العلاج بالقرآن .. رؤية شرعية
العلاج بالقرآن رؤية شرعية
ورقة مقدمة لحلقة (مركز بحوث القرآن والسنة)
قاعة الشهداء
27/11/1426 الموافق 29/12/2005
أعدها: عبد الحي يوسف
رئيس قسم الثقافة الإسلامية
جامعة الخرطوم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.
فموضوعنا لهذا اليوم مما ينبغي على الدعاة طرقه وبحثه؛ لأنه مما عمت به البلوى وعظمت منه الشكوى، واختلط فيه الحق بالباطل والخطأ بالصواب، وإن التمادي في السكوت عنه قد يفضي إلى مفاسد أعظم مما هو حاصل الآن، ولذلك يحمد لمن اختاروا هذا الموضوع حسن صنيعهم، وأرجو أن أوفق في طرحه طرحاً يشبه أن يكون ـ إن شاء الله ـ علمياً، وذلك بطرحه في نقاط معدودات.
أولها: مشروعية العلاج من كل داء
فالمقرر عند كل مسلم أن الله تعالى جعل الأمراض والأوجاع كفارة للذنوب والخطايا، {حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من ذنوبه وخطاياه} وأنه تعالى حين أنزل الداء جعل معه شفاء؛ في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم {ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء} قال الحافظ ابن حجر رحمه الله بعد سرده لروايات الحديث: المراد بالإنزال في حديث الباب إنزال علم ذلك على لسان الملك للنبي صلى الله عليه وسلم مثلاً، أو عبَّر بالإنزال عن التقدير، وفيها التقييد بالحلال فلا يجوز التداوي بالحرام، وأن الشفاء متوقف على الإصابة؛ وذلك أن الدواء قد يحصل معه مجاوزة الحد في الكيفية أو الكمية فلا ينجع، بل ربما أحدث داء آخر، وأن بعض الأدوية لا يعلمها كل أحد، وفيها كلها إثبات الأسباب، وأن الدواء قد ينقلب داءً إذا قدَّر الله ذلك، وأن التداوي لا ينافي التوكل كما لا ينافيه دفع الجوع والعطش بالأكل والشرب، وكذلك تجنب المهلكات والدعاء بطلب العافية ودفع المضار وغير ذلك.ا.هـ
ومن هنا ثبتت السنة القولية والفعلية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشروعية التداوي ؛ فمن السنة القولية {تداووا عباد الله؛ فإن الله سبحانه لم يضع داء إلا وضع معه شفاء إلا الهرم} رواه ابن ماجه والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم، وعند أحمد {تداووا عباد الله؛ فإن الله لم ينزل داء إلا أنزل معه شفاء إلا الموت والهرم} وأما الفعلية فقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم وهو أعظم الخلق توكلاً على الله يتداوى مما يصيبه من الأسقام والجروح، ويصف لأصحابه أدوية تنفعهم بإذن الله؛ والأمثلة على ذلك قد طفحت بها كتب السنة؛ حتى إنه لا يكاد يخلو كتاب حديث من باب عن (الطب) وإن بعض علمائنا قد دون كتباً خصصها للحديث عن الطب النبوي.
ثانياً: القرآن شفاء
القرآن شفاء من كل داء؛ نطقت بذلك آيات الكتاب العزيز كقوله تعالى )يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين( وقوله تعالى )وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين( يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: يقول تعالى مخبراً عن كتابه الذي أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد: إنه شفاء ورحمة للمؤمنين؛ أي يذهب ما في القلب من أمراض من شك ونفاق وشرك وزيغ وميل؛ فالقرآن يشفي من ذلك كله، وهو أيضاً رحمة يحصل فيها الإيمان والحكمة وطلب الخير والرغبة فيه، وليس هذا إلا لمن آمن به وصدقه واتبعه؛ فإنه يكون شفاء في حقه ورحمةا.هـ وقوله تعالى )قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء( وقد أفرد الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه (زاد المعاد) فصلاً في هديه e في العلاج العام لكل شكوى بالرقية الإلهية، ونقل ما رواه أبو داود بسنده عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول {من اشتكى منكم شيئاً أو اشتكاه أخ له فليقل: ربنا الذي في السماء، فاجعل رحمتك في الأرض، اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك، وشفاء من شفائك على هذا الوجع؛ فيبرأ} وما رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أشتكيت؟ فقال: نعم. فقال جبريل عليه السلام {باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، باسم الله أرقيك}
ثالثاً: أنواع الرقى
الرقية واحدة الرقى، واسم الفاعل منها رقَّاء، قال ابن الأثير رحمه الله تعالى: الرقية العوذة التي يرقى بها صاحب الآفة كالحمى والصرع وغير ذلك من الآفات، ومنه قوله تعالى )وقيل من راق( أي من يرقيه، قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: والاسترقاء أن يطلب من غيره أن يرقيه، والرقية نوع من الدعاء
وقد دلت نصوص السنة على أن الرقى نوعان: رقى شرعية ورقى شركية:
فالرقية الشرعية هي التي تتوافر فيها ثلاثة شروط:
- أن تكون بكلام الله أو بأسمائه وصفاته أو المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم
- أن تكون باللسان العربي وما يعرف معناه؛ فكل اسم مجهول فليس لأحد أن يرقي به فضلاً عن أن يدعو به ولو عرف معناه؛ لأنه يكره الدعاء بغير العربية، وإنما يرخص لمن لا يحسن العربية، فأما جعل الألفاظ الأعجمية شعاراً فليس من دين الإسلام؛ لأن ما لا يفهم لا يؤمَن أن يكون فيه شيء من الشرك. وفي صحيح مسلم عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله: كيف ترى في ذلك؟ فقال {اعرضوا عليَّ رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك} وقال الربيع: سألت الشافعي عن الرقية؟ فقال: لا بأس أن ترقي بكتاب الله وبما تعرف من ذكر الله. قلت: أيرقي أهل الكتاب (اليهود والنصارى) المسلمون؟ قال: نعم، إذا رقوا بما يعرف من كتاب الله، وبذكر الله. وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عمن يقول: يا أزران، يا كيان، هل صح أن هذه أسماء وردت بها السنة لم يحرم قولها؟ فأجاب: الحمد لله لم ينقل هذه عن الصحابة أحد لا بإسناد صحيح ولا بإسناد ضعيف، ولا سلف الأمة ولا أئمتها، وهذه الألفاظ لا معنى لها في كلام العرب، فكل اسم مجهول ليس لأحد أن يرقي به فضلا عن أن يدعو به، ولو عرف معناها وأنه صحيح لكره أن يدعو الله بغير الأسماء العربية.ا.هـ
- أن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بتقدير الله تعالى .
فإذا كانت هذه الشروط الثلاثة مجتمعة في الرقية فهي الرقية الشرعية، وقد قال صلى الله عليه وسلم {لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً} رواه مسلم .وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرقي نفسه ومن يحتاج من أصحابه كما في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بــ: قل هو الله أحد وبالمعوذتين جميعاً ثم يمسح بهما وجهه، وما بلغت يداه من جسده. وروى الشيخان من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح عنه بيده رجاء بركتها
أما الرقى الشركية فهي الرقى التي يستعان فيها بغير الله ويستغاث فيها بأحد سواه كالرقى بأسماء الجن والملائكة والأنبياء والصالحين ونحو ذلك، قال الإمام البغوي رحمه الله تعالى: المنهي عنه من الرقى ما كان فيه شرك أو كان يذكر مردة الشياطين، أو كان فيها بغير لسان العرب ولا يدرى ما هو ولعله يدخله سحر أو كفر.ا.هـ
رابعاً: مشروعية طلب الرقية ممن يرجى خيره
يجوز للمريض أو المبتلى أن يطلب الرقية من غيره، ولا حرج عليه في ذلك؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية وهو يشرح قوله صلى الله عليه وسلم في حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب ـ وهو في الصحيحين ـ مدح هؤلاء بأنهم لا يسترقون، أي لا يطلبون من أحد أن يرقيهم، والرقية من جنس الدعاء، فلا يطلبون من أحد ذلك، وقد روي فيه {ولا يرقون} وهو غلط.ا.هـ وقال في موضع آخر: وإن كان الاسترقاء جائزاً.ا.هـ
والأولى أن يرقي الإنسان نفسه؛ فإن المسلم إذا استطاع أن يرقي نفسه، فلا شك أن ذلك أفضل، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرقي نفسه، كما ثبتت بذلك الأحاديث الكثيرة التي سبق ذكر بعضها، كما أن رقية الإنسان نفسه أدعى للإخلاص
خامساً: مسائل في الرقية
أولها: لا شك أن التصدي لعلاج المس والعين والسحر من القرب إلى الله تعالى إن قصد بذلك نفع الناس ابتغاء وجه الله والدار الآخرة. فمن استطاع أن ينفع المسلمين بمثل هذا فليفعل، ولو كثر عليه الناس، بشرط ألا يفوت من المصالح ما هو أعظم، وألا يتخذ الرقية مهنة يعتمد عليها في الاستكثار من المال؛ روى مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه قال: لدغت رجلاً ما عقرب ونحن جلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل: يا رسول الله أرقي؟ فقال {من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل} فمن يقوم بمعالجة الناس بالقرآن يجب أن يكون صحيح المعتقد، مستقيماً على أوامر الشرع، خبيراً بالتعامل مع ما قد يظهر أمامه من أثر السحر أو الجان، متقيداً بشروط الرقية الشرعية، وعليه أن يتقي الله جل جلاله ويلتزم بعدة توجيهات من أهمها:
1ـ العلم والبصيرة في ذلك، لئلا يلتبس عليه الحق بالباطل، وبإمكانه أن ينظر فيما دونه أهل العلم من مسائل هذا الباب لئلا يخبط خبط عشواء ويكون ضرره أعظم من نفعه.
2ـ الإخلاص وابتغاء وجه الله بهذا العمل، لئلا يصاب بالغرور ولا مانع من أخذه الأجرة على الرقية؛ لكن ينبغي أن يكون المقصد الأول هو مرضاة الله تعالى.
3ـ مراعاة الحدود والضوابط الشرعية، لاسيما فيما يخص علاج النساء من الخلوة بالأجنبية أو مس جسدها.. قال ابن القيم رحمه الله: ولا بد للمعالج أن يكون قوي النفس صادق التوجه إلى فاطر الأرواح وبارئها، وأن يكون تعوذه مما تواطأ عليه القلب واللسان.ا.هـ
ثانيها: كيفية العلاج بالقرآن هي أن تقرأ الآيات القرآنية على موضع المرض، أو في اليدين ثم يمسح بهما على موضع المرض، أو على جميع الجسم إن كان المرض عاماً للجسم؛ لما رواه البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه تفل في كفه، ويقرأ قل هو الله أحد والمعوذتين، ثم يمسح بهما وجه، وما بلغت يده من جسده، ويدل عليه أيضاً ما في صحيح مسلم عن عثمان بن أبي العاص الثقفي رضي الله عنه أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعا يجده في جسده منذ أسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم {ضع يدك على الذي يألم من جسدك وقل: باسم الله ثلاثاً، وقل سبع مرات: أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر}
ثالثها: لا حرج على الراقي أن يخاطب الجني ويسأله عن اسمه أو غيره مما له فيه غرض صحيح، فقد روى ابن ماجه عن عثمان بن أبي العاص الثقفي رضي الله عنه قال: لما استعملني رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطائف جعل يعرض لي شيء في صلاتي حتى ما أدري ما أصلي، فلما رأيت ذلك رحلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال {ابن أبي العاص؟} قلت: نعم يا رسول الله، قال {ما جاء بك؟} قلت: يا رسول الله عرض لي شيء في صلاتي حتى ما أدري ما أصلي، قال {ذاك شيطان، ادنه} فدنوت منه فجلست على صدور قدميَّ؛ قال: فضرب صدري بيده، وتفل في فمي، وقال: اخرج عدو الله، ففعل ذلك ثلاث مرات، ثم قال {الحق بعملك} قال عثمان: فلعمري ما أحسبه خالطني بعد. وكذلك حديث يعلى بن مرة الثقفي في شأن العجائب الثلاث، ومن بينها أمر الولد الممسوس، أخرجه أحمد في مسنده والطبراني والدارمي وغيرهم بأسانيد وطرق متعددة لا تخلو كلها عن مقال، وأخرجه التبريزي في مشكاته وقال صحيح لشواهده، كما أخرجه أحمد وغيره في شأن المرأة وصبيها الممسوس من حديث ابن عباس بسند حسن، وأخرجه أبو داود أيضاً من حديث أم أبان، إذن فالحديث صحيح بمجموع طرقه وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، وقال: أخرجه الحاكم عن يعلى بن مرة عن أبيه قال: سافرت مع النبي صلى الله عليه وسلم فرأيت منه شيئاً عجباً… وفيه.. فأتته امرأة فقالت: إن ابني هذا به لمم منذ سبع سنين يأخذه كل يوم مرتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أدنيه، فأدنته منه فتفل في فيه وقال: اخرج عدو الله، أنا رسول الله، ثم قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رجعنا فأعلمينا ما صنع، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبلته ومعها كبشان وأقط وسمن… إلخ. وقولها (ابني به لمم) أي مس للشيطان
رابعها: جرت عادة بعض الرقاة أنهم يقومون بتشغيل شريط مسجل فيه تلاوة الرقية وما يليها من أدعية مأثورة؛ وقد أفتت اللجنة الدائمة بالسعودية بأن هذا لا يغني عن الرقية؛ لأن الرقية عمل يحتاج إلى اعتقاد ونية حال أدائها، ومباشرة للنفث على المريض؛ والجهاز لا يتأتى منه ذلك. والله أعلم
خامسها: حبذا لو أن بعض النساء الصالحات تعلمن الرقية الشرعية رجاء نفع أخواتهن، ومنعاً لمفاسد عظيمة تحدث من جراء خلوة بعض من لا خلاق لهم ممن يدعون أنهم رقاة بالنساء؛ وقد علموا يقيناً أنه لا يجوز للرجل أن يمس شيئاً من جسد المرأة عند الرقية، ولا يجوز للمرأة إبداء شيء من بشرتها كالصدر والعنق ونحوهما، بل الواجب عند الضرورة أن يقرأ عليها وهي بكامل حجابها.
سادسها: قد يعمد بعض الرقاة إلى طرق غير واردة في السنة؛ كأن يقرأ بعضهم على خزان كبير في المسجد مثلاً ليسترقي به الناس، وهو أمر لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم
والغالب أن قراءة الرقية بهذه الطريقة على الماء لا تنفع، والوارد عن السلف أنهم كانوا يقرؤون للناس فرادى، كما فعل الإمام أحمد رحمه الله مع ولده، وكما ذكر ابن مفلح في الآداب الشرعية قال: وقال يوسف بن موسى: إن أبا عبد الله ـ يعني الإمام أحمد بن حنبل ـ كان يؤتى بالكوز ونحن بالمسجد؛ فيقرأ عليه ويعوذ.ا.هـ ومثله القراءة عن طريق الهاتف أو مكبرات الصوت؛ حتى قال بعض أهل العلم: إن قصد هؤلاء كسب المال والاحتيال على تحصيله بهذه الظواهر وهو محرم عليهم.
ومن ذلك أن بعضهم قد يعمد إلى إحراق الورق الذي كتب فيه القرآن، ويأمر المريض بأن يستنشق دخانه في أوقات معينة، والمعروف عن السلف في الرقية بالقرآن أن يقرأ على المريض، كما عمل أبو سعيد الخدري على اللديغ، ونص أهل العلم على جواز قراءة القرآن على ماء ثم يشرب المريض من ذلك الماء نص عليه ابن القيم، كما نصوا على جواز كتابته على لوح أو ورقة وغسله وشربه. وأما إحراق القرآن، فإنه غير معروف عن السلف الرقية به، وإنما عرف عنهم إحراق أوراق القرآن أو ما فيه ذكر الله محافظة عليها من الامتهان. وأما إحراقها ليتبخر بها المريض، فهو مما ينبغي البعد عنه، لكونه لم يرد عن السلف حسب علمنا، والرقية بالقرآن من باب التعبد فلا تحدث فيها صفة لم تؤثر عن السلف، ولأن الإحراق والتبخر من عادات المشعوذين والسحرة والنصارى.
سادساً: ممارسات خاطئة عند الرقاة
أولها: عدم محاورة بعض الرقاة لمرضاهم وعدم استماعهم لشكواهم فترة كافية، بل يشرع مباشرة في الرقية والتشخيص والعلاج، والذي ربما يكون بالضرب أحياناً، وقد يكون الأمر مشكلة اجتماعية لا دخل للجن ولا للعين ولا للسحر بها
ثانيها: القراءة على مجموع من الناس في آن واحد ـ رغبة في توفير الزمن ـ فمن تأثر بالقراءة اعتبروه ممسوساً أو مسحوراً؛ فيشرع في علاجه ضرباً أو خنقاً. يقول د. طارق الحبيب: ومن المعلوم أن ذوي الشخصيات القابلة للإيحاء من النسا يتأثرون بهذه المواقف ولا يتمالكون أعصابهم؛ رغم أنهم لا يعانون من أية علة، فيظن الراقي أن بهم شيئاً من المس أو غيره فيشرع في علاجهم
ثالثها: ترديد بعضهم لمقولات ابن القيم وغيره من العلماء عن جهلة الأطباء حتى جعلوا الأطباء كلهم جهالاً وزنادقة وأنهم ضد الدين والقرآن؛ حتى إن بعض الأطباء لو انتقد ممارسات بعض الرقاة فإن بعض الناس يعتقد أن هذا الطبيب في نفسه شيء من الرفض للدين والقرآن
رابعها: جرأة بعضهم على تفسير الأمراض العضوية ومسبباتها دون أن يكون عندهم أي رصيد من العلم في ذلك؛ محاكاة منهم لأسلوب ابن القيم رحمه الله؛ مع الفارق بينهما حيث إن ابن القيم قد درس وتعلم بعض أصول الطب، أما هؤلاء فكلامهم خبط عشواء
خامسها: تعليل بعضهم لأسباب أغلب الأمراض بأنها من الجن أو السحر أو العين، مع تهوين شأن الأمراض الأخرى ـ نفسية أو عضوية ـ حتى إن بعضهم لا يرقي من يتناول أدوية نفسية وعقاقير طبية إلا بشرط أن يوقف المريض تناول تلك الأدوية بدعوى أنها تنشف الدماغ وتجمد الجن في العروق!!!
سادسها: وقوع بعضهم في بعض طرق السحر والشعوذة إما بنية خدمة الناس أو لشيء آخر في نفسه
سابعها: المبالغة في استخدام الفراسة وتعليل بعض الرقاة تصرفاتهم بالفراسة التي يرون أنهم يتميزون بها
ثامنها: إغراق بعضهم في تقرير خبرته الشخصية وجعلها دليلاً قاطعاً على صحة ما يقول، بل ربما يتهم من لا يتفق معه فيما يقول؛ فمثلاً يقول: العين حق، وهذا الشخص مصاب بالعين، والذي لا يؤمن بالعين في عقيدته نظر. ومعلوم أن المقدمة الأولى حق وكذلك الأخيرة، وإنما الخلاف في الوسطى
تاسعها: وقوع كثير من الرقاة في داء العجب ـ وذلك بعد علاجه لبعض الحالات ـ ويظهر ذلك من طريقة حديثه وأسلوب تعامله مع الناس، بل ربما يدعي ـ والعياذ بالله ـ العلم وهو ليس من أهله فيكون كلابس ثوبي زور
عاشرها: استخفاف بعضهم بعقول بعض الناس كقول أحدهم: إن الجني رفض أن يخرج إلا بكذا وكذا، وآخر يطلب من مراجعيه عمل رسم تخطيط الدماغ الكهربائي وإحضاره له لكي يشخص الحالة، وهو لا يعرف أبجديات علم الطب ولا درس منه شيئا
حادي عشرها: استغلال بعضهم لإيمان الناس بالغيبيات في تقرير غرائبهم وأساطيرهم
ثاني عشرها: توسع بعضهم في رقية النساء غير المحارم، بل ولمس شيء من أجسامهن أثناء الرقية، بل ربما تعدى الأمر إلى الخلوة بالمرأة الأجنبية
ثالث عشرها: التوسع جداً في أخذ المال على الرقية، وإرهاق طالبي العلاج بذلك؛ حيث يفرضون عليهم مبالغ طائلة؛ والتفريق بين الجلسة الخاصة والعامة، وبين الماء المركز والمخفف
رابع عشرها: جرأة بعض الجهال وضعاف العقول بل بعض المعتلين عقلياً على اتخاذ رقية الناس مهنة لهم؛ حتى إن بعضهم زعم أنه استخرج من مريض خمسمائة ألف جني، يقول د. طارق الحبيب: وإن كنت في الحقيقة أرغب في سؤاله: كيف استطاع أن يحصي عددهم؟ لكن عجبي زال حين سمعت بخبره بعد أسابيع أنه معتقل في السجن!! ولقد عجبت من الراقي الآخر الذي شخَّص أحد المرضى أمامي بأنه متلبس بجني متمركز في غدد البطن!! وراق ثالث كان يرقي مخموراً أمامه!