الجهة المسئولة عن تقدير الضرورة
بسم الله الرحمن الرحيم
الجهة المسئولة عن تقدير الضرورة
ورقة مقدمة لندوة بنك السودان
25/1/2012
أعدها: عبد الحي يوسف
جامعة الخرطوم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
فتحريم الربا من ضرورات الدين التي يشترك في العلم بها الخاص والعام من المسلمين، وقد تظاهرت على ذلك أدلة الكتاب والسنة، واتفقت على ذلك كلمة علماء الأمة سواء في ذلك الأولون أم المحدثون، حيث كان من قرارات وتوصيات المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية بمصر عام 1385هــ 1965م في الفقرة الثانية من القرار الثاني عن المعاملات المصرفية النص التالي: الإقراض بالربا محرم لا تبيحه حاجة ولا ضرورة؛ والاقتراض بالربا محرم كذلك، ولا يرتفع إثمه إلا إذا دعت إليه ضرورة، وكل امرئ متروك لدينه في تقدير ضرورته.
وهذه الضرورة قد تلجئ بعض المسلمين – أفراداً أو جماعات – إلى الوقوع في شيء منه؛ والله عز وجل حين ذكر جملة من المحرمات مما يماثل الربا أو فوقه أو دونه في التحريم قال ((فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم)) وقال ((إلا ما اضطررتم إليه)) ومن هنا أخذ علماؤنا قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات) وقرروا أنه لا حرام مع ضرورة، ولا واجب مع عجز.
والعمل بالضرورة واجب متى ما توافرت الدواعي للعمل بها وإجراء إحكامها؛ لأن الواجب لا يترك إلا لواجب، وللوسائل حكم المقاصد.
لكن ما هو حد الضرورة المبيح للربا؟ ومن هي الجهة المسئولة عن تحديد الضرورة؟ أقول: إن بيان هذا من أوجب الواجبات وأهم المهمات؛ لأن كثيراً من الناس يخطئون في الضرورة من حيث تنزيلها؛ حين يتساهلون في ارتكاب المحرمات؛ وهم يرددون (الضرورات تبيح المحظورات) وكثيرون كذلك لا يضبطون الضرورة بضوابطها الشرعية؛ بل بعضهم يظن ما ليس بضرورة ضرورة، وقد يطلقون على الحاجة ضرورة، غافلين عن أن الضرورة حالة تستدعي إنقاذاً، أما الحاجة فهي حالة تستدعي تيسيراً وتسهيلاً، فهي في مرتبة دون الضرورة، بل قد يتعدَّى بعضهم ذلك فيطلق الضرورة على ما هو من قبيل التحسينات؛ وكل ذلك مردُّه إلى سوء الفهم أحياناً وخوض غير المتخصصين في هذه المسائل أحياناً أخرى.
وقد يظن بعض الناس أن تقرير ولي الأمر أن هذه القضية أو تلك النازلة ضرورة تبيح الربا كافٍ للوقوع فيه؛ متذرعين في ذلك بأن طاعة ولي الأمر واجبة؛ غافلين عن أن هذه الطاعة مقيَّدةٌ لا مطلقة؛ يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: والتحقيق أن الأمراء إنما يُطاعون إذ أمروا بمقتضى العلم؛ فطاعتهم تبع لطاعة العلماء؛ فإن الطاعة إنما تكون في المعروف وما أوجبه العلم؛ فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول؛ فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء؛ ولما كان قيام الإسلام بطائفتي العلماء والأمراء، وكان الناس كلهم لهم تبعاً، كان صلاح العالم بصلاح هاتين الطائفتين وفساده بفسادهما، كما قال عبد الله بن المبارك وغيره من السلف: (صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس!! قيل: من هم؟ قال: الملوك والعلماء}. كما قال عبد الله بن المبارك:
رأيت الذنوب تميت القلوب … وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب … وخير لنفسك عصيانها
وهل أفسد الدين إلا الملوك … وأحبار سوء ورهبانها
ومهما يكن من أمر فإن الضرورة لا تخلو من أن تكون خاصة أو عامة؛ أما الضرورة الخاصة؛ فيعود تقديرها إلى الشخص الذي نزلت به تلك الضرورة؛ أو إلى من يفتيه من أهل العلم ممن يثق في دينهم؛ وأما الضرورة العامة فلا بد فيها من اجتهاد يتولى أمره جماعة من أهل العلم ممن توافر فيهم شرطان، هما الدين العاصم والعلم الواسع؛ يقول الدكتور عبد الحميد أبو سليمان في كتابه (فقه الضرورة وتطبيقاته المعاصرة ـ آفاق وأبعاد) الضرورة من الأمور الاجتهادية؛ فمنها ما هو متصل بأمور الجماعة، ومنها ما هو متعلق بخصوصيات الأفراد، أما ما كان متصلاً بأمور الجماعة والمجتمع فهو مسئولية الحاكم الشرعي صاحب السلطة التنفيذية في البلاد، فجمع القرآن في مصحف واحد كان ضرورة تهم جماعة المسلمين عامتهم، تولاها الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وتوقيف تنفيذ حد السرقة لمدة معينة كان ضرورياً بسبب المجاعة كان من شأن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه
أما ما كان متصلاً بخصوصيات الأفراد فتقديره موكول إلى ديانتهم، يحكِّمون فيها ضمائرهم؛ بحيث تتفق ممارستهم وأحكام الشريعة، في غير خدعة ولا تضليل؛ فالله مطلع على سرائرهم وحقيقة نواياهم؛ إذ الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، وهي مما يستفتي فيه المرء نفسه وإن أفتاه المفتون وأفتوه.ا.هــــ
ولا بد من التنبيه على خطورة القول على الله تعالى بغير علم؛ لأن كثيراً من الناس قد يسارعون إلى الحكم بأن هذا الأمر ضرورة، ولا يكتفون بتقرير ذلك لأنفسهم بل قد يتعدَّون إلى تقريره للعامة والدولة؛ وهم في ذلك ذوو بضاعة مزجاة مع جرأة لا يُحسدون عليها؛ قال تعالى ))قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا)) وقال تعالى ((فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين)) وقال سبحانه ((ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب(( وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ} رواه الترمذي من حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه. وقال صلى الله عليه وسلم {من أفتي بفتيا غير ثبت فإنما إثمه على من أفتاه} رواه أحمد وابن ماجه. وقد عدَّ الإمام القرافي رحمه الله المفتي ترجماناً عن الله عز وجل، وعدَّه ابن القيم رحمه الله موقِّعاً عن رب العالمين، وقال: من أفتى الناس بغير علم فهو آثم عاص ومن أقرَّه من ولاة الأمور على ذلك فهو آثم أيضاً. وقال ابن الجوزي رحمه الله: ويلزم ولي الأمر منعهم كما فعل بنو أمية، وهؤلاء بمنزلة من يدل الراكب وليس له علم بالطريق، وبمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة، وبمنزلة من يطبِّب الناس ولا علم له بالطب، بل هو أسوأ حالاً من هؤلاء كلهم، وإذا تعين على ولي الأمر منع من لا يحسن التطبب، فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين؟ فليتق اللهَ ناس يسارعون إلى الفتيا ولا يبالون، ((والله من ورائهم محيط)) وهم في ذلك يحتجون بأنه ليس في الإسلام رجال دين؛ غافلين عن قوله تعالى ((فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)) وبعضهم يسارع بدعوى الاجتهاد بحجة أن بابه مفتوح وأنه لا حجر على العقول؛ ويغفلون عن أن للاجتهاد شروطاً وأدوات لا يحق لمن لم يحصِّلها أن يدعي الاجتهاد {والمتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور} يقول صاحب أضواء البيان (رحمه الله): فأما من ليس بأهل للحكم فلا يحل له الحكم، فإن حكم فلا أجر له، بل هو آثم، ولا ينعقد حكمه سواء وافق الحق أم لا.ا.هــــــ
وبعضهم يعتقد أن الخلاف بذاته حجة؛ ولا يعلمون أن من الخلاف ما هو شاذ لا قيمة له؛ (كخلاف أبي الخطاب بن دحية في قصر المغرب في السفر ـ وخلاف عثمان البتي في جواز الجمع ببن المرأة وعمتها)، ومسائل الإجماع كثيرة حتى قال أبو إسحاق الاسفرائيني: نحن نعلم أن مسائل الإجماع أكثر من عشرين ألف مسألة. والخلاف شأن العلماء ولا دخل للعامة والمتطفلين به، وبعضهم يعمد إلى تتبع الرخص يقول ابن عبد البر في تحريم تتبع رخص العلماء: (لا أعلم فيه خلافاً بين أهل العلم) وكذلك قال الإمام ابن حزم والباجي وابن الصلاح، وقال الأوزاعي إمام أهل الشام: (من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام) وقال الإمام أحمد: (لو أن رجلاً أخذ بقول أهل الكوفة في النبيذ وبقول أهل المدينة في السماع وبقول أهل مكة في المتعة لكان فاسقاً) ويقول ابن حزم: (وهناك قوم بلغت بهم رقة الدين وقلة التقوى إلى طلب ما يوافق أهواءهم في قول كل قائل، فهم يأخذون ما كان رخصة في قول كل عالم، غير طالبين ما أوجبه النص عن الله تعالى أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم ) وبعضهم يحاول مجاراة الواقع بدعوى صعوبة تغييره، وهي كلها مزالق يجب اجتنابها
وحين نقرر أن الضرورة العامة يقررها أهل العلم؛ فلا بد لهؤلاء من نوعين من العلم:
1- علم بشرع الله المتمثل في نصوص القرآن والسنة ومدارك الأحكام وطرائق الاستنباط ومواضع الإجماع ومواطن الخلاف وشروط القياس ومقاصد الشريعة وقواعد الفقه، وغير ذلك مما لا غنى للمفتي عنه. يروي الحافظ الخطيب البغدادي في كتابه “الفقيه والمتفقه” عن الإمام الشافعي قوله: “لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله، إلا رجلا عارفا بكتاب الله، بناسخه ومنسوخه، وبمحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزليه، ومكيه ومدنيه، وما أريد به، وفيم أنزل، ثم يكون بعد ذلك بصيراً بحديث رسول الله e، بالناسخ والمنسوخ، ويعرف من الحديث ما عرف من القرآن، ويكون بصيراً باللغة بصيراً بالشعر، وبما يحتاج إليه العلم والقرآن، ويستعمل ـ مع هذا ـ الإنصات وقلة الكلام، ويكون بعد هذا مشرفاً على اختلاف أهل الأفكار، وتكون له قريحة (أي ملكة وموهبة) بعد هذا فإن كان هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فله أن يتكلم في العلم ولا يفتي”.
2- علم بالواقع الذي تتنزل عليه تلك النصوص وتُطبَّق. يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: ولا يَتمكَّن المفتي ولا الحاكمُ مِن الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين مِن الفهم:
أحدهما: فَهْم الواقِع والفِقه فيه، واستنباط عِلم حقيقة ما وقَع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيطَ به علمًا.
النوع الثاني: فَهْم الواجِب في الواقع، وهو فَهْم حُكم الله الذي حَكَم به في كتابه أو على لسانِ رسولِه في هذا الواقع، ثم يُطبِّق أحدهما على الآخر، فمَن بذل جهده واستفرغ وسعَه في ذلك لم يَعْدم أجْرَين أو أجرًا، فالعالِم مَن يتوصل بمعرفة الواقع والتفقُّه فيه إلى معرفة حُكم الله ورسوله.ا.هـــ
وقال أيضًا: فها هنا نوعانِ مِن الفقه لا بدَّ للحاكم منهما، فِقه في أحكام الحوادث الكلية، وفِقه في نفس الواقع وأحوال الناس، يميِّز بين الصادق والكاذب، والمُحقِّ والمبطِل، ثم يطابق بين هذا وهذا، فيُعطي الواقع حُكمَه من الواجب، ولا يجعل الواجب مخالفًا للواقِع.ا.هــــ
ويقول الخطيب البغدادي في “الفقيه والمتفقه” “اعلم أن العلوم كلها أبازير للفقه، وليس دون الفقه علم إلا وصاحبه يحتاج إلى ما يحتاج إليه الفقيه، لأن الفقيه يحتاج أن يتعلق بطرف من معرفة كل شيء من أمور الدنيا والآخرة، وإلى معرفة الجد والهزل، والخلاف والضد، والنفع والضر، وأمور الناس الجارية بينهم، والعادات المعروفة منهم، فمن شرط المفتي النظر في جميع ما ذكرناه، ولن يدرك ذلك إلا بملاقاة الرجال، والاجتماع مع أهل النحل والمقالات المختلفة، ومساءلتهم وكثرة المذاكرة لهم، وجمع الكتب ومدارستها، ودوام مطالعتها”.
هذا والواجب إذا لم يكن بوسع الفقيه أن يتوصل إلى تطبيق قواعد الضرورة وضوابطها لقصوره عن إدراك الواقع والإحاطة بتفاصيله؛ فلا بد أن يستعين بمن يكيِّف له ذلك الواقع، حتى تخرج فتواه بجميع فيودها وشروطها سالمة من الخطأ موفية بالغرض؛ فيسلم المفتي ويسلم تبعاً لذلك الناس
ومن هنا فإن الورقة توصي بإنشاء جسم تكون له صفة الدوام، يتألف من نخبة من علماء الشرع وعلماء الاقتصاد؛ ويكون معنياً بتنزيل فقه الضرورة على النوازل والحوادث المستجدة، على أن يكون دور علماء الاقتصاد قاصراً على توصيف الواقع لا إصدار الفتوى، والله المستعان.