المُصلحون
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، أما بعد
فقد استفهمت الملائكة ربها عز وجل حين قال: (…إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً…)
فقالت الملائكة: (… أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ..)
الملائكة أعلمهم الله تعالي بطباع البشر والأشياء التي فطروا عليها، وأنها لا محالة ستقودهم الي إفساد الأرض وسفك الدماء إن لم تهذب هذه الفطر بالوحي، فمثلاً قال تعالي: (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ) ولا شك أن مساحة الطغيان الموجودة في جنس الإنسان إذا قامت أسبابها أصبحت خطرا يتجاوز به الإنسان كل حدود الإصلاح.
ولكن المولي تبارك وتعالي رد عليهم بقوله: (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)
ومعناها، أعلم أن راية الإفساد التي يرفعها بعض بني آدم ستقابلها رايات الإصلاح، فخرج من ذرية آدم عليه السلام حَمَلَةُ الإصلاح كالرسل و الأنبياء وهم أعظم من حمل راية الإصلاح في الأرض باعتبار أنها كانت مؤيدة بالوحي وبالعصمة.
فكلما طالت الفترة بعد بعث رسول من الرسل عليهم السلام – وطول الفترة كما معروف يورث النسيان لذلك موسى عليه السلام لما رجع بعد أربعين ليلة فقط من ميقات ربه وجد قومه عبدوا العجل فقال لهم: (أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ) يعني هذه مدة ليست بالطويلة للنسيان والانتكاسة – فالله تعالي يبعث بعد كل فترة رسولا يجدد أصل الإصلاح إذا نسيه الناس وهو ما أشار إليه ربنا في قوله تعالي: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) ويعطيه شريعة كما قال تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) ثم يبعث الله الأنبياء من بعد الرسل لتجديد شرائع الرسل؛ فالنبي لا يأتي بشريعة جديدة مثل الرسل عليهم صلوات ربي جميعا بل يكون مجددا لشريعة من قبله من الرسل.
ولما ختم الله النبوات بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم لا شك أن العهد سيطول بالأمة وأن النسيان سيقع فيها ولكن سنة الله التي قررها بوجود المصلحين باقية وهي قوله (إني أعلم ما لا تعلمون)، فقال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا)، وهذه إشارة الي أن دعوات الإصلاح وإعادة الأمة لأصل دينها وشريعتها الخاتمة بعد النسيان لن تتوقف؛ فمهما بلغت قوة الإفساد وحملة رايته في إغراق الأمة في الفساد وشغلها عن دينها واجتهادهم في نسيانه لا بد وأن تظهر راية من رايات الإصلاح لتوقظ النائمين من نومهم وتنبه الغافلين من غفلتهم.
وبعد انتقال النبي صلي عليه وسلم إلي الرفيق الأعلى بدأت رايات الإصلاح في الظهور كلما طال العهد على الأمة ونسيت دينها.
وتحفيزاً للناس جعل الله تعالي وجود المصلحين سبباً في حماية المجتمع بعكس الصالح؛ لأن صلاحه لا يتعدى نفسه لذلك قال تعالي: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)
وقال في الصالحين: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً) يعني العاصي بمعصيته والساكت الصالح بسكوته.
ورايات الإصلاح لن تسلم من التهم بالفساد؛ فلا بد من السعي من قبل المفسدين لإسقاط قادة الإصلاح وإظهار مناهجهم بأنها داعية للفساد.
فهذا الطاغية فرعون يتهم نبيا من أنبياء الله بأن رايته عنوان للفساد قال تعالي: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) وقال قومه: (وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ۚ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) وهذا وضع طبيعي من حملة الإفساد فهم يحاولون تشويه صورة دعاة الإصلاح بكل الوسائل والتنكيل بهم بشتي الطرق ليتراجعوا عن راية الإصلاح علماً بأن دعوات الإصلاح دائما منصورة من ربنا تبارك وتعالي؛ قال تعالي: (حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)
ولكن قد تظهر بعض الرايات الملتبسة التي تدخل فيها الأهواء ويلتبس فيها الحق بالباطل؛ وهي كما قال تعالي: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ*أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ).
وهم الذين عناهم النبي صلي عليه وسلم لما سأله حذيفة رضي عنهم بقوله: (قلتُ: فهل بعد ذلك الخير مِن شر؟ قال: (نعم؛ دُعَاة على أبواب جهنَّم، مَن أجابَهُم إليها قذَفُوه فيها)، قلتُ: يا رسول الله، صِفْهُم لنا؟ قال: (هُمْ مِن جِلدَتِنا، ويتكلَّمون بألسِنتِنا)، فالأمة المسلمة في تاريخها كانت أغلب رايات الإصلاح فيها بيضاء نقية، ولكن بدأت تظهر مدارس للإصلاح في الأمة رايتها ملتبسة.
فبعد ترجمة كتب الفلاسفة اليونانيين إلي العربية سنة ٢٨١ هجرية أيام الخليفة العباسي المأمون على يد أبي الهذيل العلاف وغيره؛ حيث كانت تلك لحظة فارقة في تاريخ الإسلام بدأ الدخن بالدخول في منهجية الاستدلال بنصوص الوحي المعصوم – القرآن والسنة – باعتبار أنه هو أصل الإصلاح وعموده، وبدأت تظهر مصادر أخري للتشريع تصادم تلك الأصول، فلو سألت الأمة اليوم بكاملها عن مرجعيتها تقول لك: الكتاب والسنة. إذن لماذا تختلف الأمة الآن وهي ترفع رايات الإصلاح؟ وبالنظر الثاقب يبدو لك بوضوح أن الإشكال أتي من ناحيتين:
الأول: منهجية الاستدلال بالوحي الكتاب والسنة
الثاني: احداث مصادر أخري غير الوحي معارضة له.
وفي التأريخ الحديث ظهرت العديد من رايات الإصلاح؛ فالله تعالى يعطي بعض خلقه قدرات عقلية ويفتح عليهم بما يؤهلهم أن يكونوا حاملين لراية الإصلاح؛ حيث يري إهمالاً من الناس لشيء من الشرع في الحياة كلها أو في جزء من أجزائها فيتقدم للقيام بهذه المهمة السامية التي هي مقام الأنبياء من قبل.
ولكن تبقي هذه الرايات من الجهد البشري الذي يجتهد فيه صاحبه في وضع أصوله الفكرية ومصادره ليحقق بها أمرين:
الأول: إعادة الأمة إلي دينها بإحياء ما اندثر منه في حياتها.
الثاني: مصارعة رايات الإفساد التي تحاول إبعاد الناس عن دينهم واجتهادها في نسيانهم له، وهذه الرايات مهما حاولت إظهار قدراتها على التغيير فهي بالجهد اليسير من المصلحين ستضمحل وتتلاشى لأن الله تعالي قال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) وأن راية المصلحين محمية كما قال تعالي: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين).
وهذا الجهد إذا صاحبته – كما ذكرنا – أخطاء فهي أخطاء في إنزال الشرع علي الواقع، فاللوم يوجَّه للمصلح باعتبار أنه بشر بذل جهده واستفرغ وسعه، ولا ينسب للشرع المعصوم.
وعلى حامل الراية الاجتهاد في سد الثغرات التي قد تكون سبباً في تحويل رايته من الإصلاح إلى الإفساد من حيث لا يدري، وحتى لا يفتح الباب للصراع بينه وبين الرايات الإصلاحية الأخرى.
ومن الجدير بالذكر إنك لن تجد راية للإصلاح مبرأة من كل عيب وذلك لأنهم ليسوا بأنبياء معصومين فيبقى النظر في أربعة أمور:
الأول: أصول فكرة الإصلاح التي يرفعها المصلح.
الثاني: مصادر تلك الفكرة
الثالث: منهجية الرجوع الي هذه المصادر.
الرابع: الوسائل المستخدمة في الإصلاح، مع العلم أن موضوع الوسائل واسع جدا؛ باعتبار أن الأصل فيها الإباحة، ومعناه ألا تعارض دليلاً شرعيا؛ فالغاية في الإسلام لا تبرر الوسيلة.
كما لا يجوز لأحد أن يتتبع زلات وهفوات أحد المصلحين وهو يصارع رايات الإفساد بدافع التعصب الأعمى والكسب الدنيوي ويبقى التناصح هو العنوان لسد الثغرات
وفي الختام رغم أن الصراع بين الرايتين – راية الإصلاح وراية الإفساد- موجود وقائم الي قيام الساعة وأن رايات الإفساد قد تكون أشد قوة وأكثر عددا وتمتلك وسائل أكثر فاعلية لكنها في الأخير لا تصمد أبدا أمام رايات الحق فالحق أبلج والباطل لجلج
والله الموفق