غض البصر
بسم الله الرحمن الرحيم
{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} ﴿٣٠ النور﴾
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ ﴿٣١ النور﴾ {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} ﴿١٩ لقمان﴾ {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ} ﴿٣ الحجرات﴾
السؤال: يغضوا للرجل جاءت بمعنى ابتعد عن نظرك اما بالنسبة للمرأة جاءت بمعنى اخفض نظرك … ما بعرف تركيب يغضوا ويغضضن يختلف عن بعضهم ودليل على ذلك انه جاءت بسورة لقمان اغضضن متل تركيبها للمرأة اي اخفض واجت بسورة الحجرات بمعنى ابعدوا اصواتكم عن صوت نبي؟؟
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد
فأنت مأجور على تدبرك القرآن وتفكيرك في مراد الله به، وليس الأمر عسيراً بل عليك سؤال أهل العلم فيما يشكل عليك، وكذلك يمكنك مراجعة ما كتبه المفسرون الثقات رحمة الله عليهم؛ فإنك واجد فيه جواباً عما أشكل عليك، واحذر – عافاك الله – من الجرأة على تفسير آيات القرآن من غير بينة؛ فإن الله تعالى لما ذكر المحرمات قال {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام (من قال برأيه في كتاب الله فأصاب فقد أخطأ) وجواباً على سؤالك أقول:
إن الغضَّ يدل على كفٍّ ونقص، ويُفسَّر في كل آية بما يدل عليه سياقها؛ ففي سورة النور {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم} {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن} أي يكفُّوا أبصارهم عما حرَّم الله عليهم؛ قال الشوكاني رحمه الله تعالى في تفسيره (فتح القدير): مِنْ في قَولِه: {مِنْ أَبْصَارِهِمْ} هي: التَّبعيضيَّةُ، وإليه ذهب الأكثَرونَ، وبيَّنوه بأنَّ المعنى غضُّ البصَرِ عمَّا يَحرُمُ، والاقتِصارُ به على ما يَحِلُّ. وقيل: وجهُ التَّبعيضِ أنه يُعفَى للنَّاظِرِ أوَّلُ نظرةٍ تقَعُ مِن غيرِ قَصدٍ.ا.هـــــ قال ابن القطان رحمه الله تعالى: النَّظَرُ إنَّما حَرُم في محلِّ الإجماعِ حَذرًا من الفِتنةِ، كما حَرُم الزِّنا حَذرًا من اختلاطِ الأنساب، وشُربُ الخَمرِ توقيرًا للعَقلِ، فإذا كان كذلك وَجَب غَضُّ البصرِ على كلِّ خائفٍ، وحرُمَ عليه أن يُرسِلَ طَرْفَه في مواقِعِ الفِتَنِ؛ فإنَّه إذا فعَل ذلك رأى الذي لا كُلُّه هو قادِرٌ عليه، ولا عن بَعضِه هو صابِرٌ!.ا.هــ
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في (الجواب الكافي) في غَضِّ البصَرِ عِدَّةُ مَنافِعَ:
أحدها: أنَّه امتِثالٌ لأمرِ اللهِ، الذي هو غايةُ سَعادةِ العَبدِ في معاشِه ومَعادِه.
الثانية: أنَّه يمنَعُ مِن وصولِ أثَرِ السَّهمِ المسمومِ -الذي لعلَّ فيه هلاكَه- إلى قَلبِه.
الثالثة: أنَّه يورِثُ القلبَ أُنسًا بالله، وجمعيَّةً عليه.
الرابعة: أنَّه يقوِّي القلبَ ويُفرِحُه.
الخامسة: أنَّه يُكسِبُ القَلبَ نُورًا، كما أنَّ إطلاقَه يُلبِسُه ظُلمةً؛ ولهذا ذكَرَ الله سُبحانَه آيةَ النورِ عَقِيبَ الأمرِ بغَضِّ البصَرِ، فقال {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} ثمَّ قال إثرَ ذلك {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ}، أي: مَثَلُ نورِه في قَلبِ عَبدِه المؤمِنِ الذي امتَثَل أوامِرَه، واجتَنَب نواهيَه
السادسة: أنَّه يُورِثُ العبدَ فِراسةً صادِقةً يميِّزُ بها بين الحَقِّ والباطِلِ، والصَّادِقِ والكاذِبِ، فمَن ترَك لله شيئًا عوَّضَه اللهُ خيرًا منه، فإذا غَضَّ بصَرَه عن محارِمِ الله، عوَّضَه اللهُ بأن يُطلِقَ نورَ بصيرتِه؛ عِوَضًا عن حَبسِ بَصَرِه لله، ويفتَحَ عليه بابَ العِلمِ والإيمانِ، والمعرفةِ والفِراسةِ الصَّادقةِ المُصيبةِ التي إنَّما تُنالُ ببَصيرةٍ.
السابعة: أنَّه يورِثُ القَلبَ ثَباتًا وشجاعةً وقُوَّةً، فجمَع الله له بيْنَ سُلطانِ النُّصرةِ والحُجَّة، وسُلطانِ القُدرةِ والقُوَّة.
الثامنة: أنَّه يَسُدُّ على الشَّيطانِ مَدخَلَه مِن القلبِ؛ فإنَّه يدخُلُ مع النَّظرةِ، ويَنفُذُ معها إلى القَلبِ أسرَعَ مِن نفوذِ الهواءِ في المكانِ الخالي، فيُمثِّلُ له صورةَ المنظورِ إليه ويزَيِّنُها، ويجعَلُها صنَمًا يَعكُفُ عليه القَلبُ، ثمَّ يَعِدُه ويُمَنِّيه، ويوقِدُ على القَلبِ نارَ الشَّهوةِ، ويُلقي عليها حطَبَ المعاصي التي لم يكُنْ يتوصَّلُ إليها بدونِ تلك الصُّورةِ؛ فيصيرُ القَلبُ في اللَّهبِ!
التاسعة: أنَّه يُفَرِّغُ القلبَ للفِكرةِ في مصالحِه، والاشتِغالِ بها.
العاشرة: أنَّ بيْنَ العَينِ والقَلبِ مَنفذًا وطريقًا يوجِبُ انتقالَ أحَدِهما عن الآخَرِ، وأن يَصلُحَ بصلاحِه، ويَفسُد بفسادِه، فإذا فسَد القَلبُ فسَدَ النَّظرُ، وإذا فسَدَ النظَرُ فسدَ القَلبُ، وكذلك في جانبِ الصَّلاحِ، فإذا خَرِبَت العَينُ وفَسَدت خَرِب القَلبُ وفَسَد، وصار كالمَزبَلةِ التي هي محَلُّ النَّجاساتِ والقاذوراتِ والأوساخِ، فلا يَصلُحُ لسُكنى معرفةِ اللهِ ومحبَّتِه، والإنابةِ إليه، والأُنسِ به، والسُّرورِ بقُربِه فيه، وإنَّما يسكُنُ فيه أضدادُ ذلك.
فهذه إشارةٌ إلى بَعضِ فوائِدِ غَضِّ البصَرِ، تُطلِعُك على ما وراءَها
وأما قوله تعالى في سورة لقمان {واغضض من صوتك} فمعناه أنقص واخفض من صوتك، أي لا ترفع صوتك من غير حاجة. قال القرطبي رحمه الله في تفسيره (الجامع لأحكام القرآن): فإنَّ الجَهرَ بأكثَرَ مِنَ الحاجةِ تكَلُّفٌ يؤذي. والمرادُ بذلك كُلِّه التَّواضُع.ا.هــــ ثم قال رحمه الله تعالى: هذه الآيةُ أدَبٌ مِنَ اللهِ تعالى بتَركِ الصِّياحِ في وُجوهِ النَّاسِ تهاوُنًا بهم، أو بتَركِ الصِّياحِ جُملةً، وكانت العَرَبُ تَفخَرُ بجَهارةِ الصَّوتِ الجَهيرِ وغيرِ ذلك؛ فمَن كان منهم أشَدَّ صَوتًا كان أعَزَّ، ومَن كان أخفَضَ كان أذَلَّ.ا.هـــ
وأما في سورة الحجرات {إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى} قال ابن عاشور رحمه الله تعالى في تفسيره (التحرير والتنوير): الْغَضُّ حَقِيقَتُهُ: خَفْضُ الْعَيْنِ، أَيْ أَنْ لَا يُحَدِّقَ بِهَا إِلَى الشَّخْصِ وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِخَفْضِ الصَّوْتِ وَالْمِيلِ بِهِ إِلَى الْإِسْرَارِ.
قال الزمخشري في الكشاف: «وَهَذِهِ الْآيَةُ بِنَظْمِهَا الَّذِي رُتِّبَتْ عَلَيْهِ مِنْ إِيقَاعِ الْغَاضِّينَ أَصْوَاتَهُمُ اسْمًا لِ إِنَّ الْمُؤَكِّدَةِ وَتَصْيِيرُ خَبَرِهَا جُمْلَةً مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ مَعْرِفَتَيْنِ مَعًا. وَالْمُبْتَدَأُ اسْمُ الْإِشَارَةِ، وَاسْتِئْنَافُ الْجُمْلَةِ الْمُسْتَوْدَعَةِ مَا هُوَ جَزَاؤُهُمْ عَلَى عَمَلِهِمْ، وَإِيرَادُ الْجَزَاءِ نَكِرَةً مُبْهَمًا أَمْرُهُ نَاظِرَةً فِي الدَّلَالَةِ عَلَى غَايَةِ الِاعْتِدَادِ وَالِارْتِضَاءِ لِمَا فَعَلَ الَّذِينَ وَقَّرُوا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْإِعْلَامِ بِمَبْلَغِ عِزَّةِ رَسُولِ اللَّهِ وَقَدْرِ شَرَفِ مَنْزِلَتِهِ» اهـ. وَهَذَا الْوَعْدُ وَالثَّنَاءُ يَشْمَلَانِ ابْتِدَاءَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ إِذْ كَانَ كِلَاهُمَا يُكَلِّمُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَخِي السّرار.