبد العزيز أو محمد بن عبد الوهاب أو غيرهم من المجددين في تاريخ الأمة الإسلامية بل المقصود هم العقلانيون أو من يسمون أنفسهم بالتنويريين أو الإصلاحيين، وهم في الحقيقة –كما يشهد بذلك واقعهم وآراؤهم – أقرب إلى تمييع الدين الإسلامي من تجديده، وأقرب إلى تطويع العالم الإسلامي للغرب من تطويره ليضاهي الغرب.
كتاب بعنوان “الإسلام الذي يريده الغرب”، الكتاب تناول بالدراسة والتحليل والنقد تقرير مؤسسة راند “إسلام حضاري ديمقراطي، شركاء وموارد واستراتيجيات” والصادر عام 2004م، وهو من إعداد الباحثة الدكتورة “شيريل بينارد” زوجة أحد أبرز شخصيات حكومة جورج بوش الابن وهو زلماي خليل زاده.
وفكرة التقرير تقوم على طرح مشروع لتغيير العالم الإسلامي من داخله وبأيدٍ إسلامية، ولذلك – كما أشرت آنفًا – قسم العالم الإسلامي – كما يراه – إلى أربعة تيارات رئيسية، وأوصى بدعم تيار من سماهم بالمجددين، بالإضافة إلى الصوفية، لأنهما يحملان فهمًا وممارسة للإسلام لا تتعارض مع قيم الغرب الليبرالية ومصالحة في العالم الإسلامي.
وقد وضع التقرير خطوات عملية لتنفيذ التوصيات التي اقترحها، ومن أبرزها أيضًا مواجهة تياري من سماهم بالأصوليين والتقليديين، وإبراز المجددين بتكثيف حضورهم وتأثيرهم الاجتماعي وتأمين منبر إعلامي لهم ونشر كتبهم بأسعار رخيصة، وإدراج آرائهم في مناهج التربية الإسلامية… إلخ، ولكن اللافت للنظر أن التقرير الذي أطلق الأفكار تلو الأفكار لكيفية دعم المجددين بلا تحفظ أوصى بالحذر أثناء دعم العلمانيين، وذلك – كما يقول – لأن بعض العلمانيين العرب لا زال على ولائه السابق للمعسكر الشرقي (الشيوعي‼