المعاملات المالية

سداد الديون مع التضخم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد

فإن سؤالاً يتردد حول كيفية التعامل مع الديون والالتزامات المالية في حال حدوث التضخم وانهيار قيمة العملة؛ حيث إن القول برد عين الدين يفضي إلى حصول ضرر على الدائن؛ كما أن القول باعتبار القيمة تكتنفه شبهة الوقوع في الربا، فهل يكون العدل باعتبار قيمة العملة أم مثلها؟ وهذا الموضوع قد اهتم به عدد من علماء عصرنا والباحثين في شأن المعاملات المالية والعملات الورقية

والذي عليه كثير من علماء عصرنا هو اعتبار قيمة العملة في قضاء الحقوق المؤجلة، إذا حدث غبن فاحش، أو انهيار للعملة، يتحقق به ضرر معتبر على الدائن، أو صاحب الحق، وذلك بإقامة العدل عند التنازع بين الدائن والمدين في مثل هذه الحالات الاستثنائية، وذلك بالاجتهاد في وضع معيار يعرف به حصول التغير الفاحش، أو انهيار العملة.. وميزان عادل للتقويم عند حصول ذلك، يقول الدكتور علي القره داغي في بحثه: الذي نراه راجحًا هو أن الأصل في النقود الورقية أيضًا أنها مثلية، ولا نخرجها عن المثلية إلا إذا زالت عنها هذه المثلية من انهيار قيمتها، أو وقع غبن فاحش فيها، وهذا إنما يظهر في الحقوق الآجلة، لا الحقوق العاجلة. اهـ.

وقال أيضًاالرأي الذي يطمئن إليه القلب هو رعاية القيمة في نقودنا الورقية، في جميع الحقوق الآجلة المتعلقة بالذمة من قرض، أو مهر، أو بيع، أو إجارة، أو غيرها، ما دام قد حصل انهيار، وغبن فاحش، بين قيمة النقد الذي تم عليه الاتفاق، وقدرته الشرائية في الوقتين -أي وقت العقد، ووقت الوفاء- وسواء كان المتضرر دائنًا أو مدينًا، والذي نريده هو تحقيق المبدأ الذي أصَّله القرآن الكريم، وعبَّر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: “قيمة عدل، لا وكس وشطط”. ومن هنا فالنقود الورقية مثلية كقاعدة عامة، فيكون الرد فيها بالمثل دون رعاية فروق طفيفة قد تحدث، ولكنها عند الفرق الشاسع بين حالتي القبض والرد، أو عند الانهيار تفقد مثليتها. اهـ.

وقد ثار الخلاف بين أهل العلم في تحديد الغبن الفاحش، والذي عليه جمهورهم هو اعتبار معيار مرن قائم على ما يعدُّه عرف التجار غبنًا، وهذا الأخير هو الراجح في باب تقويم النقود الورقية، فما يعدُّه التجار في عرفهم غبناً فاحشاً، فهو غبن فاحش هنا أيضًا، وإذا اختلفوا، فالقاضي يحكم بما يرتاح إليه حسب الأدلة، والظروف والملابسات التي تحيط بالقضية بعينها. اهـ.

وأما كيفية التقويم ومعياره، فلا بد من وضع موازين دقيقة، ومعايير معقولة للتقويم، حتى يتبين لنا الفرق ين قيمتي العملة الورقية في الوقتين: وقت القبض، ووقت إرادة الرد، ولنا لمعرفة ذلك معياران:

المعيار الأول: الاعتماد على السلع الأساسية مثل: الحنطة، والشعير، واللحم، والأرز، بحيث نقوم المبلغ المطلوب من النقود الورقية عند إنشاء العقد: كم كان يشترى به من هذه السلع الأساسية؟ ثم نأتي عند الرد أو الوفاء، والالتزام إلى القدر الذي يشترى به الآن من هذه السلع، فحينئذ يتضح الفرق. وهذا ما يسمى بسلة السلع والبضائع، وهي معتبرة في كثير من الدول الغربية، يعرفون من خلالها التضخم ونسبته، ويعالجون على ضوئها آثار التضخم، ولا سيما في الرواتب والأجور.

المعيار الثاني: الاعتماد على الذهب، باعتباره في حالة نشأة العقد الموجب للنقود الورقية، وفي حالة القيام بالرد، وأداء هذا الالتزام، بحيث ننظر إلى المبلغ المذكور في العقد كم كان يشترى به من الذهب؟ فعند هبوط سعر النقد الورقي الحاد، أو ارتفاعه الحاد يلاحظ في الرد -وفي جميع الحقوق والالتزامات- قوته الشرائية بالنسبة للذهب، فمثلًا لو كان المبلغ المتفق عليه كان عشرة آلاف ريال، ويشترى به عشرون جرامًا من الذهب، فالواجب عند الرد والوفاء بالالتزام المبلغ الذي يشترى به هذا القدر من الذهب. اهـ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى