ضوابط الرفقة المأمونة
ما الحكم الشرعي في الرفقة المأمونة؟ وهل المرأة تكون قد التزمت الشرع إذا كانت في سفرها مع رفقة مأمونة؟ وما هي شروط وضوابط الرفقة المأمونة؟ وما هي الضرورة التي تبيح السفر بلا محرم؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.
أولاً: لا يجوز للمسلمة السفر بغير محرم؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال {لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حرمة} متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وهو في موطأ مالك كذلك، وفي رواية لمسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما {لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة ثلاث ليال إلا ومعها ذو محرم} وفي رواية له وللترمذي وأبي داود عن أبي سعيد t {لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفراً يكون ثلاثة أيام فصاعداً إلا ومعها أبوها أو ابنها أو زوجها أو أخوها أو ذو محرم منها} وروى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {لا يحل لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة إلا ومعها رجل ذو حرمة منها} وفي رواية ابن ماجه عن أبي هريرة t {لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم واحد ليس لها ذو حرمة} وروى أحمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر يوماً إلا مع ذي محرم} وروى مالك في الموطأ عن أبي هريرة t أن رسول الله e قال {لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم منها} وقد نقل الحافظ ابن حجر الإجماع على ذلك فقال: استدل به على عدم جواز السفر للمرأة بلا محرم، وهو إجماع في غير الحج والعمرة والخروج من دار الشرك.أ.هـ
هذا وقد يتعلق بعض الناس باختلاف الروايات المذكورة في تحديد المدة التي يحرم فيها سفر المرأة بلا محرم؛ فيقول: إن النهي خاص بالزمن الماضي نسبة لطول المدة التي كان يستغرقها سفر المرأة حتى تصل إلى الغاية التي تريد، أما في زماننا فالسفر ما عاد يستغرق سوى ساعات معدودات وقد تطورت وسائله فلا يشمله النهي، والجواب كما قال العلماء: اختلاف هذه الألفاظ لاختلاف السائلين واختلاف المواطن؛ وليس في النهي عن الثلاثة تصريح بإباحة الليلة أو البريد. قال البيهقي رحمه الله: كأنه e سئل عن المرأة تسافر ثلاثاً بغير محرم؟ فقال: لا. وسئل عن سفرها يومين بغير محرم؟ فقال: لا. وسئل عن سفرها يوماً؟ فقال: لا. وكذلك البريد. فأدَّى كلٌ منهم ما سمعه، وما جاء منها مختلفاً عن رواية واحدٍ فسمعه في مواطن، فروى تارة هذا وتارة هذا، وكله صحيح، وليس في هذا كله تحديد لأقل ما يقع عليه اسم السفر، ولم يُرد e تحديد أقل ما يسمى سفراً؛ فالحاصل أن كل ما يسمى سفراً تنهى عنه المرأة بغير زوج أو محرم، سواء كان ثلاثة أيام أو يومين أو يوماً أو بريداً أو غير ذلك لرواية ابن عباس المطلقة، وهي آخر روايات مسلم السابقة {لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم} وهذا يتناول جميع ما يسمى سفراً. والله أعلم.أ.هـ بنقل النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم. وقال المنذري رحمه الله: وليس في هذه تباين؛ فإنه يحتمل أنه e قالها في مواطن مختلفة بحسب الأسئلة، ويحتمل أن يكون ذلك كله تمثيلاً لأقل الأعداد؛ واليوم الواحد أول العدد وأقله، والاثنان أول الكثير وأقله، والثلاثة أول الجمع؛ فكأنه أشار إلى أن هذا في قلة الزمن لا يحل لها السفر مع غير محرم، فكيف إذا زاد.أ.هـ وقال الحافظ رحمه الله: وقد عمل أكثر العلماء في هذا الباب بالمطلق لاختلاف التقييدات.أ.هـ
وقد يقول بعض الناس: إن علة النهي أن السفر فيما مضى كانت تصحبه مشقة عظيمة في مدته ووسيلته، أما في زماننا فقد يكون السفر في كثير من الأحيان نوعاً من الترفيه نسبة لتطور وسائله وما يعتريه من سبل الراحة والأمان!! والجواب على ذلك أن علة النهي هي السفر، ووجود المشقة حكمة لا علة، والأحكام الشرعية منوطة بالعلل لا بالحكم، وعليه فالنهي متوجه لسفر المرأة بلا محرم سواء وجدت المشقة أو عدمت، مثلما يقال في قصر الصلاة: إن العلة في الترخيص به هي السفر، فمن سافر سفراً مريحاً جاز له القصر مثلما يجوز لمن سافر سفراً صحبته مشقة.
والعلة في هذا النهي والله تعالى أعلم أن المرأة فتنة وانفرادها سبب للمحظور؛ لأن الشيطان يجد السبيل بانفرادها فيغري بها ويدعو إليها. وقوله e {لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر… الحديث} قال الباجي رحمه الله: والنهي خرج بمعنى التغليظ؛ يريد أن مخالفة هذا ليست من أفعال من يؤمن بالله ويخاف عقوبته في الآخرة؛ أ.هـ وقد عدَّها بعض أهل العلم في الكبائر كما قال ابن حجر الهيتمي رحمه الله: الكبيرة المائة: سفر المرأة وحدها بطريق تخاف فيها على بُضعها. إلى أن قال: عدُّ هذا بالقيد الذي ذكرته ظاهر لعظيم المفسدة التي تترتب على ذلك غالبا، وهي استيلاء الفجرة وفسوقهم بها؛ فهو وسيلة إلى الزنا وللوسائل حكم المقاصد؛ وأما الحرمة فلا تتقيد بذلك بل يحرم عليها السفر مع غير محرم وإن قصر السفر وكان أمناً ولو لطاعة كنفل الحج أو العمرة ولو مع النساء من التنعيم، وعلى هذا يحمل عدهم ذلك من الصغائر.أ.هـ
وعليه: فلا يجوز للمرأة السفر إلا بصحبة محرم، وهو الذكر البالغ العاقل الذي يحرم نكاحه على التأبيد، وقوله e إلا مع ذي محرم يدل على أن جميع المحارم سواء في ذلك، فيجوز لها السفر مع محرمها بالنسب كابنها وأخيها وابن أخيها وابن أختها وخالها وعمها، ومع محرمها بالرضاع كأخيها من الرضاع وابن أخيها وابن أختها منه ونحوهم، ومع محرمها من المصاهرة كأبي زوجها وابن زوجها، بغير كراهة في شيء من ذلك.
ثانياً: الرفقة المأمونة رخَّص في الخروج معها لحجة الفريضة الإمامان مالك والشافعي رحمهما الله تعالى، وهي عند المالكية قد تكون رجالاً أو نساءً، أو رجالاً ونساء. قال مالك رحمه الله في الصرورة من النساء التي لم تحج قط: إنها إن لم يكن لها ذو محرم يخرج معها، أو كان لها، فلم يستطع أن يخرج معها: أنها لا تترك فريضة الله عليها في الحج، لتخرج في جماعة النساء} الموطأ ① 425 وفي مواهب الجليل قال: تحصل من كلام القاضي عياض ثلاثة أقوال: أحدها اشتراط المجموع، الثاني الاكتفاء بأحد الجنسين، الثالث: اشتراط النساء سواء كن وحدهن أو مع رجال، وهو ظاهر الموطأ. مواهب الجليل ② 527 وإلى هذا الخلاف أشار خليل بقوله: وفي الاكتفاء بنساء أو رجال أو بالمجموع تردد. مختصر خليل/ 73 وقال الشيرازي رحمه الله في المهذب: إن كانت امرأة،لم يلزمها إلا أن تأمن على نفسها بزوج أو محرم أو نساء ثقات، قال في الإملاء: أو امرأة واحدة. وروى الكرابيسي عنه إذا كان الطريق آمناً جاز من غير نساء، وهو الصحيح؛ لما روى عدي بن حاتم أن النبي e قال {حتى لتوشك الظعينة أن تخرج منها بغير جوار حتى تطوف بالكعبة. قال عدي: فلقد رأيت الظعينة تخرج من الحيرة حتى تطوف بالكعبة بغير جوار} المجموع شرح المهذب ⑦ 72
وعليه فلو خرجت المرأة إلى حجة الفريضة مع رفقة مأمونة من رجال أو نسوة ثقات فلا حرج عليها إن شاء الله؛ لما أفتى به هؤلاء الأئمة الأعلام استدلالاً بحديث عدي بن حاتم رضي الله عنه. وهذا الكلام بالنسبة لحجة الفريضة لا يشمل حج التطوع ولا السفر للتجارة أو السياحة وما أشبه ذلك مما اعتاده الناس.
أما الضرورة التي تبيح السفر بلا محرم فقد مثَّل لها العلماء بخروج المرأة من دار الكفر إلى دار الإسلام كما فعلت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط رضي الله عنها، وفيها نزلت الآية )يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن( قال النووي رحمه الله في المجموع: اتفق أصحابنا على أن المرأة إذا أسلمت في دار الحرب لزمها الخروج إلى دار الإسلام وحدها من غير اشتراط نسوة، ولا امرأة واحدة قال أصحابنا: وسواء كان طريقها مسلوكاً أو غير مسلوك؛ لأن خوفها على نفسها ودينها بالمقام فيهم أكثر من خوف الطريق، وإن خافت في الطريق سبعاً لم يجب سلوكه، هكذا ذكر هذه المسألة بتفصيلها هنا القاضي حسين والمتولي وغيرهما وذكرها الأصحاب في كتاب السير.أ.هـ
ومن أمثلة الضرورة أن يصيب المرأة داء عضال لا يتأتى علاجه إلا بالسفر، وهي لا تجد محرماً أو لا تملك نفقة سفر المحرم، ومثله أن تكون المرأة في مكان مخوف لا تأمن فيه على نفسها، فتنتقل إلى مكان آمن ونحو ذلك من الأحوال، والعلم عند الله تعالى.