حكم بيع تراب متبقي إستخراج الذهب
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته الشيخ د. عبد الحي يوسف
دار نقاش طويل حول بيع التراب الحاوي للذهب (النفايات) للشركات هل هو حرام أم حلال ونود معرفة الحكم الشرعي في ذلك، وهذا هو تفصيل ما يتم في عمليات البيع والشراء:
يقوم عمال الحفر بجلب الحجر من الصحراء إلى منطقة العبيدية، بعد ذلك يقومون بطحن الحجر واستخلاص الذهب منه عن طريق الزئبق في أحواض معينة، المتبقى من التراب (النفايات) تبقى عن صاحب الأرض التي أجري فيها الاستخلاص، هذه النفايات تحتوي على كميات من الذهب لكن لا يمكن استخلاصها بواسطة الطرق التقليدية (استخدام الزئبق) لأنها تحتاج إلى تقنيات عالية، لذلك يتكون عند صاحب الأرض كميات كبيرة من التراب المتبقي من عمليات الاستخلاص.
تقوم الشركة بأخذ عينات من هذا التراب وتجري عليها التحليل الكيميائي لمعرفة محتوى الذهب فيها؛ مثلاً تجد أن الطن يحتوي على 3 جرامات (هذا تقريبيا) تقوم على هذا الأساس بالاتفاق مع صاحب الأرض على أن تشتري منه القلاب، مثلاً بقيمة 200 جنيه سوداني، مع العلم أن كمية الذهب التي يتم الحصول عليها من عملية الاستخلاص قد تختلف تماماً عن الكمية التي وجدت من عملية التحليل، في الغالب تكون بزيادة كبيرة، بالإضافة إلى أن العمال الذين استأجروا المكان من صاحب الأرض لا يشملهم هذا البيع.
السؤال: ما حكم هذا التعامل الذي يتم بين الشركة وأصحاب الأراضي علماً بأن الشركة تشتري التراب على أساس التحليل الكيميائي فقط، وإذا كان هذا التعامل لا يجوز فما هي الطريقة الصحيحة لاستغلال هذه الكميات لأنها إذا تركت لا يمكن الاستفادة منها، وجزاكم الله خيرا.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أما بعد.
فهذه المعاملة التي تتم بين هؤلاء الأشخاص يلزم فيها إيضاح جملة من الأمور:
أولاً: استخراج كنوز الأرض هو من باب الاستجابة لقول الله تعالى {فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور} وقد ذكر القرآن الكريم صراحة أن الله تعالى خلق هذه الأرض ما على ظهرها وما في باطنها مسخراً لنا ولجلب منافعنا ودفع المضار عنا؛ كما في قوله تعالى {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا} وقوله تعالى {وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه} وقوله سبحانه {الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه} فالعامل في هذا الباب مأجور إن استحضر نية صالحة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن أطيب الكسب “عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور” وقوله “الجالب مرزوق والمحتكر ملعون” وهذا يأتي تمشياً مع أحكام الشريعة التي حثت على عمارة الأرض والاستفادة من خيراتها؛ قال سبحانه {هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها} وقال النبي صلى الله عليه وسلم “من أحيا أرضاً ميتة فهي له”
ثانياً: قد اقتضت حكمة الله تعالى أن يتبادل البشر المنافع بينهم حسب قدراتهم ومواهبهم، كما قال سبحانه {ورفعنا بعضكم فوق بعض درجات ليتخذ بعضكم بعضاً سخريا} فهذا يجلب الحجارة، وذاك يعمل في تكسيرها، وهذا يستخلص المعدن منها، وذاك يشتري منه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم “دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض” وقد يكون لبعضهم من المهارة والحذق ما ليس للآخر، وقد يتوافر لبعضهم من الإمكانات ما ليس لغيره، وكلٌ يُرزق بما قدَّره الله له.
ثالثاً: البيع يقع صحيحاً إذا وقع وفق شروطه الشرعية المعتبرة من كون المبيع مباحاً طاهراً معلوماً يمكن الانتفاع به مقدوراً على تسليمه، وقد خلا البيع من الموانع الشرعية كالغرر والربا والغش، والعاقدان كاملا الأهلية قد تراضيا على الثمن والمثمن؛ لعموم قوله تعالى {وأحل الله البيع وحرم الربا} وقوله سبحانه {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} وقول النبي صلى الله عليه وسلم “إنما البيع عن تراض” وقوله صلى الله عليه وسلم “البيعان بالخيار ما لم يتفرقا؛ فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما”
رابعاً: شراء الشركة قلاب التراب أو أكواماً من التراب، أو جبلاً من التراب، بمبلغ ما على أن تقوم باستخلاص ما فيه من ذهب أو غيره من المعادن، بيع شرعي صحيح إذا وقع وفق الشروط التي سبق ذكرها؛ وقد يعرض ها هنا شبهة الجهالة والغرر، لكنها منتفية إذا علمنا أن التعاقد كان على التراب لا على الذهب؛ فلم يبع صاحب الأرض ذهباً وإنما باع تراباً معلوماً بكميته سواء قيست بالقلاب أو الأكوام أو غير ذلك مما يتواضع عليه الناس؛ وكون الشركة تكسب أرباحاً كثيرة من جراء استخلاص الذهب المدفون في ذلك التراب لا يقدح في صحة البيع؛ إذ الغرم بالغنم، والشركة باذلة جهداً ومالاً في عملية الاستخلاص هذه
خامساً: العمال المستأجرون للأرض قد ملكوا منفعة الأرض لا رقبتها، بمعنى أن لهم الانتفاع بها حسب الشروط التي كانت في العقد الذي بينهم وبين صاحب الأرض؛ فإذا كان العقد ينص على أن لهم استخراج التراب وبيعه فالواجب على صاحب الأرض الوفاء بذلك الشرط؛ لعموم قوله تعالى {أوفوا بالعقود} وقول النبي صلى الله عليه وسلم “المسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرَّم حلالا” وإن لم يكن ثمة شرط رجع الأمر إلى أصله من كونهم يملكون منفعة الأرض لا عينها.
هذا والواجب تذكير أصحاب الشركات بأن يجتنبوا الغبن في تجارتهم هذه وألا يستأثروا بالأرباح الكثيرة لأنفسهم ويحرموا منها أصحاب الأرض والعاملين فيها؛ فقليلٌ يبارك الله فيه خير من كثير تمحق بركته، ويذهب خيره، والله الموفق والمستعان.