الحمض النووي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.
مقدمة بين يدي الموضوع
لا شك أن موضوعاً كهذا بحاجة إلى بحث مستفيض وترو في النظر؛ نسبة لتعلقه بالأعراض من ناحية وكذلك لا يغفل الناظر فيه ما عليه الناس اليوم من رقة الدين ومسارعة إلى الولوغ في الأعراض لأدنى شبهة. وقد حذرت شريعة الإسلام أشد التحذير من التلاعب بالأنساب نفياً أو إثباتاً، بل إن من الكليات التي جاءت الشرائع بالمحافظة عليها الأنساب.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول حين نزلت آية المتلاعنين (أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء ولن يدخلها الله جنته، وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله عنه، وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين) أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان.
في إثبات النسب
1ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الولد للفراش وللعاهر الحجر. متفق عليه.
2ـ وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أن ابن وليدة زمعة مني فاقبضه. فلما كان عام الفتح أخذه سعد بن أبي وقاص وقال: ابن أخي قد عهد إليَّ فيه، فقام عبد بن زمعة فقال: أخي وابن وليدة أبي، ولد على فراشه، فتساوقا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال سعد: يا رسول الله ابن أخي، كان قد عهد إليَّ فيه، فقال عبد بن زمعة: أخي وابن وليدة أبي، ولد على فراشه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو لك يا عبد بن زمعة. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: الولد للفراش وللعاهر الحجر. ثم قال لسودة بنت زمعة: احتجبي منه يا سودة؛ لما رأى من شبهه بعتبة، فما رآها حتى لقي الله. رواه البخاري
3ـ وفي رواية مسلم أن سعداً قال: هذا يا رسول الله ابن أخي عتبة بن أبي وقاص عهد إليَّ أنه ابنه، انظر إلى شبهه. وقال عبد بن زمعة: هذا أخي يا رسول الله ولد على فراش أبي من وليدته، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شبهه، فرأى شبها بيناً بعتبة، فقال: هو لك يا عبد، الولد للفراش وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة.
4ـ وعن الحسن بن سعد مولى الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما عن رباح قال: زوَّجني أهلي أمة لهم رومية فوقعت عليها، فولدت غلاماً أسود مثلي، فسمَّيته عبد الله، ثم وقعت عليها فولدت غلاماً أسود مثلي فسميته عبيد الله، ثم طبن لها غلام لأهلي رومي يقال له يوحنة فراطنها بلسانه، فولدت غلاماً كأنه وزغة من الوزغات، فقلت لها: ما هذا؟ فقالت: هذا ليوحنة، فرفعنا إلى عثمان فسألهما فاعترفا، فقال لهما: أترضيان أن أقضي بينكما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن الولد للفراش. فجلدها وجلده وكانا مملوكين.
معاني الكلمات في الحديث
الولد للفراش: يعني إذا كان للرجل زوجة أو أمة يطؤها وجاءت بولد في وقت يمكن إلحاقه بالزوج أو بالسيد فإن نسب الولد يكون لصاحب الفراش ويجري بينهما التوارث وغيره من الأحكام، فلو ادعاه زان بالمرأة لا يلحق به، وإنما يحلق بالذي افترش المرأة بطريق مشروع، والمعنى أو الولد لمالك الفراش وهو الزوج، والمرأة تسمى فراشاً لأن الرجل يفترشها.
وللعاهر: أي الزاني، الحجر: أي الرجم إن كان محصناً، وقال بعض أهل العلم: المراد بالحجر هنا أن له الخيبة ولا حق له في الولد، وإنما هو لصاحب الفراش
في نفي النسب
في صحيح البخاري من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه في قصة عويمر العجلاني ولعانه لامرأته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: انظروا فإن جاءت به أسحم أدعج العينين، عظيم الأليتين، خدلج الساقين، فلا أحسب عويمراً إلا قد صدق عليها، وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة، فلا أحسب عويمراً إلا كذب عليها. فجاءت به على النعت الذي نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم من تصديق عويمر فكان بعد ينسب إلى أمه. وفي لفظ: أبصروها فإن جاءت به أبيض سبطاً فهو لزوجها، وإن جاءت به أكحل جعداً فهو للذي رماها به.
سبطاً: قال النووي: الشعر المسترسل
أكحل: وهو الذي منابت أجفانه كلها سود كأن فيها كحلاً
جعداً: في شعره جعودة، أو هو المعصوب الخلق الشديد الأسر
وحرة: دويبة تترامى على الطعام واللحم فتفسده، وهي من نوع الوزغ
أسحم بمعنى أسود، وأدعج العينين: بمعنى واسعهما
خدلج الساقين: ممتلئهما
وقد أخذ العلماء من هذا الحديث جواز ذكر الأوصاف المذمومة عند الضرورة الداعية إلى ذلك ولا يكون ذلك من باب الاغتياب، وأنه إذا تم اللعان بين الزوجين وقامت الشبهة على المرأة بعد ذلك فإنه لا يقام عليها الحد.
وعن عمر رضي الله عنه قال: من أقر بولده طرفة عين فليس له أن ينفيه. أخرجه البيهقي. قال ابن حجر: وهو حسن موقوف. قال الشيخ شيبة الحمد في فقه الإسلام: وما يقرره أثر عمر رضي الله عنه من أنه لا يقبل نفي الولد بعد الإقرار به هو أمر قد انعقد عليه إجماع المسلمين، والله أعلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاماً أسود، قال: هل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: فما ألوانها؟ قال: حمر. قال: هل فيها من أورق؟ قال: نعم. قال: فأنى ذلك؟ قال: لعله نزعه عرق. قال: فلعل ابنك هذا نزعه عرق. متفق عليه. وفي رواية لمسلم: وهو يعرض بأن ينفيه. وقال في آخره: ولم يرخص له في الانتفاء منه.
وقد أخذ العلماء من هذا الحديث أن التعريض بنفي الولد ليس نفيا، وأنه لا يجوز للوالد أن ينتفي من ولده بمجرد الظن أو اختلاف اللون، وأن الولد يلحق بأبيه مهما اختلف لونه، ووجوب الاحتياط للأنساب وإلحاقها بمجرد إمكان ذلك، وكراهية سوء الظن بالمسلمين دون برهان.