الأوراق العلمية

أثر الإتّباع على حصول التمكين

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد

أولاً: الاتباع ماذا يقصد به؟

فإن الاتباع يقصد به تنفيذ ما جاء به الشرع الحنيف؛ حيث إنّه يحتوي على المنهج الكامل لحياة المجتمع الإسلاميّ، وبالتّالي فهو يشمل كلّ ما يحتاجه هذا المجتمع، وما يحتاجه الإنسان في حياته، من عقائد وأخلاق، وأحكام عمليّة تتّصل بالعبادات والمعاملات الّتي تنظّم علاقة الإنسان بأمثاله وبالمجتمع وبالأمم والعالم.

أمّا السّنّة النّبويّة فقد جاءت مكمّلة للقرآن، وأوجب اللّه على النّاس طاعة الرّسول في قبول ما شرعه لهم وامتثال ما يأمرهم به، وينهاهم عنه. إذن واجب للرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم على الأمّة أمران؛ الأوّل: الطّاعة فيما أتى به. والثّاني: أن يبلّغوا عنه ما أخبرهم به.

والسّنّة أقوال وأفعال وتقريرات، وكلّ الأقوال والتّقريرات من الدّين، وحجّة على المسلم أن يتّبعها

وقد ورد الاتّباع في القرآن الكريم مأمورا به ومنهيّا عنه، فالمنهيّ عنه هو اتّباع الهوى والشّيطان والظّنّ والكفّار وما أشبه ذلك، أمّا المأمور به فقد ورد على صور عديدة منها اتّباع الرّسل، ومنها اتّباع الوحي والشّريعة والهدى وصالح المؤمنين، وسنصنّف آيات الاتّباع المأمور به وفقا لما أمر باتّباعه.

وفي القرآن الكريم آيات تأمر باتباع المولى عز وجل؛ كقوله سبحانه {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} وقوله سبحانه {ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ} وقوله جل جلاله {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ}

وثمة آيات تأمر باتباع النبي صلى الله عليه وسلم ورسل الله الكرام وأولياء الله المقربين؛ من ذلك قوله تعالى {وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ} وقوله تعالى {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} وقوله جل جلاله {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وقوله على لسان يوسف الصديق عليه السلام {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ. وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ}

وثمة آيات تأمر باتباع ما أنزل الله وما ارتضى من شريعة؛ كقوله سبحانه {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} وقوله {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} وقوله سبحانه {يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقوله {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون}

وفي القرآن كذلك آيات تأمر باتباع سبيل المؤمنين؛ كقوله سبحانه {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وقوله سبحانه {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}

ثانياً: من فقه الاتباع

1/ معرفة السنن، أعني تلك القوانين التي أقام الله عليها بناء الأمم والحضارات؛ وجعلها سبباً للرقي والنهوض والاستقرار والتقدم؛ أو للهدم والزوال والانحطاط؛ فقد نبهنا جل جلاله إلى أن هذه السنن صارمة؛ تتسم بالاطراد والشمول والثبات، فهي لا تحابي أحداً؛ فقال سبحانه {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} وقال جل جلاله {سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً}

فمن أراد التمكين فلا بد أن يتعرف على هذه السنن ويتدبرها ويستوعبها؛ لقوله تعالى {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَذِينَ مِن قَبْلِكُم وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}

وهذه السنن مرتبطة بالأمر والنهي، والطاعة والمعصية، والإيمان والكفر، والتوحيد والشرك، فالإنسان إذا أتى الأمر واجتنب النهي ووقف عند حدود الله، أصاب خير السنة الربانية، وإذا أهمل الأمر وخالفه وارتكب المنهي عنه ووقع في حدود الله، أصابه شر السنة الربانية

2/ الأخذ بالأسباب؛ وهذا مما يغفل عنه كثير من الناس حين يتحدثون عن هدي الأنبياء عليهم السلام في التمكين لدين الله عز وجل فيركزون على المعجزات الإلهية والمنح الربانية، ويغفلون عن أن أولئك المصطفين الأخيار عليهم السلام قد أخذوا بالأسباب؛ فهل كان صنيع نبي الله نوح عليه السلام في تهيئة السفينة وحمل زوجين من كل نوع إلا أخذاً بالأسباب؟ وماذا نسمي ما قام به نبي الله موسى عليه السلام حين أسرى بقومه ثم ضرب البحر بعصاه؟ ومن نظر فيما قام به داود وسليمان عليهما السلام من الأخذ بأسباب القوة، حتى إن نبي الله سليمان يقول {يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء} ثم إن الله تعالى يقول عن ذي القرنين – الذي كان نبياً أو وليا – {وآتيناه من كل شيء سببا}

فكيف نرجو التمكين وغاية ما يأمل فيه كثير من شبابنا أن يقرأوا بعض الكتب في بعض العلوم، ثم لا يبالون بعد ذلك!! إنه لا بد من إجراء الدراسات والبحوث العلمية لتقويم نشاط الدعوة وإيجاد البرامج والخطط المناسبة لتوجيه الأعمال

3/ التوكل على الله والثقة بنصره وتأييده وعدم الانقطاع عنه بأسبابنا الضعيفة؛ إن الثقة بنصر الله، وعونه ووعده الحق لمن جاهد في سبيله، هي زاد الطريق، ومفتاح الأمل، ونور الأجيال الإسلامية التي تبصر بها آفاق زاد الطريق، ومفتاح الأمل، ونور الأجيال الإسلامية التي تبصر بها آفاق الرحلة، وتبقى (لحظة النصر) و (بشارة التمكين) حية شاخصة في رؤى المجاهدين ومشاعرهم، وإن من فقد هذه الثقة بالله ونصره، فقد خسر خسراناً مبيناً، ومن تشكك فيها لحظة، فقد تأخر عليه النصر على قدرها، {مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ * وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ}

4/ إحياء الهوية الإسلامية؛ فإنها تشكل الحافز العقدي والدافع النفسي الذي يدفع الأمة في طريق التقدم والحضارة، ويقاوم في ذات الوقت الاجتياح الحضاري للأمم الأخرى، والإسلام وحده هو هوية الأمة الإسلامية، ومحور اجتماع أفرادها، والقوة الدافعة التي تفجر طاقاتها وتقوي وقفتها في مواجهة كل أعدائها. لقد قام العملاء من بني جلدتنا بإبعاد الإسلام كهوية للأمة الإسلامية، وزعموا أن طريق (الإحياء الحضاري) للأمة هو (إحياء الهوية الوطنية) و (المشروع القومي المتجدد)!!  ونحن نسمع قول نبينا صلى الله عليه وسلم (وأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ، اللَّهُ أمَرَنِي بِهِنَّ: بِالْجَمَاعَةِ، وَالسَّمْعِ، وَالطَّاعَةِ، وَالْهِجْرَةِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنَ الْجَمَاعَةِ قَيْدَ شِبْرٍ، فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِسْلامِ مِنْ عُنُقِهِ إِلا أَنْ يُرَاجِعَ، وَمَنْ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ، فَهُوَ مِنْ جُثَى جَهَنَّمَ “، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى؟ قَالَ: «وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ، فَادْعُوا الْمُسْلِمِينَ بِمَا سَمَّاهُمُ الْمُسْلِمُونَ الْمُؤْمِنُونَ عِبَادَ اللَّهِ)

وكل منصف يعلم أن الهوية الوطنية قد فرقت الأمة الإسلامية إلى كيانات جزئية ومجتمعات منفصلة، وأصبح الفرد في ظلها يعاني من (الاغتراب) و(فقدان الانتماء) للأمة، فانعزل داخل همومه الفردية واهتماماته الذاتية، وتحولت المجتمعات الإسلامية إلى (ركام) من الأفراد لا يربطهم خيط جامع.. ووصلت الأمة إلى المعادلة الصعبة: وطن بلا مواطنين، ومواطنون بلا وطن..

5/ العناية بإحياء دور الفرد؛ إن السنة النبوية حافلة بالأحاديث التي تحدد دور الفرد في المجتمع المسلم؛ منها ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقف على ناس جلوس فقال : (ألا أخبركم بخيركم من شركم، قال : فسكتوا، فقال ذلك ثلاث مرات، فقال رجل : بلى يا رسول الله أخبرنا بخيرنا وشرنا، قال : خيركم من يرجى خيره ويؤمن شره)، وما رواه البخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن مرآة أخيه والمؤمن أخو المؤمن يكف عليه ضعفه ويحوطه من ورائه)  وما رواه ابن حبّان والنسائي والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم) .

6/ التربية الإسلامية الشاملة؛ فإن العلمانية التي حكمت بلاد المسلمين مائة سنة أو تزيد قد انكشفت سوأتها وبانت عورتها، وما حصد الناس من ورائها إلا الهشيم؛ وعلم الناس طراً أن بنيانها تأسس على شفا جرف هار؛ حين كذبوا على الله وعلى الناس وصوروا الإسلام مجموعة من الشعائر التي لا علاقة لها بشئون الحياة؛ وكان لجوؤهم إلى الإسلام لجوء المضطر حين تصيبه القوارع؛ فحاولوا مصالحة كل أزمات الأمة ومشاكلها بجزء من الإسلام.

ومن هنا فإن المشروع الحضاري الإسلامي لا بد أن يكون منهاجاً للتغيير الكامل والجذري، يقوم بمجابهة الأزمات الحضارية للأمة والانتكاسات الفردية والاجتماعية عبر (خطاب إسلامي شامل) يهتم بالجانب العقدي التشريعي والسلوكي اهتماماً متوازناً ومتعانقاً، يعالج السقوط العقائدي والاجتماعي والأخلاقي علاجاً شافياً.

7/ إخراج الأمة المسلمة؛ استهداء بقول ربنا جل جلاله {كنتم خير أمة أخرجت للناس} وقول العبد الصالح ربعي بن عامر رضي الله عنه (إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام) لا بد أن يعلم الناس إن التمكين لهذا الدين هو واجب الأمة كلها؛ ليس واجب جماعة ولا حزب ولا تنظيم ولا طائفة؛ بل هو واجب منوط بعنق كل مسلم؛ فإنهم أمة واحدة، تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم؛ فالمسئولية منوطة بعنق كل من شهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى