العقيدة

الأسباب الشرعية والطبيعية للرزق

السلام عليكم و رحمة الله وبركاته، لو تفضلتم، مسألة (الرزق وجلب الرزق) يتناولها  الكثير من الدعاة في نشر الدعوة ودعوة الشباب إلى الطريق المستقيم ويذكرون الناس بأحاديث الاستغفار يكثر الرزق والاستقامة تجلب الأموال ومثل ذلك كثير، والمشكلة أن بعض الشباب يرفع سقف التوقعات فيستغفر كثيرا وينتظر الأموال الكثيرة بناء على القصص التي سمعها فلا يحصل على ذلك ثم سرعان ما يعود أدراج الرياح، والناظر في السيرة النبوية  يجد أن النبي صلى الله عليه و سلم يدعو الناس إلى الإسلام من أجل دخول الجنة ورضوان الله وليس من أجل تحصيل الرزق… المرجو توضيح في هذا الباب وجزاكم الله خيرا

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أما بعد

فدين الإسلام قد جاء لتحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد، ولإسعادهم في الدنيا والآخرة، ولذلك تجد آيات القرآن تدعو الناس إلى الهدى والخير مبيِّنةً أن ذلك هو طريق السعادة في الدارين؛ وذلك كقوله تعالى {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه} وقوله تعالى {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} وقوله تعالى {وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً} ونحو ذلك من الآيات

ونبيُّنا صلى الله عليه وسلم حين يدعو الناس إلى الإيمان يبيِّن لهم ما في ذلك من مصالح دنيوية وأخروية كقوله عليه الصلاة والسلام (قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، قولوا: لا إله إلا الله تملكوا بها العرب والعجم) وقوله (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتعود بطانا) إلى غير ذلك من الأحاديث.

ولذلك النظرة الشرعية الصحيحة في هذا الأمر تنبني على جملة من المفاهيم:

أولها: حقارة الدنيا وهوانها على الله عز وجل، وأنها لو كانت تزن عنده جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء؛ فليست هي مقياساً لقرب العبد من الله أو بعده عنه، وليست هي معياراً لكرامته على الله أو هوانه عليه، وقد قال ربنا جل جلاله مصححاً الفهم لأولئك المشركين المغرورين {أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين. نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون} ولما مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه على جدي أسكَّ ميت؛ فقال لهم (أيكم يشتري هذا بدرهم؟) ثم قال لهم (والذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هوان هذا عليكم)

ثانيها: أن نبيِّن للناس أن الأرزاق مقسومة والآجال مكتوبة، وأن الرزق والأجل قرينان، وكل ما نبذله إنما هو من باب الأسباب، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها؛ فاتقوا الله وأجملوا في الطلب) ولا بد من أن نعرِّف الناس أن الرزق والأجل قد كُتبا ونحن في بطون أمهاتنا؛ كما ثبت من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

ثانيها: أن مطلوباً منا الأخذ بالأسباب الشرعية التي نجلب بها الأرزاق من تقوى الله والإكثار من الاستغفار؛ لقوله عليه الصلاة والسلام (من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب) والصلاة والسلام على رسول الله، لقوله عليه الصلاة والسلام (تكفى همك ويقضى دينك)والمتابعة بين الحج والعمرة، لقوله (تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد) وصلة الأرحام لقوله (من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه) والإنفاق في وجوه الخير  لقوله (ما من يوم يصبح إلا وينزل فيه ملكان يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفا) ومصداق ذلك في القرآن قول ربنا جل جلاله {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين}

ثالثها: أن الأسباب الشرعية لا تغني عن الأسباب الوضعية التي جعلها الله باباً للرزق؛ فإن ربنا جل جلاله قد أمرنا بذلك حين قال {فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه}؛ وقد كان الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أهل حرف؛ فما من نبي إلا ورعى الغنم، وقد كان نبي الله داود عليه السلام حدادا، ومارس نوح عليه السلام النجارة، ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أطيب الكسب قال (عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور) وقال (ما أكل آدميٌّ طعاماً قط خير من أن يأكل من عمل يده) وحثَّ على الزراعة والتجارة والاحتطاب؛ فكل نشاط إنساني نافع إنما يندرج تحت المهمة التي من أجلها استخلفنا الله في الأرض حين قال {هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها}.

رابعها: لا بد أن نعلم الناس أن الدنيا ليست مقصودة لذاتها، وإنما هي مزرعة للآخرة، وقد ذمَّ الله تبارك وتعالى ناساً فقال {ولكن أكثر الناس لا يعلمون. يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون} ونهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكون الدنيا هي غاية همنا ومبلغ علمنا فقال (من كانت الدنيا همه شتت الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له، ومن كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع الله عليه شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة) وقال (من جعل الهموم هماً واحداً كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم لم يبال الله به في أي أوديتها هلك)

خامسها: لا بد أن نضرب للشباب مثلاً بتلك القدوات الصالحة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن جمع الله لهم بين الخيرين؛ فكانوا في الدنيا أغنياء أهل يسار وسعة وفي الوقت نفسه عملوا لآخرتهم فأعزَّ الله بهم الدين وأصلح بهم الدنيا؛ كالصِّديق أبي بكر رضي الله عنه الذي نال شهادة النبي صلى الله عليه وسلم حين قال (ما نفعني مال مثلما نفعني مال أبي بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا) وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه الذي حُفر الذهب من تركته بالفئوس بعد موته وأصابت كل امرأة من زوجاته ثمانين ألف دينار، وعبد الله بن جعفر رضي الله عنهما الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال (اللهم بارك لعبد الله في صفقة يمينه)

وأخيراً لا بد أن نعلِّم الناس أن المال ظل زائل وعارية مستردة، ويوم القيامة لا ينفع العبد مال ولا بنون، وأن الأكثرين هم المقلون يوم القيامة إلا من أنفق ماله ابتغاء رضوان الله، والله الموفق والمستعان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى