العبادات

آداب تلاوة القرآن

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد

فإن تلاوة القرآن الكريم – تعبداً أو تحصناً أو استشفاءً أو استدلالا – من أعظم العبادات، وصاحبها على خير عظيم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: {ألم} حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) رواه الترمذي، وقال عليه الصلاة والسلام (اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه، اقرؤوا الزهراوين – البقرة وآل عمران – فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما) رواه مسلم، وقارئ القرآن مأجور سواء أكان تلاوته سليمة وقد أقام حروفها وأحسن مخارجها، أو اعترى ذلك كله شيء من خلل ما دام قد بذل جهده؛ قال عليه الصلاة والسلام (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران) متفق عليه.

ولما كانت تلاوة القرآن عبادة يؤجر صاحبها؛ فلا بد له من أن يلتزم آدابها من أجل أن يقع أجره على الله تعالى، وهذه الآداب تتمثل في:

أولاً: إخلاص النية لله عز وجل؛ وذلك بأن تكون نيته الاستجابة لأمر الله حين قال {فاقرؤوا ما تيسر من القرآن} وحين قال {ورتل القرآن ترتيلا} وأن يرجو بتلاوته وجه الله عز وجل، لا يلتمس من الناس أجراً ولا ثناء ولا سمعة؛ عملاً بقوله تعالى {ألا لله الدين الخالص} وقوله {فاعبد الله مخلصاً له الدين}

ثانياً: أن يكون على طهارة كاملة في بدنه وثيابه ومكانه؛ وذلك شرط فيما لو كانت التلاوة تقتضي مس المصحف، أما إن كانت عن ظهر قلب أو من غير المصحف فالطهارة شرط كمال لا شرط صحة؛ قال أبو زكريا النووي رحمه الله تعالى: (أجمع المسلمون على جواز قراءة القرآن للمحدث، والأفضل أن يتطهر لها) ويعني بالحدث هنا الحدث الأصغر كبول وغائط وخروج ريح ونحو ذلك.

ثالثاً: الاستياك؛ وذلك حتى يطهِّر فمه لتلاوة أعطر الكلام وأفخمه، وقد ذكر أهل العلم أن قراءة القرآن من المواطن التي يتأكد فيها استحباب السواك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (إن العبد إذا تسوك ثم قام يصلي، قام الملك خلفه فيستمع لقراءته، فيدنو منه أو كلمة نحوها، حتى يضع فاه على فيه، فما يخرج من فيه شيء من القرآن إلا صار في جوف الملك، فطهروا أفواهكم للقرآن) رواه البزار.

رابعاً: أن يكون في جلسته على هيئة حسنة، وذلك بأن يجلس متربعاً مستقبلاً القبلة ساتراً لعورته مستحضراً عظمة من يتلو كلامه؛ وقد قال بعض السلف (من أراد أن يكلمه ربه فليقرأ القرآن) وهذا كله من باب الكمال وإلا فإن تلاوة القرآن تجوز من قيام وجلوس واضطجاع؛ عملاً بقول ربنا جل جلاله {الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم} ولما ثبت من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن قائماً وقاعداً وراكبا، ولربما اضطجع في حجر أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها يرتل القرآن وهي حائض

خامساً: الاستعاذة؛ عملاً بقوله تعالى {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} قال المفسرون: المعنى إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم. قالوا: والاستعاذة بمثابة الطهارة القلبية بعد حصول الطهارة البدنية

سادساً: ترتيل القرآن؛ امتثالاً لقوله تعالى {ورتل القرآن ترتيلا} ويكون الترتيل بألا نجعل قراءة القرآن كقراءة سائر الكلام، بل نعطي كل حرف حقه ومستحقه، ونراعي أحكام التجويد؛ لأن القراءة سنة متبعة يتلقاها الآخر عن الأول، وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه (لَا تَهُذُّوا الْقُرْآنَ، كَهَذِّ الشِّعْرِ، وَلَا تَنْثُرُوهُ نَثْرَ الدَّقَلِ، وَقِفُوا عِنْدَ عَجَائِبِهِ، وَحَرِّكُوا بِهِ الْقُلُوبَ، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة) فعلى القارئ أن يحضر قلبه حال التلاوة، ويتفاعل مع الآيات؛ فإن نبينا صلى الله عليه وسلم كان إذا مرَّ بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مرَّ بآية فيها عذاب استعاذ، وإذا مرَّ بآية فيها سؤال سأل

سابعاً: البكاء أو التباكي؛ فإن المقصود من تلاوة القرآن – مع طلب الأجر – إصلاح القلب وتزكية النفس؛ ولا يكون ذلك إلا لمن كان متخشّعاً متدبرا؛ وقد مدح ربنا جل جلاله أقواماً فقال {إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا. ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا} ونبينا صلى الله عليه وسلم لما أمر ابن مسعود أن يقرأ عليه؛ حتى إذا بلغ قوله تعالى {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} قال: (حسبك) قال ابن مسعود: فنظرت فإذا عيناه تذرفان. وقال عليه الصلاة والسلام (اقرؤوا القرآن وابكوا؛ فإن لم تبكوا فتباكوا)

الاجتماع لتلاوة القرآن

ومن السنة الاجتماع لتلاوة القرآن؛ لقول نبينا صلى الله عليه وسلم (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده) والواجب أن يكون مثل هذا المجلس مجلس وقار وسكينة وأدب، وألا يحصل فيه لغط ولا ضحك ولا عبث، فيقرأ واحد ويستمع الباقون، ثم يقرأ آخر وهكذا مما يسميه علماؤنا بالتدوير؛ أي إدارة القراءة على الحاضرين، وحبذا لو كان للحلقة شيخ مجيد متقن من أجل أن يصحح المخطئ وينبه الغافل.

القراءة الجماعية

ومعناها أن يقرأ الناس مجتمعين بصوت واحد، لم يختلف أهل العلم في جوازها للصبيان بغرض تعليمهم، وكذلك من كان مثلهم – ولو كانوا كبارا – إذا رأى المعلِّم أن ذلك أسلم لنطقهم وأسرع لفهمهم

أما القراءة الجماعية على سبيل التعبُّد فقد اختلفوا فيها على قولين:

حيث ذهب الشافعية والحنابلة إلى استحباب ذلك؛ وقد نصر هذا المذهب أبو زكريا النووي رحمه الله تعالى وأكثر في الاستدلال على صحته، وكذلك قال ابن تيمية رحمه الله تعالى في مجموع الفتاوى: وقراءة الإدارة حسنة عند أكثر العلماء ومن قراءة الإدارة قراءتهم مجتمعين بصوت واحد، وللمالكية قولان في كراهتها.

وأما الحنفية والمالكية فالمعتمد عندهم كراهة قراءة الجماعة معاً بصوت واحد؛ لما يتضمنه ذلك من ترك الاستماع والإنصات المأمور به، ولما يلزم من تخليط بعضهم على بعض

قال الطرطوشي رحمه الله تعالى في الحوادث والبدع: لم يختلف قوله – يعني الإمام مالكاً – أنهم إذا قرؤوا جماعة في سورة واحدة أنه مكروه. ونقل عن مالك كراهة القراءة بالإدارة وقوله: وهذا لم يكن من عمل الناس. وقال أبو الوليد ابن رشد: إنما كرهه مالك للمجاراة في حفظه والمباهاة والتقدم فيه

ولعل القول الوسط – والعلم عند الله تعالى – أن يقال: إن قراءة الجماعة بصوت واحد لا تمنع إلا إذا تضمنت محظوراً كالمباهاة أو تخليط بعضهم على بعض أو خروجها عن حد القراءة إلى التنشيد والتمطيط ونحو ذلك

الخلاصة

في الفيديو الذي تداوله الناس أن بعض شيوخ القرآن قاموا بعيادة أخ لهم مريض وقرؤوا عنده آيات من سورة التوبة استشفاء وإدخالاً للسرور عليه فإنه ليس فيه ما يُستنكر سوى تصفيق بعضهم أثناء التلاوة بما يتنافى مع جلال القرآن وتعظيم حرمات الله عز وجل وشعائره؛ ولا شك أنهم مأجورون على عيادة أخيهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (من عاد مريضاً سار في خرفة الجنة – أي جناها – حتى يرجع) ومأجورون على استشفائهم بالقرآن وقد قال سبحانه {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء} وقال {يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور} وقال {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين} والله الموفق والمستعان

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين،،

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى