البصمة الوراثية
أولًا: التعريف بالبصمة الوراثية
لقد دلَّت الاكتشافات الطبية أنه يوجد في داخل النواة التي تستقر في خلية الإنسان (ستة وأربعون) من الصبغيات (الكروموسومات)، وكل واحد من الكروموسومات يحتوي على عدد كبير من الجينات الوراثية قد تبلغ في الخلية البشرية الواحدة إلى مئة ألف مورثة جينية تقريباً، وهذه المورثة هي التي تتحكم في صفات الإنسان، والطريقة التي يعمل بها، بالإضافة إلى وظائف أخرى تنظيمية للجينات.
وقد أثبتت التجارب الطبية الحديثة بواسطة وسائل تقنية في غاية التطور والدقة: أنَّ لكل إنسان جينوماً بشريّاً يختص به دون سواه، لا يمكن أن يتشابه فيه مع غيره أشبه ما يكون ببصمة الأصابع في خصائصها بحيث لا يمكن تطابق الصفات الجينية بين شخص وآخر حتى وإن كانا توأمين.
ولهذا جرى إطلاق عبارة (بصمة وراثية) للدلالة على تثبيت هوية الشخص أخذاً من عينة الحمض النووي المعروف بـ (دنا- DNA) الذي يحمله الإنسان بالوراثة عن أبيه وأمه إذ أنَّ الكروموسومات، الـ (ستة وأربعين) التي يحملها كل شخص داخل كل خلية من خلايا جسمه، يرث نصفها وهي (ثلاثة وعشرين) كروموسوماً عن أبيه بواسطة الحيوان المنوي، والنصف الآخر وهي (ثلاثة وعشرين) كروموسوماً يرثها عن أمه بواسطة البويضة، وكل واحدة من هذه الكروموسومات والتي هي عبارة عن جينات الأحماض النووية (دنا) ذات شقين، يرث الشخص شقاً منها عن أبيه والشق الآخر عن أمه، فينتج عن ذلك كروموسومات خاصة به، لا تتطابق مع كروموسومات أبيه من كل وجه، ولا مع كروموسومات أمه من كل وجه، وإنما جاءت خليطًا منهما، وبهذا الاختلاط اكتسب صفة الاستقلالية عن كروموسومات أي من والديه مع بقاء التشابه معهما في بعض الوجوه، لكنه مع ذلك لا يتطابق مع أي من كروموسومات والديه فضلاً عن غيرهما.
وعلماء الطب الحديث يرون أنهم يستطيعون إثبات الأبوة أو البنوة لشخص ما أو نفيه عنه من خلال إجراء فحوصات على جيناته الوراثية؛ حيث دلَّت الأبحاث الطبية التجريبية على أن نسبة النجاح في إثبات النسب قد تصل إلى قريب من القطع وذلك بنسبة (99 %) تقريباً، وفي حالة نفي النسب تصل إلى حدِّ القطع، أي: بنسبة (100 %).
وطريقة معرفة ذلك: أن يؤخذ عينة من أجزاء الإنسان بمقدار رأس الدبوس من البول، أو الدم، أو الشعر، أو المني، أو العظم، أو اللعاب، أو خلايا الكلية، أو غير ذلك من أجزاء جسم الإنسان، وبعد أخذ هذه العينة يتم تحليلها وفحص ما تحتوي عليه من كروموسومات -صبغيات- تحمل الصفات الوراثية، فبعد معرفة هذه الصفات الوراثية الخاصة بالابن وبوالديه يمكن بعد ذلك أن يثبت أنَّ بعض هذه الصفات الوراثية في الابن موروثة له عن أبيه، لاتفاقهما في بعض هذه الجينات الوراثية فيحكم عندئذ بأبوته له، أو يقطع بنفي أبوته عنه لعدم تشابههما في شيء من هذه الجينات الوراثية، فيحكم عندئذ بنفي أبوته له وكذلك الحال بالنسبة للأم.
ويرى المختصون في المجال الطبي وخبراء البصمات أنه يمكن استخدام البصمات الوراثية في مجالات كثيرة، ترجع في مجملها إلى مجالين رئيسين هما:
1 – المجال الجنائي: وهو مجال واسع يدخل ضمنه الكشف عن هوية المجرمين في حالة ارتكاب جناية قتل أو اعتداء، وفي حالات الاختطاف بأنواعها، وفي حالة انتحال شخصيات آخرين وغير ذلك.
2 – مجال النسب: وذلك في حالة الحاجة إلى إثبات البنوة أو الأبوة لشخص، أو نفيه عنه، وفي حالة اتهام المرأة بالحمل من وطء شبهة أو زنا.
ثانياً: مدى مشروعية العمل بالبصمة الوراثية
الذي نراه في هذه النازلة ما قرره مجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة وهذا نص القرار:
أولاً: لا مانع شرعاً من الاعتماد على البصمة الوراثية في التحقيق الجنائي، واعتبارها وسيلة إثبات في الجرائم التي ليس فيها حد شرعي ولا قصاص؛ لخبر: “ادْرَؤوا الحُدُودَ بالشُّبُهاتِ”. وذلك يحقق العدالة والأمن للمجتمع، ويؤدي إلى نيل المجرم عقابه وتبرئة المتهم، وهذا مقصد مهم من مقاصد الشريعة.
ثانياً: إن استعمال البصمة الوراثية في مجال النسب لا بد أن يحاط بمنتهى الحذر والحيطة والسرية، ولذلك لا بد أن تُقدَّم النصوص والقواعد الشرعية على البصمة الوراثية.
ثالثاً: لا يجوز شرعاً الاعتماد على البصمة الوراثية في نفي النسب، ولا يجوز تقديمها على اللعان.
رابعاً: لا يجوز استخدام البصمة الوراثية بقصد التأكد من صحة الأنساب الثابتة شرعاً، ويجب على الجهات المختصة منعه وفرض العقوبات الزاجرة؛ لأن في ذلك المنع حماية لأعراض الناس وصوناً لأنسابهم.
خامساً: يجوز الاعتماد على البصمة الوراثية في مجال إثبات النسب في الحالات التالية:
أ- حالات التنازع على مجهول النسب بمختلف صور التنازع التي ذكرها الفقهاء، سواء أكان التنازع على مجهول النسب بسبب انتفاء الأدلة أو تساويها، أم كان بسبب الاشتراك في وطء الشبهة ونحوه.
ب- حالات الاشتباه في المواليد في المستشفيات، ومراكز رعاية الأطفال ونحوها، وكذا الاشتباه في أطفال الأنابيب.
ج- حالات ضياع الأطفال واختلاطهم، بسبب الحوادث أو الكوارث أو الحروب، وتعذر معرفة أهلهم، أو وجود جثث لم يمكن التعرف على هويتها، أو بقصد التحقق من هويات أسرى الحروب والمفقودين.
سادسًا: لا يجوز بيع الجينوم البشري لجنس، أو لشعب، أو لفرد، لأي غرض، كما لا تجوز هبتها لأي جهة؛ لما يترتب على بيعها أو هبتها من مفاسد.
سابعاً: يوصي المجمع بما يلي:
أ- أن تمنع الدولة إجراء الفحص الخاص بالبصمة الوراثية إلا بطلب من القضاء، وأن يكون في مختبرات للجهات المختصة، وأن تمنع القطاع الخاص الهادف للربح من مزاولة هذا الفحص؛ لما يترتب على ذلك من المخاطر الكبرى.
ب- تكوين لجنة خاصة بالبصمة الوراثية في كل دولة، يشترك فيها المتخصصون الشرعيون، والأطباء، والإداريون، وتكون مهمتها الإشراف على نتائج البصمة الوراثية، واعتماد نتائجها.
ج- أن توضع آلية دقيقة لمنع الانتحال والغش، ومنع التلوث وكل ما يتعلق بالجهد البشري في حقل مختبرات البصمة الوراثية؛ حتى تكون النتائج مطابقة للواقع، وأن يتم التأكد من دقة المختبرات، وأن يكون عدد المورثات (الجينات المستعملة للفحص) بالقدر الذي يراه المختصون ضرورياً دفعاً للشك. والله ولي التوفيق، وصلى الله على نبينا محمَّد.
ثالثاً: حكم لحوق النسب بواسطة البصمة الوراثية
لقد شهد القرن العشرون تطورا هائلاً في شتى مجالات العلوم وكان من ثمرة ذلك من الناحية الطبية اكتشاف البصمة الوراثية (DNA) وتعرف أيضاً بالحمض النووي وهي المادة الوراثية الموجودة في خلايا جميع الكائنات الحية والتي يمكن عن طريق تحليلها معرفة الكائن وتحديده بدقة.
وقد قال كثير من الفقهاء المعاصرين بالأخذ بالحمض النووي كقرينة قوية مقدَّمة على القيافة في ثبوت النسب؛ لأنه يمكن عن طريقه معرفة الأم والأب والأخت والأخ بصورة قاطعة تصل إلى حد 99.9 %، ويمكن معرفة انتفاء النسب عن طريقه بنسبة 100 %، ففي حالة تنازع اثنين في ولد يمكن إثباته أو نفيه بذلك مع الأخذ في الاعتبار الضمانات الشرعية الكفيلة بمنع التلاعب.
2 – التحاليل المخبرية للبصمة الوراثية (DNA) بالحمض النووي:
يقوم خبراء المختبرات بتحليل الدم والبول وغير ذلك ممّا يمكن تحليله لتحديد البصمة الوراثية لما هو موجود على مسرح الجريمة ومقارنة ذلك بما لدى المتهم ويكون قرينة قوية عند توافق النتيجة، فيمكن تحليل الدم الموجود على الآلة المستعملة في تنفيذ الجريمة، أو الموجود على الثياب، أو غير ذلك مما يكون قريبًا من مكان الحادثة في سبيل الكشف عن المجرم، وقد تكون نتائج التحاليل مفيدة إلا أن القطع بدقتها وصحتها موضع نظر؛ لأن تشابه فصائل الدم بين شخص وآخر أمر وارد مع إمكانية خطأ التحليل وتزويره فعلى القاضي سؤال أهل الخبرة الثقات حتى يستفيد من هذه القرينة في التوصل إلى الحق.
ثانيًا: البصمة الوراثية (DNA) ومجالات الاستفادة منها
البصمة الوراثية هي البنية الجينية نسبة إلى الجينات (المورثات) التي تدل على هوية كل إنسان بعينه.
وقد أفادت البحوث والدراسات العلمية أنها وسيلة تمتاز بالدقة لتسهيل مهمة الطب الشرعي، ويمكن أخذها من أي خلية بشرية من الدم أو اللعاب أو المني أو البول أو غيره.
الحكم الشرعي للاعتماد على البصمة الوراثية:
البصمة الوراثية أكثر دقة من القيافة التي يبنى عليها شرعًا في إثبات النسب؛ ولذلك فإنه يمكن الاستفادة منها في غير إثبات الحدود الشرعية والقصاص، لحديث: “ادرؤوا الحدود بالشبهات”
المسألة الثانية التي معنا: هي مسألة البصمة الوراثية، أو ما يسمى الحمض النووي، البصمة الوراثية أو الحمض النووي، وهذه البصمة نريد أولا أن نعطي تعريفا بها، هذه البصمة الوراثية هي: البنية الجينية، نسبة إلى الجينات، أي المورثات التي تدل على هوية كل إنسان بعينه، هذه البصمة والتي يرمز لها بـ DNA هي المادة المورثة الموجودة في خلايا جميع الكائنات الحية، والجينات أو المورثات الحية: هي الأحماض الأمينية الموجودة لدى كل إنسان، وذلك أن الاكتشافات الطبية قد دلت على أنه يوجد في داخل النواة التي تستقر في خلية الإنسان يوجد فيها ستة وأربعون من الصبغات التي يطلق عليها الكروموسومات، وهذه الكروموسومات تتكون من المادة الوراثية الحمض النووي، وكل واحد من هذه الكروموسومات يحتوي على عدد كبير من الجينات الوراثية، وقد تبلغ في الخلية البشرية الواحدة مائة ألف مورث جيني في الخلية الواحدة فقط.
وهذه المورثات الجينية هي التي تتحكم في صفات الإنسان، والطريقة التي يعمل بها، وأثبتت التجارب الطبية أن كل إنسان يمتلك جينوما بشريا يختص به دونما سواه، لا يمكن أن يتشابه فيه مع غيره، كبصمات الأصابع بحيث لا يمكن تطابق الصفات الجينية بين شخص وآخر، ولهذا جرى إطلاق عبارة بصمة وراثية؛ للدلالة على تثبيت هوية الشخص أخذا من عينة الحمض النووي، الذي يحمله الإنسان عن أبيه وأمه، فإن كل شخص يحمل في خليته الجينية ستة وأربعين من صبغات الكروموسومات، يرث نصفها وهو ثلاثة وعشرون كرموسوما عن أبيه بواسطة الحيوان المنوي، وثلاثا وعشرين أخرى يرثها عن أمه بواسطة البويضة، فينتج عن ذلك كروموسومات خاصة به، لا تتطابق مع كروموسومات أبيه وأمه من كل وجه، وإنما خليطا منهما.
وقد أمكن في الوقت الحاضر، يعني يمكن للأطباء إثبات الأبوة أو البنوة لشخص ما، أو نفيه من خلال إجراء الفحص على جيناته الوراثية، وأثبتت التجارب أنها تصل في حالة النفي إلى حد قريب من القطع، مائة بالمائة، أما في حال الإثبات فتصل إلى ذلك، لكن بنسبة أقل، هذه نبذة مختصرة عن البصمة الوراثية أو الحمض النووي، هذه المسألة بحثت في مجمع الفقه الإسلامي أيضا لرابطة العالم الإسلامي، وصدر فيها قرار، وجاء في القرار: بأن البحوث والدراسات قد أفادت بأن البصمة الوراثية من الناحية العلمية وسيلة تمتاز بالدقة لتسهيل مهمة الطب الشرعي، ويمكن أخذها من أية خلية بشرية، من الدم أو من اللعاب، أو من المني، أو البول أو غيره.
وأيضاً جاء في قرار المجمع: أن نتائج البصمة الوراثية تكاد تكون قطعية في إثبات نسبة الأولاد إلى الوالدين، أو في نفيهم عنهما، وكذلك في إسناد العينة من الدم، أو المني، أو اللعاب التي توجد في مسرح الحادث إلى صاحبها، فهي أقوى بكثيرٍ من القيافة العادية، والخطأ في البصمة الوراثية ليس واردا من حيث هي، وإنما الخطأ في الجهد البشري، أو في عوامل التلوث ونحو ذلك.
إذا هذا توصيف للبصمة الوراثية، وأنها في نتائجها تصل إلى درجة قريب من القطع، وأن الخطأ فيها وارد، والخطأ الوارد ليس بسبب البصمة في حد ذاتها، وإنما بسبب التعامل معها: الجهد البشري، ويترتب على ذلك الأحكام الشرعية، وهي مهمة عندنا في هذه، يعني في بحث هذه المسألة، جاء في قرار المجمع أولاً: “لا مانع شرعا من الاعتماد على البصمة الوراثية في التحقيق الجنائي، واعتبارها وسيلة في إثبات الجرائم التي ليس فيها حد ولا قصاص؛ لخبر: “ادرؤوا الحدود بالشبهات” وذلك يحقق العدالة والأمن في المجتمع، ويؤدي إلى نيل المجرم عقابه، وتبرئة المتهم، وهذا مقصد مهم من مقاصد الشريعة”. فيمكن إذا أن يعتمد على، أو تعتبر البصمة الوراثية وسيلة من وسائل الإثبات في الجرائم التي ليس فيها حد ولا قصاص، وتعتبر بهذا من البينة، والبينة كما قال ابن القيم رحمه الله: اسم لما يبين الحق ويظهره، ولا تختص البينة بشهادة الشهود، بل تكون البينة بشهادة الشهود، وتكون بغير الشهادة من القرائن، وقرر ذلك ابن القيم رحمه الله، وذكر أن بعض القرائن أقوى من شهادة الشهود، خاصة إذا اجتمع أكثر من قرينة، فالبينة إذا: اسم لما يبين الحق، فإذا أتت عدة قرائن وبينت الحق تعين الأخذ بها، ولا يقال: إن البينة منحصرة في شهادة الشهود، فالشريعة لا تبطل حقا، ولا تكذب دليلا، ولا تبطل أمارة صحيحة، وقد أمر الله تعالى في خبر الفاسق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} ولم يقل: فردوه، أمر الله تعالى في خبر الفاسق بالتبين والتثبت، ولم يأمر برده؛ فإن الفاسق قد يقوم على خبره شواهد من الصدق، شواهد تدل على صدقه، وحينئذ يجب قبوله والعمل به.
فإذا يمكن أن يستفاد من البصمة الوراثية في إثبات الجرائم، في اعتبارها وسيلة لإثبات الجرائم التي ليس فيها حد شرعي ولا قصاص، وإنما استثنيت الحدود الشرعية؛ لأنها تدرأ بالشبهات، فلا تعتبر البصمة الوراثية وسيلة لإثباتها مع هذا، ولكن في غير ذلك يمكن أن تعتبر وسيلة من وسائل إثبات الجريمة.
ثانيا: أن استعمال البصمة الوراثية في مجال النسم لا بد أن يحاط بمنتهى الحذر، والحيطة والسرية، فهذا قاعدة عامة في هذا، ولذلك لا بد أن تقدم النصوص والقواعد الشرعية على البصمة الوراثية، ويتفرع عن هذا الاعتماد على البصمة الوراثية في إثبات النسب أو في نفي النسب، أما في نفي النسب فجاء في قرار المجمع: لا يجوز شرعا الاعتماد على البصمة الوراثية في نفي النسب، ولا يجوز تقديمها على اللعان.
فلو أن شخصاً شك في نسب ابنه إليه فذهب وحلل الحمض النووي أو البصمة الوراثية، فوجد أنه لا ينسب إليه، فإنه لا يعتمد على هذا شرعا في نفي النسب، وإنما إذا أراد أن ينفي هذا الولد عنه فالطريق الشرعي لذلك ما هو؟ اللعان، الطريق الشرعي أن يلاعن زوجته، على الصفة التي ذكرها الله تعالى في أول سورة النور، فإذا لاعن زوجته فإنه لا ينسب إليه، وإنما ينسب إلى أمه، فلا يعتمد إذا على البصمة الوراثية في نفي النسب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم “الولد للفراش” فما دامت أمه فراشا لهذا الرجل فهو ينسب إليه شاء أم أبى، وليس هناك إلا طريق واحد لنفيه وهو اللعان.
وأما في إثبات النسب ففي ذلك تفصيل: لا يجوز استخدام البصمة الوراثية بقصد التأكد من صحة الأنساب الثابتة شرعا، ويجب على الجهات المختصة منعه، وفرض العقوبات الزاجرة؛ لأن في ذلك المنع حماية لأعراض الناس وصونا لأنسابهم، إذا استخدام البصمة الوراثية بقصد التأكد من النسب، هذا لا يجوز؛ هذا يفتح أبوابا من الشر على المجتمع، يفتح أبوابا من الشر، وبعض الناس عنده وسوسة، وربما تكون نفسيته غير سوية، وإذا كان هذا يحصل من بعض الناس في مسائل الطهارة، وربما أيضا في مسائل، يعني يسيرة، فكيف بإثبات النسب! لو فتح هذا الباب فإنه سيندفع أناس عندهم وسوسة، وربما يكون عندهم شيء من الاضطراب في النفسية إلى التأكد من نسب أولادهم، وتفتح أمور من الشر على الناس؛ ولهذا فإنه ينبغي سد هذا الباب، فيقال: لا يجوز استخدام البصمة الوراثية بقصد التأكد من صحة الأنساب الثابتة، ولكن يجوز الاعتماد على البصمة الوراثية في مجال إثبات النسب في حالات:
الحالة الأولى: حالات التنازع على مجهول النسب، بمختلف صور التنازع التي ذكرها الفقهاء، سواء كان التنازع على مجهول النسب بسبب انتفاء الأدلة، أو بسبب تساويها، أو بسبب الاشتراك في وطء الشبهة، ونجد أن الفقهاء يذكرون هذا في باب اللقيط فيقولون: إذا ادعى إنسان نسب آخر فإنه يلحق به؛ لأن الشريعة تتشوف لحفظ الأنساب، لكن إذا ادعاه أكثر من واحد، أتى اثنان وادعيا نسب هذا الطفل فإلى أيهما ننسب؟ قال الفقهاء: فإنه يؤتى بالقائف، ومن ألحقه به لحقه، فإن ألحقته القافة بواحد منهما لحقه، ولكن فرض الفقهاء في هذا مسألة، ومسألة قد وقعت، وقعت في زمن الصحابة، وهي: إذا ألحقت القافة هذا الطفل باثنين فأكثر: اثنان ادعيا نسب هذا الطفل، أتينا بالقافة قالوا: نرى أنه يشبه هذا ويشبه هذا، فألحقت القافة هذا الطفل باثنين، فما الحكم في هذه المسألة؟ اختلف فيها العلماء على قولين: القول الأول وهو قول الجمهور، وهو: أنه يلحق بهما جميعا، فيقال: فلان بن فلان آل فلان، وابن فلان آل فلان، هكذا قال الفقهاء، وهو رأي الجمهور: الحنفية، والمالكية، والحنابلة.
وقد ورد في ذلك أثر رواه سعيد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في امرأة وطئها رجلان في طهر، فقال القائف: قد اشتركا فيه جميعا فجعله عمر بينهما، وهذه القصة قال عنها ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد قال: إن إسنادها في غاية الصحة، وروي نحوها عن علي رضي الله عنه وقال ابن القيم: لا يعرف في الصحابة من خالف عمر وعليا، بل حكم بهذا عمر في المدينة بحضرة المهاجرين والأنصار، ولم ينكره منكر، فيلحق إذا بهما جميعا، ولأنه كما يقال من النظر، كما ينعقد الولد من ماء الرجل والمرأة، فلا مانع عقلا من أن ينعقد الولد من ماء رجلين.
والقول الثاني: في المسألة وهو مذهب الشافعية، قالوا: إنه لا يمكن أن يلحق ولد بأبوين، لا يمكن، ولا يمكن أن يكون للإنسان أكثر من أب واحد؛ لأن الله تعالى أجرى العادة بأن يكون للإنسان أب واحد كما أن له أما واحدة، ولهذا فإنه لا يمكن أن يوجد للإنسان أكثر من أب واحد، هذا الخلاف قائم وموجود بين الفقهاء، في الوقت الحاضر قد لا نحتاج لمثل هذا الخلاف، وإنما نستطيع أن نرجح: هل هذا الولد ابن لهذا الذي قد ادعى أو للآخر عن طريق البصمة الوراثية أو الحمض النووي، يمكن أن نرجح هذا.
والأطباء في الوقت الحاضر يقولون: لا يمكن أن ينعقد الولد من ماء أبوين، وحينئذ يمكن أن يستفاد من البصمة الوراثية أو الحمض النووي في الترجيح في هذه الحال، تكون البصمة الوراثية مرجحة عند هذا الخلاف، وهذا هو الذي قد عني في قرار المجمع في حالات التنازع على مجهول النسب، بمختلف صور التنازع التي ذكرها الفقهاء.
أيضاً الحالة الثانية: حالات الاشتباه في المواليد في المستشفيات، ومراكز رعاية الأطفال ونحوها، وكذا الاشتباه في أطفال الأنابيب، يحصل أحيانا في بعض المستشفيات اشتباه في المواليد، وكذلك أيضا في مراكز رعاية الأطفال أطفال الأنابيب، فعند هذا الاشتباه يمكن أن يستفاد من البصمة الوراثية في إثبات النسب.
أيضاً ثالثاً: يمكن أن يستفاد من البصمة الوراثية في إثبات النسب في حال ضياع الأطفال، واختلاطهم بسبب الحوادث، أو الكوارث، أو الحروب، وتعذر معرفة أهلهم، أو وجود جثث لم يمكن التعرف على هويتها، أو بقصد التحقق من هويات أسرى الحروب والمفقودين، وهنا يعني جاء في قرار المجمع: ” يوصي المجمع أن تمنع الدولة إجراء الفحص الخاص بالبصمة الوراثية إلا بطلب من القضاء، وأن يكون في مختبرات للجهات المختصة، وأن يمنع القطاع الخاص من مزاولة هذا الفحص؛ لما يترتب عليه من المخاطر الكبرى “، وهذا هو الذي عليه العمل في المملكة.
وصدر في هذا قرار من مجلس الوزراء: بأن يكون التحليل عن طريق البصمة الوراثية بأمر قضائي، وذلك كما ذكرنا لما يحف ذلك من المخاطر العظيمة؛ لأنه لو فتح هذا المجال، وهذا الباب للناس لاندفع أناس إلى التأكد من إثبات نسب أولادهم إليهم، فتنفتح أبواب من الشر على الناس؛ ولهذا فهذه التوصية التي أوصى بها المجمع عمل عليها العمل هنا في المملكة، فيكون التحليل عن طريق البصمة الوراثية في حدود ضيقة، ويكون ذلك أيضا بأمر قضائي، يكون ذلك بطلب من القاضي، ويمنع من مزاولة البصمة الوراثية القطاع الخاص، ويكون ذلك خاصا بالقطاع الحكومي في حالات ضيقة في حدود الضرورة؛ لأن فتح هذا الباب فيه خطورة كبيرة، وفيه فتح لأبواب من الشر، هذا هو حاصل كلام أهل العلم في هذه المسألة وهذه النازلة، ونكتفي بهذا القدر، ونجيب عما تيسر من الأسئلة.
مسألة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فاستفساراتك – أيها السائل – في هذا السؤال تتمثل في ما لو ثبت لدى الزوج أن زوجته على علاقة برجل آخر, وغلب على ظنه أن بعض ولده ليس منه, بل من غيره, فكيف مع هذا نلزمه بقبول هذا الولد ولديه وسيلة للتثبت بإجراء تحليل الحمض النووي، فنقول لك إن الشرع قد جعل المخرج لمثل هذا الرجل قبل اكتشاف تحليل الحمض النووي بمئات السنين وذلك باللعان, فإذا تحقق من زنا المرأة أو غلب على ظنه فجورها وزناها بقرائن قوية، وأن الولد المنسوب إليه ليس منه، فله أن يلاعنها, قال ابن العربي: وظاهر القرآن يكفي لإيجاب اللعان بمجرد القذف من غير رؤية، فلتعولوا عليه، لا سيما وفي الحديث الصحيح: أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فاذهب فأت بها) ولم يكلفه ذكر الرؤية. انتهى.
ولا شك أن هذه الطريقة – اللعان – أفضل وأحكم وأستر من إجراء التحاليل لأن فائدة اللعان: أن يفترق الزوجان، وينسب الولد إلى أمه، وقد سترت المرأة، فلم يعرف إن كانت هي الكاذبة أو هو الكاذب، ولم يعرف إن كان الولد ابنه حقيقة أو لم يكن ابنه. وفي هذا من المصلحة ما فيه.
وقد ذهب جمع من العلماء المعاصرين إلى أن الزوج إذا طلب الاحتكام إلى البصمة الوراثية لم يستجب له، لأنه يفوت على المرأة ما يوفره لها اللعان من الستر عليها وعلى ولدها، وهذا الستر مقصود للشارع لما فيه من مصلحتها ومصلحة ولدها.
ومن العلماء المعاصرين من أجاز إجراء هذا التحليل قبل اللعان؛ لاحتمال أن تخرج النتائج مؤكدة أن هذا الولد من الزوج وليس من شخص آخر، لأن الملاعنة توجب الفرقة ونفي الولد.
وقد قرر مجلس المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي عدم جواز الاعتماد على البصمة الوراثية في نفي النسب، فلا يجوز تقديمها على اللعان. كما لا يجوز استخدام البصمة الوراثية بقصد التأكد من صحة الأنساب الثابتة شرعًا، ويجب على الجهات المختصة منعه وفرض العقوبات الزاجرة، لأن في ذلك المنع حماية لأعراض الناس وصونًا لأنسابهم.
وقد اختلف العلماء فيما إذا طلبت المرأة المقذوفة: الاحتكام إلى البصمة الوراثية، هل تجاب إلى طلبها أو لا؟
ف أكثر العلماء قالوا: لا يجاب طلبها، ويكتفى باللعان؛ لأنه هو الذي شرعه الله لعلاج مثل هذه الحالة، فيوقف عنده، ويقتصر عليه، ولا نتعداه.
وذهب فريق آخر إلى أنه يستجاب للمرأة في هذا الطلب، على أساس أنها لا تفعل ذلك إلا إذا كانت مستيقنة من براءتها، وتطلب اللجوء إلى وسيلة علمية مقطوع بها، تدفع التهمة بها عنها، وتحفظ بها حقها، ولا تعتدي على حق إنسان آخر، فهي تطلب بالاحتكام إلى البصمة إثبات أمور ثلاثة في غاية الأهمية شرعا:
أولهما: براءة نفسها من التهمة المنسوبة إليها، وهي جازمة بأنها تعلم أنها بريئة.
وثانيهما: إثبات نسب ولدها من أبيه، وهذا حق للولد، والشارع يتشوف إلى إثبات الأنساب ما أمكن.
الثالث: إراحة نفس الزوج، وإزاحة الشك من قلبه، بعد أن يثبت له بالدليل العلمي القطعي: أن الولد الذي اتهمها بنفيه منه هو ابنه حقا. وبذلك يحل اليقين في نفسه محل الشك، والطمأنينة مكان الريبة.
وبهذا يستفيد الأطراف الثلاثة بهذا الإجراء: الزوجة والزوج والولد.
وأمر كهذا يحقق هذه المصالح كلها، وليس فيه ضرر لأحد، ولا مصادمة لنص: لا ترفضه الشريعة، بل هو يتفق مع مقاصدها.