الركائز الفكرية والتربوية لجماعات العنف
الركائز الفكرية والتربوية لجماعات العنف
لا تزال ظاهرة العنف المتسربل بعباءة الإسلام تمثل واحدة من أكبر التحديات أمام قدرة العالم العربي والإسلامي علي تأسيس مشروع نهضوي يجمع بين الإسلام كمرجعية عقائدية وفكرية وحضارية وبين تعقيدات وتركيبات الدولة القومية الحديثة بمؤسساتها المختلفة.
وقد ظن البعض أن ثورات الربيع قد تحد من الظاهرة ومن قدرة جماعات العنف علي جذب الشباب المسلم مما يمكن أن يؤدي إلي انحسار الظاهرة، غير أن ما اعتري ثورات الربيع العربي من انكسارات من جهة وتجذر الظاهرة في العقل الإسلامي من جهة اخري أدي إلي عكس ما ظن هذا البعض فإذا بجماعات العنف تزداد علي المستوي الأفقي من حيث القدرة علي جذب المزيد من الشباب الذي تجاوز العالم العربي والإسلامي إلي مسلمي أوروبا وأمريكا؛ وعلي المستوي الرأسي من حيث مزيد من التطرف علي المستوي الفكري والولوغ في ممارسة العنف علي المستوي العملي والذي جسده بوضوح تنظيم “داعش” بقيادة أبي بكر البغدادي المتخصص في “أصول الفقه”، الأمر الذي يجب معه الوقوف مع الظاهرة ليس كظاهرة طارئة علي المجتمعات الإسلامية ولا كمجرد رد فعل لاستبداد أنظمة حاكمة سدَت شرايين العمل السياسي بل والفكري وإن كان ذلك صحيحا؛ ولكن كظاهرة لها جذورها الفكرية والتربوية وإن كانت كأي ظاهرة إنسانية أو اجتماعية تتصف بالتعقيد والتركيب الذي لا يمكن معه ردها إلي سبب واحد أو سببين.
ولأن للظاهرة جذورها الفكرية بل ولأن هذه الجذور الفكرية أحد أهم أسباب الظاهرة لزم التعرض لها ومناقشتها ليس فحسب رغبة في فهم الظاهرة وتحليلها وإن كان ذلك بالطبع سبباً وجيهاً ولكن ولأن مجرد الدراسة والتحليل أصبح في واقعنا الأليم يعده البعض –للأسف –ضرباً من الترف الفكري، وإنما لأن الظاهرة تنال بوضوح من الطاقات الفاعلة في العالم الإسلامي سيما طاقات الشباب ليس فقط بإهدارها وإنما بتوجيهها نحو السبيل الذي يدمر ولا يبني ويعطل ولا يسيّر ويزيد الأمة تخلفاً علي تخلفها وبدلاً من أن يكون الإسلام كما كان منذ بزوغ وحيه قوة روحية وعقلية هادرة تحيل العرب إلي هذه الأمة الواعية المنطلقة كالسهم في مسيرة التاريخ، و في كتاب الحضارة تسطر أعظم الصفحات وتشيد واحدة من أرقي الحضارات بدلاً من ذلك يتحول الإسلام – للأسف- في عقول وقلوب بعض المنتسبين إليه إلي ألة هدم وإلي عدو للإنسانية وللحضارة البشرية.
لهذا لزم الوقوف والدراسة والتحليل وسنكتفي هنا لاعتبارات المساحة علي التركيز علي الجذور الفكرية لظاهرة العنف لدي جماعات الإسلام السياسي أملين أن نوفق في إلقاء الضوء عليها وسبر أغوارها من جهة وراجين أن تتاح الفرصة لدراستها من كافة جوانبها من جهة أخري.
والله سبحانه ولي التوفيق والسداد
السابع من جمادي الأخرة 1437 هجرية
السادس عشر من مارس 2016 ميلادية
ولتحليل ظاهرة العنف عند الجماعات الاسلامية يلزمنا ان نتعرض:
أولا: لتوصيف الظاهرة بشكل صحيح.
ثانياً: لاستعراض الجذور الفكرية للظاهرة والتي تري هذه الجماعات أنها تمثل مرجعيتها في التغيير بالقوة.
ثالثاً: لواقع التربية داخل الجماعات الاسلامية و تأثير ذلك علي لجوء هذه الجماعات للعنف.
أولاً: توصيف الظاهرة
استخدمت مصطلحات كثيرة للتعبير عن الظاهرة –وإحدي اهم مشكلات الحوار في مجتمعاتنا فوضي المصطلحات- فاستخدم اصطلاح: الارهاب والتطرف والعنف والخروج علي الشرعية, وبالنسبة للجماعات الاسلامية استخدم: الجهاد والخروج علي الحاكم الظالم وتغيير المنكر إلي غير ذلك من مصطلحات لم تتضح مدلولات أكثرها كما ينبغي, وكي ننطلق من تصور صحيح فإننا نحاول وصف الظاهرة بشكل تحليلي, فنحن أمام:
1-شباب ينطلق من فهم معين للإسلام و قد جمعه هذا الفهم في جماعات بعينها.
2-هذه الجماعات تري أن الواقع الذي تعيشه المجتمعات في البلاد الاسلامية واقع بعيد عن الإسلام كما تتصوره.
3- هذه الجماعات تري أن تغيير هذا الواقع الفاسد من أهم وظائف المسلم-إن لم يكن أهمها- في هذه الحياة وأن السكوت علي هذا الفساد دون محاولة لتغييره يعتبر خيانة لله ورسوله ومشاركة لأهل المنكر بعدم الإنكار عليهم.
4- هذه الجماعات تري أن تغيير هذا الواقع لن يكون بمجرد الدعوة باللسان أو الكتابة وإنما لا بد من اعتماد القوة والسلاح كأداة من أهم أدوات التغيير لأنه ما دام أهل الفساد لديهم أدواتهم فيتحتم أن يواجهوا بمثل هذه الأدوات, “والسيف أصدق أنباء من الكتب”.
5- هذه الجماعات تري أن تغيير الأنظمة خطوة رئيسية في سبيل الوصول للمجتمع والدولة الإسلامية ثم الخلافة الإسلامية وأنه بغير هذه الخطوة لن يتحقق للإسلام تمكين, وتغيير الأنظمة لن يتحقق بغير إقصائها بالقوة والإحلال محلها.
وفي ضوء هذه النقاط يمكننا أن نقف علي العناصر المكونة للظاهرة المسماة بالعنف عند الجماعات الإسلامية. هذا العنف الذي هو ليس مجرد رد فعل كما يحلو للبعض أن يصفه ولكنه مؤسس علي ركائز فكرية يتحتم مناقشتها وتحليلها للوقوف علي جذور هذه الظاهرة ومن ثم معالجة الأسباب بدلاً من التوجه مباشرة للنتائج.
ثانيا: الجذور الفكرية للعنف عند الحركة الإسلامية
نستطيع أن نحصر الجذور الفكرية لظاهرة العنف عند الجماعات الإسلامية في أصول ثلاثة:
1- فكرة الجهاد كفريضة من فرائض الإسلام.
2- فكرة تغيير المنكر باليد.
3- فكرة الخروج علي الحاكم لفسقه وعدم إقامته أحكام الإسلام.
ولنحاول أن نتعرض لكل من هذه الأفكار علي حدة…
- الجهاد:
الجهاد فريضة من فرائض الاسلام لا يجادل في ذلك من له أدني معرفة بأحكام الاسلام “كتب عليكم القتال وهو كره لكم” البقرة…و هو فريضة ماضية إلي يوم القيامة لا ناسخ لها مصداقاً لحديث النبي- صلي الله عليه وسلم- “الجهاد ماض إلي يوم القيامة”, وقد ذهب جمهور فقهاء المسلمين إلي أنه فرض كفاية علي الأمة إلا في أحوال بعينها يتحول إلي فرض عين, وذلك في ثلاثة مواضع:
أحدها: إذا التقي الزحفان وتقابل الصفان حرم علي من حضر الانصراف وتعين عليه المقام لقول الله تعالي:”يا ايها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا” وقوله: “واصبروا إن الله مع الصابرين” وقوله تعالي: “يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً لفئة فقد باء بغضب من الله”.
الثاني: إذا نزل الكفار ببلد تعين علي أهله قتالهم ودفعهم.
الثالث: إذا استنفر الإمام قوماً لزمهم النفير معه لقول الله تعالي: “يا ايها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلي الأرض” الآية والتي بعدها, وقال النبي صلي الله عليه وسلم: “إذا استنفرتم فانفروا”{انظر:ابن قدامة:المغني,ج8 ص 346,347: القاهرة مكتبة الجمهورية العربية}
وأحكام الجهاد مبسوطة في كتب الفقه بإسهاب شديد بل ان أول ما ابدعه المسلمون في العلاقات الدولية السفر الضخم الرائع لمحمد بن الحسن وشارحه السرخسي وهو كتاب “السير الكبير”، ولكن هل ممارسة العنف في العمل الإسلامي لتغيير أوضاع فاسدة أو إزالة انظمة بالقوة تدخل في مسمي الجهاد؟ أم أن في الأمر تفصيلاً !!!!؟
- ينبغي توضيح نقطة مهمة وهي ان مفهوم الجهاد في الاسلام أوسع من حمل السلاح في ميدان القتال, وإن كان حمل السلاح بلا شك من أشرف أنواع الجهاد إلا أن الأمر أوسع كثيراً من مجرد القتال في ساحة معركة, وربما يكون من الأدق أن يطلق علي هذا النوع من الجهاد:القتال “كتب عليكم القتال” البقرة. أما الجهاد فهو أوسع مفهوماً ومضموناً, ولعل ذلك الحديث الرائع يبين هذا المعني بوضوح, فقد روي أبو سعيد عن النبي صلي الله عليه وسلم: “أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر”(1). إن هذا الحديث لا يُدخل في مسمي الجهاد: الجهاد بالكلمة فحسب, وإنما يجعله في ذروة أنواع الجهاد, بل هو أفضل الجهاد علي الإطلاق وإن كان لا يتضمن جهاداً بالسيف ولكنه جهاد باللسان, بل إن الذي يمارس هذا النوع من الجهاد فيقتل في سبيله يقف من الشهداء في المقدمة و السيادة ف”سيد الشهداء حمزة, ورجل قام إلي سلطان جائر فأمره ونهاه فقتله” (2) هذان الحديثان يوسعان مفهوم الجهاد فإذا جهاد الكلمة والحجة والبيان لا يقل –إن لم يزد- عن جهاد السيف والسنان. وما لنا نذهب بعيداً وهذا كتاب الله ينطق بالحق فيفرض علي المسلمين الجهاد في مرحلة لم يكن فيها للسيف محل في جهادهم وهي المرحلة المكية حيث لم يؤذن لهم بمجرد رد العدوان أو الدفاع عن أنفسهم ومع ذلك يقول الله تعالي: “وجاهدهم به جهادا كبيرا” الفرقان:52, والآية من سورة الفرقان وهي مكية والمعني جاهدهم بالقرآن وماذا يكون الجهاد بالقرآن؟ إنه جهاد البيان والحجة والمناقشة والبرهان والدعوة, كل هذا يدخل في مسمي الجهاد في مفهوم القرآن والسنة فإذا ما انتهينا من هذه النقطة وهي أن مفهوم الجهاد أوسع من مجرد حمل السلاح في ميدان القتال انتقلنا إلي نقطة أخري وهي.
- أن هناك فارقاً بين القتال في ظل نظام يدافع عن الاسلام ويذود عن بَنيه, وبين الخروج على النظام وإن كان في إسلامه دخن. لقد قال علماؤنا بالجهاد مع الحاكم الفاسق لأن الجهاد حينئذ ليس لتثبيت أركان حكمه بقدر ما هو للدفاع عن عقيدة الامة وأرضها, وإن كان هناك ظالم يقف علي رأس القيادة في هذه الأمة. وإذا استعرضنا تاريخ كثير من الخلفاء الأمويين أو العباسيين ستجد أن الفسق كان سمة كثير منهم ولكن لم يقل فقهاؤنا الذين عاصروهم بأنه لا يجاهد معهم وتحت قيادتهم للدفاع عن حياض الاسلام أو لفتح مزيد من البلدان.
هناك فارق بين الجهاد في ظل دولة للدفاع عنها أو لنشر الرسالة التي تحملها وبين الخروج علي الخاكم الفاسق في هذه الدولة,,, في الحالة الأولي نحن أمام صورة واضحة للجهاد في الإسلام تحت راية دولة وإمام., في الحالة الثانية يحتاج الأمر إلي لكثير من التفصيل ووزن الأمور فنحن لسنا أمام كفر واضح متميز بأهله وذويه يواجهه إيمان واضح, وإنما الامر أعقد من ذلك كثيرا. نحن أمام مجتمع يكوٍن الإسلام ثوابته ومسلماته وقيمه في الاغلب الأعم, وأهله وذووه يعتزون بالإسلام عقيدة وهوية ومنهاجا , ومن يحكم لا يجرؤ بحال علي ان يعلن رفضه الإسلام في أي من عقيدته أو قيمه أو تشريعاته. وإزاء كل هذا هل يكون الخروج بالسلاح علي النظام الحاكم لهذا المجتمع والذي يمثل الإسلام أهم روافده هل يعتبر أمراً واضحاً جلياً كما يكون القتال في ظل دولة تتصدي لأعداء الإسلام وتذود عن أرضه وحياضه؟ لا شك ان الصورتين مختلفتان وأن الجهاد تحت راية نظام واضح ودولة مستقرة ليس كحمل السلاح للقضاء علي النظام الحاكم والذي بالطبع لن يستسلم هكذا وإنما سيواجه بكل عنف وبكل ما يترتب علي ذلك من إسالة دماء مسلمة أو مسالمة في كل الأحوال.
وهل هذا يعني أن يستسلم العاملون للإسلام لكل ما يصيبهم ويحل بهم من عسف الظالمين من حكامهم؟وأن يتذرعوا فحسب بالصبر دون أن يتحلوا بالقوة اللازمة للردع؟ وإذا سلمنا بهذا هل يظل العاملون لأجل التمكين للإسلام ينتظرون حتي تتغير الأمور وتتبدل الأنظمة دون أن تكون لهم مشاركتهم الفعالة في إقصاء الأنظمة الغاشمة؟ وهل يظل الجهاد ركناً معطلاً وفريضة غائبة لأن الأنظمة الحاكمة لم تعد تخوض معركة لأجل استرداد ما ضاع وتحرير ما اغتصب؟
لا شك عندي أن الإجابة علي هذه الأسئلة بالنفي ولكن من قال إن السعي الدائب لدعوة الناس لصحيح الإسلام وتصحيح ما شاب فهمه من أغاليط وتغيير أنماط سلوكياتهم المتعارضة مع أخلاق الإسلام وتغيير القيم المتعارضة مع قيم الإسلام, من قال إن ذلك العمل المضني لا يدخل في مسمي الجهاد ولا يكون طريقاً واضحاً نحو تغيير الأنظمة التي ترفض أن يكون الإسلام مرجعية الأمة.
ثم هل الوقوف أمام هذه الأنظمة لممارسة أعظم أنواع الجهاد بكلمة الحق تقال وتكتب وتذاع بين الناس وإن أدي الأمر إلي التنكيل والقتل, لا يعد عملاً علي تغيير هذه الأنظمة الفاسدة وتجييش الجماهير ضدها فإما أن تستجيب لمطلبهم وهو “احترام الإسلام كمرجعية للأمة” وإما سيزداد الضغط الجماهيري عليها حتي تنتهي.
وإذا فشل دعاة “الحل الإسلامي” في أن تصل فكرتهم للناس وفي أن يغيروا من مفاهيم المجتمع وقيمه وأعرافه حتي يصلوا به لأن يكون مؤهلاً للقيام بالإسلام والتضحية في سبيله والضغط علي النظام الحاكم لينصاع لإرادة المجتمع الذي لا يقبل غير الإسلام عقيدة ومنهاجاً وتشريعاً,إذا فشل “الإسلاميون” في ذلك فلا أعتقد ان لجوءهم للعنف يمكن أن يمكن لهم في المجتمع, لأن المجتمع نفسه غير مؤهل لا لاستقبالهم ولا لأن يكون تربة لأنموذج مجتمع مسلم.
ولأنهم عندما يفشلون فيما أسلفناه سيعني هذا أنهم ليسوا أهلاً للقيام بالإسلام لأن الإسلام فكرة أقنعت العقول ثم عقيدة تغلغلت في القلوب ثم تغيير لأنماط السلوك ثم مجتمع ودولة, هكذا كان في بدايته وهكذا ينبغي أن يكون دائماً الطريق الصحيح لإقامته.
- فكرة تغيير المنكر:
من أكثر الأفكار إثارة للجدل في أفهام العاملين للاسلام وأدبياتهم فكرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , وإنما كانت مثيرة للجدل ومظنة سوء الفهم والوقوع في الخطأ لأنها:
من ناحية أصل عظيم من أصول الاسلام وقطب من أعظم أقطابه بل –وعلي حد تعبير أبي حامد الغزالي-: “القطب الأعظم في الدين وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين, ولو طوي بساطه وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة واضمحلت الديانة وعمت الفترة وفشت الضلالة وشاعت الجهالة واستشري الفساد واتسع الخرق وخربت البلاد وهلك العباد”(3). وهذا الذي قاله الغزالي ولم يجاوز فيه الحقيقة يصور خطورة هذا الأمر ومكانته من الدين, والآيات والأحاديث في ذلك كثر ليس المقام مقام استعراضها وحسبنا أن تقف مع هذين النصين: الأول قول الله تعالي: “ولتكن منكم أمة يدعون إلي الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون”(4), والثاني: قول النبي-صلي الله عليه وسلم-: “لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم ثم يدعوه خياركم فلا يستجاب لهم”(5). هذا من ناحية أهمية الفريضة, ولكن من ناحية أخري فإن ممارسة النهي عن المنكر دون معرفة فقهه وآدابه قد يجر علي الفرد بل علي الأمة أعظم الكوارث وأشد المصائب, وقد يتسبب في فتن عارمة لا يعلم مداها إلا الله, وعلي حد تعبير ابن القيم:” من تأمل ما جري علي الاسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر علي منكر, فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه فقد كان رسول الله –صلي الله عليه وسلم- يري بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها بل لما فتح الله عليه مكة وصارت دار إسلام عزم علي تغيير البيت ورده علي قواعد إبراهيم ومنعه من ذلك –مع قدرته عليه- خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر, ولهذا لم يأذن في الإنكار علي الأمراء باليد لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه كما وجد سواء”(6)
فالنهي عن المنكر فريضة لا ينبغي أن يجهلها مسلم ولكن ممارسته دون فقه ووعي وإدراك لما يمكن أن يؤدي إليه يتعارض تماماً وحكمة هذه الفريضة والمقصود منها وهو إزالة المنكر كلية أو التخفيف منه, وإشعار كل مسلم أنه منوط به القيام بهذا الدين وأنه لا يحل له أن يدير ظهره لمشكلات مجتمعه وأمته وإلا فقد أخل بأصل من أصول إسلامه. وللنهي عن المنكر أركان أربعة: الفعل ذاته-أي فعل النهي- وهو ما يسميه الغزالي “نفس الاحتساب”, والمنكر الذي ينهي عنه, والقائم بالفعل أي الذي يقوم بالنهي أو “المحتسب”, والذي يفعل المنكر أو “المحتسب عليه” أو بتعبير أخر: 1- المحتسب فيه, 2- والمحتسب عليه, 3- والمحتسب, 4- ونفس الاحتساب. فهذه أركان أربعة سنقف معها تفصيلاً لما يترتب علي سوء فهمها من أخطاء عظيمة يرتكبها العاملون في الحركة الإسلامية –أو في بعض فصائلها التي تمارس العنف, وسنبدأ بالفعل الذي يوجب التغيير أو المنكر الموجب للحسبة
أما الركن الأول: وهو المنكر الواجب تغييره فيقال فيه:
- المنكر: وأصل المنكر ما أنكره الله ورآه اهل الإيمان قبيحا. وشرعاً: اختلف العلماء في حده ولعل تعريف أبي حامد الغزالي من أفضل التعريفات وأيسرها وهو أنه “كل محظور الوقوع في الشرع”(7) والمنكر أعم من المعصية لأن “من رأي صبياً أو مجنوناً يشرب الخمر فعليه أن يريق خمره ويمنعه وكذا إن رأي مجنوناً يزني بمجنونة أو بهيمة فعليه أن يمنعه منه وليس ذلك لتفاحش صورة الفعل وظهوره بين الناس بل لو صادف هذا المنكر في خلوة لوجب المنع منه وهذا لا يسمي معصية في حق المجنون إذ معصية لا عاصي بها محال”(7) فالتلازم بين المنكر والمعصية غير حتمي “فقد يرتكب الشخص منكراً ولا يعد مع ذلك عاصيا, وقد يأتي المعصية دون أن يقع منه منكر, وعلة ذلك أن المنكر سلوك يخالف الأمر أو النهي, أما المعصية فاعتقاد وقت السلوك بأنه يخالف الأمر أو النهي سواء كان ذلك في واقع الحال أم لم يكن, فليس من لوازم المنكر-إذاً- أن يكون فاعله عالماً بوجه المخالفة؛ وليس من لوازم المعصية أن يكون السلوك فيها منطوياً علي مخالفة.(8)
- ليس كل منكر يوجب الحسبة بل المنكر الموجب للحسبة له شروط إذا لم يستكملها لم يجب الإنكار فيه؛ وهذه الشروط ثلاثة:
- أن يكون حالاً أي موجوداً في الحال.
- أن يكون ظاهراً بغير تجسس.
- أن يكون معلوماً كونه منكراً من غير اجتهاد.
فأما الشرط الأول: وهو حلول المنكر أي كونه موجوداً في الحال فلاستبعاد الإنكار في حالين هما:
- الأولي: أن يكون فاعل المنكر قد فرغ منه فلا ينكر عليه وإن خشي العود لأن النهي إنما هو “لرفع المنكر أي لمنع استمراره لا للوقاية من تكراره فالوقاية من التكرار سبيلها العقاب وليس الاحتساب ولا يعني ذلك حظر وعظ الفاعل”(9)
- الثانية: أن يكون المنكر متوقعاً وهنا لا يجوز الاحتساب وإن وجدت قرائن تدل علي العزم علي فعل المنكر فهنا-أيضاً- لا يجوز إلا الوعظ “وإن أنكر عزمه عليه لم يجز وعظه أيضاً فإن فيه إساءة ظن بالمسلم”(10)
وأما الشرط الثاني: وهو أن يكون المنكر ظاهراً غير مستتر ولا يحتاج إلي تجسس لاكتشافه؛ وليس المراد بالظهور ذيوعه وانتشاره وافتضاح أمره للكافة بل “المراد تمكن الغير من شهوده ولو كان الغير واحدا” (11) “ومناط الظهور هو إدراك الغير للمنكر إدراكاً مباشراً ولا يتخصص هذا الإدراك بطريق معينة بل كل ما يؤدي إليه معتبر وتتسع طرائق الإدراك للحواس الخمس”(11). أما إذا فعل المنكر فاعله مستتراً غالقاً عليه داره فلا يجوز انتهاك حرمة الحياة الخاصة للكشف عن المنكر ذلك أن انتهاك حرمة الحياة الخاصة أشد ضرراً وأعظم مفسدة من اكتشاف المنكر والنهي عنه؛ ولذا “فكل من ستر معصية في داره وأغلق بابه لا يجوز أن يتجسس عليه وقد نهي الله تعالي عنه”(12) فإن قلت فما حد الظهو والاستتار: فاعلم أن من أغلق باب داره وتستر بحيطانه فلا يجوز الدخول عليه بغير إذنه لتعرف المعصية إلا أن يظهر الدار ظهوراً يعرفه من هو خارج الدار”(12)
أما الشرط الثالث من شروط المنكر الموجب للحسبة والنهي فهو أن يكون هذا المنكر معلوماً كونه منكراً بغير اجتهاد أي” فكل ما هو في محل الاجتهاد فلا حسبة فيه؛ فليس للحنفي أن ينكر علي الشافعي أكله الضب والضبع ومتروك التسمية؛ ولا للشافعي أن ينكر علي الحنفي شربه النبيذ الذي ليس بمسكر وتناوله ميراث ذوي الأرحام وجلوسه في دار أخذها بشفعة الجوار إلي غير ذلك من مجاري الاجتهاد”(13)
الركن الثاني من أركان النهي عن المنكر أو الاحتساب: هو عملية التغيير ذاتها أو نفس الاحتساب- علي حد تعبير الغزالي- و هو أيضاً له شروطه و أدابه ودرجاته وليس كل منكر حال وظاهر ومعلوم كونه منكراً بغير اجتهاد يجب تغييره في الحال لأن عملية التغيير لها فقهها وقد يوجد المنكر بالشروط السابق بيانها ومع ذلك لا يجب تغييره بل وربما يحرم تغييره في بعض الأحوال.
وأهم شروط الانكار: ألا يترتب علي إنكار المنكر منكر أشد منه، ذلكم أن غاية عملية الإنكار إزالة المنكر بالكلية أو التخفيف منه فإن لم يتحقق هذا ولا ذاك خرج النهي عن المنكر عن الوجوب والندب بل وربما أصبح حراماً إذا ترتب علي الإنكار منكر أشد ويفصل ابن القيم ذلك فيقول “فإنكار المنكر أربع درجات: الأولي أن يزول ويخلفه ضده والثانية أن يقل وإن لم يزل بجملته والثالثة أن يخلفه ما هو مثله والرابعة أن يخلفه ما هو شر منه؛ فالدرجتان الأوليان مشروعتان والثالثة موضع اجتهاد والرابعة محرمة”(14)
ويضرب أمثلة للدرجة الرابعة هذه فيقول: “وهذا كالإنكار علي الملوك والولاة بالخروج عليهم فإنه أساس كل شر وفتنة إلي أخر الدهر وقد استأذن الصحابة رسول الله-صلي الله عليه وسلم- في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها وقالوا: أفلا نقاتلهم؟ فقال: لا؛ ما أقاموا الصلاة؛ وقال: من رأي من أميره ما يكرهه فليصبر ولا ينزعن يداً من طاعته.
ومن تأمل ما جري علي الاسلام في الفتن الكبار والصغار يراها من اضاعة هذا الأصل وعدم الصبر علي منكر فطلب ازالته فتولد منه ما هو أكبر منه؛ فقد كان رسول الله-صلي الله عليه وسلم- يري بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها؛بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم علي تغيير البيت ورده علي قواعد إبراهيم ومنعه من ذلك –مع قدرته عليه- خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالاسلام وكونهم حديثي عهد بكفر ولهذا لم يأذن في الانكار علي الامراء باليد لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه”(15)
ويضرب ابن القيم مثالا اخر علي عدم الانكار وان وجد المنكر بشروطه فيقول:”كما اذا كان الرجل مشتغلا بكتب المجون و نحوها وخفت من نقله عنها انتقاله الي كتب البدع والضلال والسحر فدعه وكتبه الاولي”.(15)
ومن أمثلة ذلك أيضا أن النبي –صلي الله عليه وسلم- نهي عن قطع الأيدي في الغزو مع انه حد من حدود الله تعالي ولكنه نهي عن اقامته في الغزو “خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض إلي الله –من تعطيله أو تأخيره- من لحوق صاحبه بالمشركين حمية وغضبا”(15)
وننتقل الأن للركن الثالث من أركان الحسبة أو “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” وهو
الركن الثالث: المُغير للمنكر او المحتسب وهذا أيضا له شروط وأداب؛ فأما الشروط فثلاثة: الإسلام والتكليف وأن يكون عالما بما يأمر به وما ينهي عنه وهناك شرط رابع اشترطه البعض وهو العدالة كما يشترط إذن الحاكم عند بعض الفقهاء في بعض مراتب التغيير.
فأما شرط الإسلام: فواضح بين إذ لا يطلب من غير المسلم أن ينفعل ويغضب لفعل يعده الاسلام منكرا كما ان النهي عن المنكر واجب شرعي إسلامي ككل الواجبات الشرعية تجب بالإسلام والبلوغ والعقل.
وأما شرط التكليف: فلا يخفي وجه اشتراطه لأن غير المكلف لا يلزمه أمر والمقصود هنا شرط الوجوب لا الجواز لأن شرط الجواز لا يستلزم البلوغ فلو أن الصبي قام بالنهي عن المنكر لأثيب علي ذلك واستحسن منه في الدنيا كما في سائر القربات.
أما شرط العدالة: فقد اشترطه البعض ولكن عند التحقيق نجد أنه لا صحة لاشتراطه لأن النهي عن المنكر واجب شرعي لا يشترط لمباشرته عدالة المسلم بل هو مطلوب من المؤمن التقي والفاسق علي السواء؛ نعم إن نهي الفاسق عن المنكر قد لا يؤثر في فاعل المنكر ولكن يظل النهي عن المنكر واجبا عليه وإن كان للمنكر فاعلا؛ ففعل المنكر معصية وترك النهي عنه معصية أخري ولا يلزم من الوقوع في إحداهما ارتكاب الأخري ولذا يقول سعيد بن جبير:”إن لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر إلا من لا يكون فيه شئ لم يأمر أحد بشئ فأعجب مالكا ذلك من سعيد بن جبير”(16)
أما شرط إذن الإمام فعلي إطلاقه غير صحيح لأن الأخبار والأيات التي تأمر بالقيام بهذا الواجب لم تقيد بإذن الإمام بل يفهم منها عكس ذلك؛ فقوله صلي الله عليه وسلم “من رأي منكم منكرا فليغيره” رواه مسلم , دليل علي ان كل من يري المنكر مطالب بتغييره سواء أذن له الإمام أو لم يأذن؛ بل إنه دليل علي عدم وجوب الاستئذان لأنه لا يعقل أن يطالب المسلم إذا رأي منكرا أن يسعي لاستئذان الإمام ثم يأتي لتغييره إذ الأمر منوط بلحظة رؤية المنكر والحديث يُحمَِل كل مسلم يري منكرا ان يسعي لتغييره في الحال حسب قدرته واستطاعته؛ ثم كيف يكون الأمر مرهونا بإذن الحاكم والحاكم نفسه قد يقع في منكر يجب نهيه عنه فهل يُستأذن حتي ينهي عن المنكر الواقع فيه؟!
لا شك أن شرط إذن الحاكم لا دليل عليه من كتاب ولا سنة بل الأدلة علي ضده وحسبنا هنا ما رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي من حديث أبي سعيد عن النبي صلي الله عليه وسلم قال:”أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر” فهذا دليل علي أن نهي الأمراء عن المنكر من أعظم أنواع الجهاد بل أعظمها ولم يكن كذلك إلا لما يترتب عليه –غالبا- من مصائب تصيب من يقوم به. علي ان عدم اشتراط إذن الإمام ليس في كل درجات التغيير ولكن في النهي باللسان واليد في حدود إزالة عين المنكر لا التعرض لفاعله بضرب قد يحتاج شهر السلاح وجمع الأعوان فذلك يحتاج إذن الحاكم علي ما بيناه لما يترتب عليه من خطر عظيم؛ ويشترط كذلك في الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ان يكون عالما بما ينهي عنه وكون ذلك منكرا متفقا بين العلماء علي حرمته والناس يختلفون في ذلك فهناك أمور لا يسع مسلما الجهل بها كوجوب الصلاة وحرمة الزنا وهناك من المحرمات ما يخفي علي غير العلماء فلا ينبغي أن ينهي عنه إلا من كان عالما به؛ وفي ذلك يقول النووي:”ثم إنه إنما يأمر وينهي من كان عالما بما يأمر به وينهي عنه وذلك يختلف باختلاف الشئ فإن كان من الواجبات الظاهرة والمحرمات المشهورة كالصلاة والصيام والزنا والخمر ونحوها فكل المسلمين علماء بها و إن كان من دقائق الأفعال والأقوال ومما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام مدخل فيه ولا لهم إنكاره بل ذلك للعلماء”[ شرح مسلم ج2 ص23]؛ ويقول الغزالي:”العامي ينبغي له ألا يحتسب إلا في الجليات المعلومة كشرب الخمر والزنا وترك الصلاة فأما ما يعلم كونه منكرا بالإضافة إلي ما يطيف به من أفعال ويفتقر فيه إلي اجتهاد فالعامي إن خاض فيه كان ما يفسده أكثر مما يصلحه”
هذه شروط الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ثم إن له آدابا ينبغي عليه مراعاتها والتزامها وإلا خرج عن النهج القرآني الحكيمِ الآمرِ الداعيةَ إلي الله أن يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة, وخرج كذلك عن النهج النبوي العظيم والذي رسم المنهاج واضحا لمن يتصدي للنهي عن المنكر وكيف ينبغي مراعاة أحوال الناس ومقاماتهم ولعل حديث الأعرابي الذي بال في المسجد خير مثال علي ما نقول, فقد روي ابن ماجة في كتاب الطهارة باب الأرض يصيبها البول كيف تغسل, عن أبي هريرة قال: دخل أعرابي المسجد ورسول الله صلي الله عليه وسلم جالس فقال: اللهم اغفرلي ولمحمد ولا تغفر لأحد معنا فضحك رسول الله صلي الله عليه وسلم وقال:”لقد احتظرت واسعاً (17) ثم ولي حتي إذا كان في ناحية المسجد فشج يبول فقال الأعرابي بعد أن فقه فقام إلي بأبي وأمي فلم يؤنب ولم يسب فقال:”إن هذا المسجد لا يبال فيه و إنما بني لذكر الله وللصلاة” ثم أمر بسَجْل من ماء فأفرغ علي بوله: وفي رواية أنس: فوثب إليه بعض القوم فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم:”لا تزرموه” ثم دعا بدلو من ماء فصب عليه.(18)
فانظر عظم رفق النبي الكريم صلي الله عليه وسلم في النهي عن المنكر الذي ارتكبه الأعرابي ومدي مراعاته حال الرجل. إن “ما اقترفه الأعرابي منكر لا شك فيه من وجوه كثيرة أعلاها حرمة مسجد النبي صلي الله عليه وسلم وحضرته ذلك الفعل وما اقترفه الأعرابي لا يحتاج العلم بأنه منكر إلي معرفة خاصة فالفطرة تأباه وبرغم من ذلك ما أنبه النبي صلي الله عليه وسلم وما سبه بل وما غضب بل كان الرفيق الرحيم” (19)
ومن اهم ما ينبغي مراعاته من أداب وزن الأمور وما يمكن أن يترتب علي نهيه فإذا كان نهيه سيؤدي لمصلحة راجحة فهو ما يريده الشرع, وإن علم أن نهيه سوف لا يؤدي لزوال المنكر و لا التقليل منه وسيترتب عليه أذي شديد يصيبه وقد يصيب ذويه فهو خارج عن حدود ما شرعه الله, بل يقول الغزالي:” إن علم أنه لو أنكر عليه لشرب القدح وضرب رقبته فهذا مما لا أري للحسبة فيه وجها وهو عين الهلاك فإن المطلوب أن يؤثر في الدين أثرا ويفديه بنفسه فأما تعريض النفس للهلاك من غير أثر فلا وجه له بل ينبغي أن يكون حراما وإنما يستحب له الإنكار إذا قدر علي إبطال المنكر أو ظهر لفعله فائدة وذلك بشرط أن يقتصر المكروه عليه فإن علم أنه يضرب معه غيره من أصحابه أو أقاربه أو رفقائه فلا تجوز له الحسبة بل تحرم لأنه عجز عن دفع المنكر إلا بأن يفضي ذلك إلي منكر أخر وليس ذلك من القدرة في شئ”(20)
ومن الأداب التي يجب مراعاتها من المحتسب مراعاة حال من يحتسب عليه من حيث علمه وجهله ودرجة فهمه وفقهه ومقامه وسنه وعلاقته به كأن يكون له أب أو ذو سلطان عليه؛ فاما مراعاة درجة علمه و فقهه فلعل حديث الأعرابي الذي بال في المسجد يدل عليه كما يجب أن يكون المحتسب حكيما حليما رفيقا ذا خبرة بنفسيات الناس وحاجاتهم يدل علي ذلك ما رواه أبو أمامة قال:إن فتي شابا أتي النبي صلي الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ائذن لي في الزنا فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا:مه, مه , فقال:”ادنه” فدنا منه قريب، قال: فجلس, قال:”أتحبه لأمك” قال:لا والله جعلني الله فداءك, قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم, قال أتحبه لابنتك؟ قال:لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم, قال: أتحبه لأختك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك, قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم, قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك, قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك, قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم, قال: فوضع يده عليه وقال:”اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه و حصن فرجه” فلم يكن بعد ذلك الفتي يلفت إلي شئ”(21)
فأي منكر أشد من الزنا وها هو الشاب يستأذن رسول الله صلي الله عليه وسلم ان يفعله؛ ولو كانت إجابة النبي صلي الله عليه وسلم تعنيفا و توبيخا لما عالج ذلك شهوة عارمة تستبد بذلك الشاب؛ لكن النبي –صلي الله عليه وسلم- العالم بنفوس الناس وكيف يعالجها عالج الأمر بحكمة بالغة معلما ذلك الشاب ان أعراض الناس كأعراضه وأن ما يزعجه من الاعتداء علي عرضه يزعج الناس كذلك وان تلك التي سيزني بها هي بالضرورة أم أو أخت أو ابنة أو عمة أو خالة و ما يسيئه يسيئ غيره؛ ثم ها هو –صلي الله عليه وسلم- يقربه منه و يدعو له بالصلاح و بأن يحصن الله فرجه. لقد أدرك- صلي الله عليه وسلم- بعظيم حكمته و إحاطته بالنفوس البشرية أن ذلك الشاب ليس بالمتجرئ علي المعاصي بلا حياء ولا وجل ولا تعظيم لله تعالي وليس بالمدافع عن الفاحشة دفاع من يتبناها وينشرها ولكنها شهوة عارمة غلبته في عنفوان شبابه فعجز عن كبح جماحها والتحكم فيها فعالجه النبي الكريم –صلي الله عليه وسلم- أنفع العلاج وأنجعه. وهكذا ينبغي ان يكون من يتصدي للنهي عن المنكر عالما بالنفس البشرية وحاجاتها ونزواتها عالما بمن ينهاه عن المنكر سالكا أفضل الطرق للوصول إلي مفتاح شخصيته لأنه ليس من يفعل الشر مجادلا عنه متبنيا نشره في المجتمع كمن تزل به قدمه أو تضعف في لحظة نفسه أو تتمكن منه شهوة من شهواته فيباشر المعصية غير محب لها ولا مجادل عنها ولكن لضعف اعتور نفسه البشرية. يدل علي ذلك أيضا ما رواه البخاري عن عمر بن الخطاب:أن رجلا في عهد رسول الله- صلي الله عليه وسلم- كان اسمه عبد الله وكان يلقب حمارا و كان يضحك رسول الله- صلي الله عليه وسلم- أحيانا وكان نبي الله- صلي الله عليه وسلم- قد جلده في الشراب فأتي به يوما فامر به فجلد فقال رجل من القوم: اللهم العنه ما أكثر ما يؤتي به؛ فقال رسول الله- صلي الله عليه وسلم-:لا تلعنوه فوالله ما علمت إنه يحب الله و رسوله”. فهذا شارب للخمر ويتكرر ذلك منه ولكنه مع ذلك يحب الله ورسوله كما أخبر النبي – صلي الله عليه وسلم-؛ لقد ضعف الرجل أمام إدمان استبد به ولكنه مع ذلك لم يفتر حب الله في قلبه ولذا ينهي النبي – صلي الله عليه وسلم- عن لعنه إذ الأولي بهذا ان يدعي له بالهداية وبأن ينصره الله علي نفسه وعلي ذلك الداء الوبيل الذي ضعفت نفسه أمامه؛ والأمثلة كثيرة علي ذلك الأدب المهم من أداب الاحتساب وهو ضرورة أن يكون المحتسب رفيقا عالما بحال المحتسب عليه و بأصلح الطرق للاحتساب عليه؛ وقد كان علماء الأمة يسيرون علي هذا النهج: قال محمد بن زكريا الغلابي: شهدت عبد الله بن محمد بن عائشة ليلة وقد خرج من المسجد بعد المغرب يريد منزله وإذا في طريقه غلام من قريش سكران وقد قبض علي امرأة فجذبها فاستغاثت فاجتمع الناس يضربونه فنظر إليه ابن عائشة فعرفه فقال للناس: تنحوا عن ابن أخي؛ ثم قال: إلي يا ابن أخي فاستحي الغلام فجاء إليه فضمه إلي نفسه ثم قال له: امض معي فمضي معه حتي صار إلي منزله فأدخله الدار وقال لبعض غلمانه: بيته عندك فإذا أفاق من سكره فأعلمه بما كان منه ولا تدعه ينصرف حتي تأتيني به فلما أفاق ذكرله ما جري فاستحيا منه وبكي وهم بالانصراف؛ فقال الغلام: قد أمر أن تأتيه فأدخله عليه فقال له: أما استحييت لنفسك؟أما استحييت لشرفك؟أما تري من ولدك؟ فاتق الله وانزع عما أنت فيه؛ فبكي الغلام منكسا رأسه ثم رفع رأسه وقال: عاهدت الله تعالي عهدا يسألني عنه يوم القيامة أني لا أعود لشرب النبيذ ولا لشئ مما كنت فيه وأنا تائب؛ فقال:ادن مني فقبل رأسه وقال: أحسنت يا بني؛ فكان الغلام بعد ذلك يلزمه ويكتب عنه الحديث وكان ذلك ببركة رفقه ثم قال: إن الناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويكون معروفهم منكرا فعليكم بالرفق في جميع أموركم تنالون به ما تطلبون” (22)
ومن أداب الاحتساب كذلك التي يجب مراعاتها أنه لا يجوز ممارسة النهي عن المنكر مع بعض الناس إلا في حدود التعريف والوعظ بالكلام اللطيف وذلك كنهي الولد والده عن المنكر فلا يجوز له أن يتعدي حدود التعريف والنصيحة بالرفق واللين؛واختلفوا: هل يجوز أن يمارس إزالة المنكر ذاته كإراقة الخمر مثلا؟ وقال الغزالي:”الأظهر في القياس أنه يثبت للولد ذلك”(23) لأن إزالة المنكر هنا ليس فيها تعرض لفاعله ولكن ليحذر أن يؤدي ذلك إلي منكر أشد فحينئذ لا تكون إزالته مطلوبة شرعا: وكذلك في نهي الحكام والسلاطين فقد قال فيه الغزالي:”وأما الرعية مع السلطان فالأمر فيه أشد من الولد-أي مع والده- فليس لها معه إلا التعريف والنصح فأما الرتبة الثالثة ففيها نظر من حيث إن الهجوم علي أخذ الأموال من خزانته وردها إلي الملاك وعلي تحليل الخيوط من ثيابه الحرير وكسر أنية الخمور في بيته يكاد يفضي إلي خرق هيبته وإسقاط حشمته وذلك محظور ورد النهي عنه”(24)
ولكن هناك نصوص تدل علي جهاد الأمراء باليد ومن ذلك ما رواه مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي-صلي الله عليه وسلم- قال:”ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنه تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل” قال ابن رجب الحنبلي: “وهذا يدل علي جهاد الأمراء باليد وقد استنكر الامام احمد هذا الحديث في رواية أبي داود وقال هو خلاف الأحاديث التي أمر رسول الله-صلي الله عليه وسلم- فيها بالصبر علي جور الأئمة وقد يجاب عن ذلك بأن التغيير باليد لا يستلزم القتال وقد نص علي ذلك أحمد أيضا في رواية صالح فقال: “التغيير باليد ليس بالسيف والسلاح فحينئذ جهاد الأمراء باليد أن يزيل بيده ما فعلوه من المنكرات مثل أن يريق خمورهم أو يكسر آلات الملاهي التي لهم ونحو ذلك أو يبطل بيده ما أمروا به من الظلم إن كان له قدرة علي ذلك وكل ذلك جائز؛ وليس هو من باب قتالهم ولا من الخروج عليهم الذي ورد النهي عنه؛فإن هذا أكثر ما يخشي منه أن يقتل الآمر وحده؛ وأما الخروج عليهم بالسيف فيخشي منه الفتن التي تؤدي إلي سفك دماء المسلمين” (25)
وقد قسم باحث معاصر (26) علاقة من يقوم بتغيير المنكر بمن يقع منه المنكر إلي خمسة أحوال الرابع والخامس منها تدور حول الوالد والسلطان؛ وهذه الأحوال هي:
- أن يكون للمغير ولاية خاصة علي ذي المنكر كولاية الوالد علي ولده والزوج علي زوجته وهذه لا إشكال في أن الراعي او المسئول يجب عليه تغيير المنكر بكل الوسائل المناسبة حسب الحالة.
- أن يكون للمغير ولاية عامة علي ذي المنكر كولاية السلطان علي الرعية وأمته وهذه كسابقتها وربما أشد لأن السلطان بحكم مكانه واختصاصاته مسئول عن إزالة المنكرات و إقامة الشرع بكل السبل الشرعية.
- ألا يكون لأي من المغير وذي المنكر ولاية عامة أو خاصة كما بين أفراد الرعية وجعل هذه ذات شقين هما:
- أن يكون ولي الأمر الأعلي يقيم شرع الله وينكر المنكر ويغيره حين يعلم به.
- ألا يكون كذلك.
ورأي أنه في الحالة الأولي ليس للعامة أن تغير باليد بل عليهم إبلاغ ولي الأمر وقد سبق لنا مناقشة هذه المسألة في درجات تغيير المنكر فليرجع إليها؛ وفي الحالة الثانية وهي عدم إقامة الولي لشرع الله يري أنه علي العامة مناصرة العلماء للقيام في وجه السلطان لإجباره علي التصدي للمنكر.
- أن يكون لذي المنكر ولاية خاصة علي من يقوم بالتغيير كأن يكون والدا أو زوجا فإن كان كذلك فتغيير المنكر باليد حينئذ يرجع إلي نوع المنكر ودرجته فثم منكر يغير باليد دون أن يلحق صاحب المنكر إيذاء في نفسه فللولد والزوجة في مثل هذا تغيير المنكر باليد إذا لم يترتب علي ذلك ما هو أشد ضررا؛ وللولد ان يمنع أباه والزوجة زوجها من الإقدام علي ما يتعلق به حق الأخرين كمثل قتل أو سرقة أو إحراق مال….فذلك مما لا يحتمل تأخيرا في تغييره بالصبر عنه؛ فإن كان كفرا بواحا فليرفعه إلي السلطان المقيم شرع الله تعالي ليغيره بما يستحق.
- أن يكون ذو المنكر ذا ولاية عامة علي من يقوم بتغيير منكره كأن يكون ذو المنكر هو السلطان وولي الأمرالأعلي؛ وهذا إن كان منكره خاصا لا يتعلق بحق الرعية فعلي من يراه أن يغيره ما لم يترتب عليه منكر أشد وإن كان منكره مما يجهر به فعلي علماء الأمة تعريفه وتعليمه وعلي العامة مناصرة العلماء ما دام المنكر ليس كفرا بواحا.”(27)
وبعد…فهذه بعض أداب من يقوم بواجب التغيير؛ وننتقل الأن إلي الركن الرابع من أركان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
الركن الرابع: وهو الفاعل للمنكر أو المحتسب عليه ولا يشترط فيه سوي أن يكون إنسانا فلا يشترط أن يكون مسلما ولا عاقلا ولا مميزا ولا عالما بكون الفعل منكرا؛ فيحتسب علي الصبي والمجنون فلو شرب الصبي الخمر يحتسب عليه وكذا لو زني مجنون بمجنونة أو بهيمة لوجب الاحتساب عليه.
وبذلك نكون قد استعرضنا فكرة النهي عن المنكر كأحد الجذور الفكرية للظاهرة لننتقل إلي الأصل الثالث وهو فكرة الخروج علي الحاكم.
(3) فكرة الخروج علي الحاكم: من أكثر الأفكار إثارة للجدل في تاريخ الفكر الإسلامي بمختلف تياراته وفرقه مسألة الخروج علي الحاكم؛ ذلكم ان شرخا من أعظم الشروخ في تاريخ المسلمين كان لهذا السبب و إن كانت الفئة الخارجة متأولة نعني خروج معاوية ومن معه علي الخليفة الشرعي علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ ومهما قلنا في إنجازات بني امية فقد كان علي خليفة مختارا من الأمة بطريق شرعي صحيح؛ وكان حكم بني أمية بداية القضاء علي الطريق الشوري في تنصيب الإمام وجعله ملكا وراثيا أتي بالصالح كما أتي بالطالح وتولي في ظله عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين كما تولي أغيلمة من قريش بنص الحديث الشريف؛ وقبل ذلك كله عطل مبدأ من أهم مبادئ الحكم في الإسلام وهو حق الأمة في اختيار من يحكمها.
وظلت مسألة الخروج علي الحاكم مثيرة للجدل علي امتداد تاريخ الأمة الإسلامية علي المستوي التنظيري والتطبيقي علي السواء وظهر أكثر من اتجاه في فقهنا الإسلامي إزاء هذه المسألة بين ثوري يحض علي الخروج ما دام الظلم شائعا والهوي غالبا وبين محافظ يري المعارضة بشكل سلمي أكثر تحقيقا لمصالح الأمة وصونا لدماء بنيها التي سال منها الكثير في قتال إسلامي إسلامي.
وبين اتجاه “وسطي أو عملي” يؤمن بالخروج والثورة ولكنه يري أن الصبر حتي تمكن هذه الثورة لنفسها علي مستوي القاعدة الشعبية ثم علي مستوي القدرة القتالية لا بد منه كي لا تكون نهاية هذه الثورة نهاية مأساوية تنتهي “باستشهاد ” دعاتها ومزيد من التمكين لنظام فاسد؛ والحق أن كلا من هذه الاتجاهات وجَدَ له ما يؤصل به فكره سواء كان ذلك علي مستوي النظرية أو علي مستوي التطبيق علي مستوي النص أو علي مستوي التجربة؛ فعلي مستوي النص نجد أن الأحاديث النبوية الواردة في هذه المسألة بعضها يدعو للصبر والطاعة في حدود المعروف وعدم الخروج ما لم يصل الأمر إلي الكفر البواح البين وبعضها يحث علي التصدي لسلاطين الظلم باليد واللسان حتي وإن أدي المر إلي القتل إذ إنه يعني هنا الشهادة بل أعلي درجات الشهادة؛ وبعضها يربط السمع والطاعة بإقامة القرأن في الأمة أو بقيادة الأمة به بما يعني بمفهموم المخالفة أنه مالم يقم الحاكم القرأن ويقود الأمة به فلا سمع له عليها ولا طاعة.
فأما النصوص الواردة في وجوب الطاعة وعدم الخروج علي الحاكم وإن ظلم وبغي فكثيرة نذكرمنها قول الرسول الكريم- صلي الله عليه وسلم-:
- “من كره من اميره شيئا فليصبر فإنه من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهلية” {رواه البخاري عن عبد الله بن عباس في كتاب الفتنة باب قول النبي صلي الله عليه وسلم سترون بعدي أمورا تنكرونها ومسلم في الامارة باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتنة وفي كل حال تحريم الخروج علي الطاعة ومفارقة الجماعة}
- “دعانا النبي صلي الله عليه وسلم فبايعناه فقال فيما أخذ علينا ان بايعنا علي السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان” {رواه البخاري عن عبادة بن الصامت في كتاب الفتنة باب قول النبي صلي الله عليه وسلم سترون بعدي أمورا تنكرونها}
فهذه بعض النصوص الصحيحة التي تأمر المسلم أن يسمع ويطيع وألا يخلع يدا من طاعة وإن رأي ظلما وأثرة وخروجا علي المعروف ما لم يصل الأمر إلي الكفر البواح او ترك الصلاة.
وهناك نصوص أخري قد يفهم منها أنها حض علي الخروج علي الحكام إذا ظلموا أو فسقوا أو قصروا بعض الشئ في إقامة الشرع الحنيف وإن لم يصل لحد الكفر؛ فمن ذلك قول النبي صلي الله عليه وسلم:
- “اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله” {البخاري عن أنس بن مالك في الأحكام باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية وفي الجماعة باب إمامة العبد والمولي وباب إمامة المفتون والمبتدع}
- “إن أمر عليكم عبد مجدع- حسبتها قالت أسود- يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له و أطيعوا” {مسلم والترمذي والنسائي عن ام الحصين الأحمصية واللفظ لمسلم كتاب الإمارة باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية}
ويفهم من الحديثين انه ما لم يقم كتاب الله ويقود الأمة به فلا طاعة له واجبة.
فهذه بعض النصوص التي يفهم منها جواز الخروج بل وجعل ذلك فضيلة إذا لم يلتزم الحاكم بالشرع الحنيف ويقيمه في الأمة.
- ولأن النصوص كما نري ظاهرها التعارض فقد اختلف الفقهاء في حكم الخروج علي الحاكم إذا ظلم وفسق فآثر بعضهم الصبر علي جور الحكام ومنعوا الخروج عليهم مع الالتزام بواجب النهي عن المنكر؛ وفي مقدمة هؤلاء أحمد بن حنبل والحسن البصري رضي الله عنهما.
- ومال آخرون إلي “الفكر الثوري” والخروج علي الحاكم إذا جار وظلم واعتدي علي حرمات الله تعالي؛ وفي مقدمة هؤلاء الخوارج وبعض فرق الشيعة وقد يكون ابن حزم ممثلا لهذه المدرسة من أهل السنة.
- وفريق ثالث توسط: فحض علي الخروج إذا وجدت أسبابه وهي وجود طائفة قوية من الأمة والمقصود بالقوة هنا القوة العسكرية التي تواجه الحاكم بما يملكه من وسائل قوة والقوة الشعبية بأن يكون لها مصداقية عالية عند عامة الناس بحيث يجدون من ينصرهم ويقف بجانبهم؛ وعلي رأس هذا الاتجاه أبو حنيفة رضي الله عنه.
فأما الاتجاه الأول وهو الداعي لعدم الخروج علي الحاكم وإن ظلم وفسق فهو اتجاه جمهور أهل السنة والثابت نظريا في اجتهادات الفقهاء وعمليا في عدم خروجهم علي من عاصرهم من حكام اتصف أكثرهم بالفسق والظلم ’ وهو أيضا الثابت بالأحاديث السابقة الصحيحة الصريحة والتي تعلق أمر الخروج علي الحاكم بالسيف وخلع اليد من طاعته بكفره أو بتركه الصلاة: “إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان” ’ “قيل أفلا ننابذهم يا رسول الله؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة، لا ما أقاموا فيكم الصلاة” ’ “قالوا:أفلا نقاتلهم؟ قال:لا، ما صلوا”
فالأمر كله منوط بعدم الكفر أو بإقامة الصلاة التي هي دليل الإسلام العملي؛ ثم إن القول بالخروج علي الحاكم لفسق طرأ عليه يحمل ضمنا أن الحاكم ينبغي أن يكون في أعلي درجات التقوي وأن يستمر أمره علي ذلك دوما ’ وهذا عند التحقيق أصبح وجوده متعذرا، و نحسب أن الخلفاء الذين حكموا أمة الإسلام بعد الأئمة الأربعة الراشدين واتصفوا بهذا يعدون علي أصابع اليد؛ ولذا يقول إمام الحرمين أبو المعالي الجويني(18 محرم 419 هجرية -25 ربيع ثان 478 هجرية): “والمصير إلي أن الفسق يتضمن الانعزال والانخلاع بعيد عن التحصيل فإن التعرض لما يتضمن الفسق في حق من لا يجب عصمته ظاهر الكون سرا أو علنا عام الوقوع’ وإنما التقوي ومجانبة الهوي ومخالفة مسالك المني والاستمرار علي امتثال الأوامر والانزجار عن المناهي والمزاجر والارعواء عن الوطر المفقود وانحاء الثواب الموعود هو البديع’ والتحقيق أنه لا يسير علي التقوي إلا مؤيد بالتوفيق والجبلات داعية إلي اتباع اللذات والطباع مستحثة علي الشهوات والتكاليف معظمها كلف وعناء، ووساوس الشيطان وهواجس نفس الانسان متضافرة علي حب العاجل واستنجاد الحاصل والجبلة بالسوء أمارة والمرء علي أرجوحة الهوي تارة وتارة….”(28) إلي أخر كلامه الذي دلل به علي أن دوام الاتصاف بالتقوي من الأمور المتعذرة إلا في حق فئة قليلة يعصمها الله من الزلل ’ والإمام أكثر تعرضا لذلك لكثرة اختصاصاته واهتماماته حتي انتهي الجويني لقوله:” فلا يبقي لدي بصيرة إشكال في استحالة استمرار مقاصد الإمام مع المصير إلي أن الفسق يوجب انخلاع الإمام أو يسلط خلعه علي الاطلاق ’ والذي يجب القطع به أن الفسق الصادر من الإمام لا يقطع نظره ومن الممكن أن يتوب ويسترجع ويؤوب ’ وقد قررنا بكل عبرة أن في الذهاب إلي خلعه وانخلاعه بكل عثرة رفض الإمامة ونقضها واستئصال فائدتها ورفع عائداتها وإسقاط الثقة بها واستحثاث الناس علي الأيدي نزع عن ربقة الطاعة”. (29)
إذا كان جمهور فقهاء أهل السنة قد آثروا الصبر علي جور الحكام مع القيام بواجب النصيحة والنهي عن المنكر، و رأوا عدم جواز الخروج علي الحاكم ما لم يكفر كفرا بواحاً، وما دام للصلاة مقيماً؛ فإن من فقهاء أهل السنة كذلك من رجح مذهب الخروج علي الحكام إذا جاروا و ظلموا؛ وهؤلاء انقسموا فريقين: الأول وهو الأكثر رأي الخروج غير جائز ما لم توجد أدلة قوية علي إمكانية نجاحه، والثاني ويري الخروج علي الحاكم إذا ظلم وجار فريضة لا ينبغي الاستنكاف عن القيام بها في كل الأحوال.
وقد يفهم من كلام ابن حزم الفقيه الأندلسي العظيم (384-456 هجرية) تأييده للرأي الأول وذلك لأنه يري أنه “إذا كان أهل الحق في عصابة يمكنهم الدفع ولا ييئسون من الظفر ففرض عليهم ذلك وإذا كانوا في عدد لا يرجون لقلتهم وضعفهم بظفر كانوا في سعة من ترك التغيير باليد وهذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكل من معه من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين وهو قول عبد الله بن الزبير ومحمد والحسن بن علي وبقية الصحابة من المهاجرين والأنصار القائمين يوم الحرة رضي الله عن جميعهم أجمعين”(30)
ولكننا نجد أن ابن حزم في موضع آخر يصرح بوجوب الخروج علي الحاكم إذا لم يقم حدود الله تعالي ووالي أعداء الله من اليهود والنصاري وكُلَم في ذلك فلم يرجع ولم يرتدع فهنا يجب خلعه وإقامة غيره مكانه، وذلك واضح بيَنه في قوله رحمه الله “والواجب إن وقع شئ من الجور وإن قل أن يكلم الإمام في ذلك ويمنع منه فإن امتنع وراجع الحق وأذعن للقود من البشرة أو من الأعضاء ولإقامة حد الزنا والقذف والخمر عليه فلا سبيل إلي خلعه وهو إمام كما كان لا يحل خلعه، فإن امتنع عن إنقاذ شئ من هذه الواجبات عليه ولم يراجع وجب خلعه وإقامة غيره ممن يقوم بالحق لقوله تعالي (وتعاونوا علي البر والتقوي ولا تعاونوا علي الإثم والعدوان) ولا يجوز تضييع شئ من واجبات الشرع” (31)
وهو في سبيل رده علي الذين يقولون بعدم جواز الخروج علي الحاكم ما لم يكفر كفراً بواحاً أو يترك إقامة الصلاة يورد مثالاً صارخاً ليدلل به علي مدي تهافت هذا الرأي من وجهة نظره فيقول”ويقال لهم ما تقولون في سلطان جعل اليهود أصحاب أمره والنصاري جنده وألزم المسلمين الجزية وحمل السيف علي أطفال المسلمين وأباح المسلمات للزنا وحمل السيف علي كل من وُجد من المسلمين وملك نساءهم وأطفالهم وأعلن العبث بهم وهو في كل ذلك مقر الإسلام معلن به لا يدع الصلاة؟!
فإن قالوا:لا يجوز القيام عليه، قيل لهم: إنه لا يدع مسلماً إلا قتله جملة وهذا إن ترك أوجب ضرورة ألا يبقي إلا هو وحده وأهل الكفر معه، فإن أجازوا الصبر علي هذا خالفوا الإسلام جملة وانسلخوا منه، وإن قالوا: بل يقام عليه ويقاتل وهوقولهم- قلنا لهم: فإن قتل تسعة أعشار المسلمين أو جميعهم إلا واحداً منهم وسبي من نسائهم كذلك وأخذ من أموالهم كذلك؟! فإن منعوا من القيام عليه تناقضوا وإن أوجبوا سألناهم عن أقل من ذلك ولا نزال نحيطهم إلي أن نقف بهم إلي أن نقف بهم علي قتل مسلم واحد أو علي امرأة واحدة أو علي أخذ مال أو علي انتهاك بشرة بظلم، فإن فرقوا بين شئ من ذلك تناقضوا وتحكموا بلا دليل وهذا ما لا يجوز وإن أوجبوا إنكار كل ذلك رحبوا إلي الحق ونسألهم عمن غصب سلطانه الجائر الفاجر زوجته وابنته وابنه ليفسق بهم أو ليفسق به بنفسه أهو في سعة من إسلام نفسه وامرأته وولده وابنته للفاحشة أم فرض عليه أن يدفع من أراد ذلك منهم فإن قالوا: فرض عليه إسلام نفسه وأهله أتوا بعظيمة لا يقولها مسلم وإن قالوا: بل فرض عليه أن يمتنع من ذلك ويقاتل رحبوا إلي الحق ولزم ذلك كل مسلم في كل مسلم وفي المال كذلك”(32)
وهكذا ينتهي ابن حزم إلي وجوب الإنكار علي هذا الحاكم الذي يبلغ به الظلم وانتهاك حرمات المسلمين مداه وإن أظهر أنه مسلم وأقام الصلاة، بل ينتهي ابن حزم إلي عدم جواز الصبر ووجوب التصدي للدفاع عن الأهل والمال.
ويرد ابن حزم علي الأدلة التي يسوقها القائلون بالصبر علي جور الحكام ما داموا مسلمين مصلين بقوله “احتجت الطائفة المذكورة أولاً- وهم القائلون بالصبر وبأن النهي عن المنكر لا يكون علي الحكام إلا باللسان والقلب – بأحاديث فيها: أنقاتلهم يا رسول الله؟ قال:لا ما صلوا وفي بعضها إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان وفي بعضها وجوب الصبر وإن ضرب ظهر أحدنا وأخذ ماله” إلي غير ذلك من الأدلة التي يردها ثم ينبري للرد عليها قائلاً ” كل هذا لا حجة فيه…أما أمره صلي الله عليه وسلم بالصبر علي أخذ المال وضرب الظهر فإنما ذلك بلا شك إذا تولي الإمام ذلك بحق(*) وهذا ما لا شك في أنه فرض علينا الصبر له وإن امتنع من ذلك بل من ضرب رقبته إن وجب عليه فهو فاسق عاص لله تعالي؛ وأما إن كان ذلك بباطل فمعاذ الله أن يأمر رسول الله صلي الله عليه وسلم بالصبر علي ذلك، برهان هذا قول الله عزوجل (وتعاونوا علي البر والتقوي ولا تعاونوا علي الإثم والعدوان)”(33)
“فإذا كان هذا كذلك فيقين لا شك فيه يدري كل مسلم أن أخذ مال مسلم أوذمي بغير حق وضرب ظهره بغير حق إثم وعدوان وحرام قال رسول الله صلي الله عليه وسلم (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم فإذ لا شك في هذا ولا اختلاف من أحد من المسلمين، فالمُسَلَِم ماله للأخذ ظلماَ وظهره للضرب ظلماً وهو يقدر علي الامتناع من ذلك بأي وجه أمكنه معاون لظالمه علي الإثم والعدوان وهذا حرام بنص القرآن”(34)
هكذا ينتهي ابن حزم إلي أن السكوت علي أخذ المال وضرب الظهر ليس صبراً محموداً علي جور الحاكم وإنما هو معاونة علي الإثم والعدوان يأثم به فاعله إذا كان قادراً علي الامتناع منه. ويستطرد ابن حزم في الرد علي سائر أدلة القائلين بالصبر ومنها الاستشهاد بقصة ابني آدم ومدح الله المقتول القائل لأخيه (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك الأية) المائدة:28، وكذا الأحاديث الآمرة بأن “كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل”
يرد ابن حزم علي ذلك ويسرد أدلة المذهب الأخر الداعي إلي المواجهة والإنكار بقوله “وأما سائر الأحاديث التي ذكرنا وقصة ابني آدم فلا حجة في شئ منها، أما قصة ابني آدم فتلك شريعة أخري غير شريعتنا قال الله عزوجل (لكل جعلنا منك شرعة ومنهاجاً) (35) وأما الأحاديث فقد صح عنه رسول الله صلي الله عليه وسلم (من رأي منك منكراً فليغيره بيده إن استطاع فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ليس وراء ذلك من الإيمان شئ وصح عن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: لا طاعة في معصية إنما الطاعة في الطاعة وعلي أحدكم السمع والطاعة مالم يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة وأنه عليه السلام قال: من قتل دون ماله فهو شهيد والمقتول دون دينه شهيد والمقتول دون مظلمة شهيد وقال عليه السلام”لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليعمنكم الله بعذاب من عنده”، فكان ظاهر هذه الأخبار معارضا للأخر فصح أن إحدي هاتين الجملتين ناسخة للأخري لا يمكن غير ذلك فوجب النظر في أيهما هو الناسخ فوجدنا تلك الأحاديث التي منها النهي عن القتال موافقة لمعهود الأصل ولما كانت الحال عليه في اول الإسلام بلا شك، وكانت هذه الأحاديث الأُخر واردة بشريعة زائدة وهي القتال، هذا مما لا شط فيه، فقد صح نسْخُ معني تلك الأحاديث ورفع حكمها حين نطقه عليه السلام بهذا الأخر بلا شك فمن المحال المحرم أن يؤخذ بالمنسوخ ويترك الناسخ وأن يؤخذ الشك ويترك اليقين”(36)
ثم يدلل علي أن الأخبار التي تأمر بالقتال هي الناسخة بقول الله تعالي (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما علي الأخري فقاتلوا التي تبغي حتي تفئ إلي أمرالله) ويعقب قائلاً “لم يختلف مسلمان في أن هذه الأية التي فيها فرض قتال الفئة الباغية محكمة غير منسوخة فصح أنها الحاكمة في تلك الأحاديث فما كان موافقاً لهذه الأية فهو الناسخ الثابت وما كام مخالفاً لها فهو المنسوخ المرفوع”(36)
ثم يرد ادعاء من يدعي أن الأية والأحاديث التي فيها أمر بالقتال لا تسري في حق السلطان فيقول” وقد ادعي قوم أن هذه الأية وهذه الأحاديث في اللصوص دون السلطان وهذا باطل متيقن لأنه قول بلا برهان وما يعجز مدع أن يدعي في تلك الأحاديث أنها في قوم دون قوم وفي زمان دون زمان والدعوي دون برهان لا تصح،وتخصيص النصوص بالدعوي لا يجوز”(36)
هكذا ينتهي ابن حزم بنصر مذهبه في التصدي لظلم السلطان وجوره وعدم الاستسلام والصبر علي الظلم والجور.
وسواء وافقنا ابن حزم في دعوي النسخ التي ادعاها أو خالفناه باعتبار الجمع بين النصوص التي يراها متعارضة ممكناً، فلا يمكننا أن نغفل قوة أدلة ابن حزم وقوة منطقه في الرد علي الخصوم؛ وهذا علي أية حال أنموذج لرأي فقيه يميل إلي فكرة التصدي للحاكم ومواجهته بالقوة.
الاتجاه الثالث: “الخروج إذا وُجدت أسبابه وقوي احتمال نجاحه”
هذا المذهب في الحقيقة لا يبعد كثيراً عن المذهب الثاني اللهم إلا في تحديد الظروف التي يكون الخروج فيها في مصلحة الأمة، فهو كسابقه لا يميل إلي الصبر علي جور الحكام لمجرد كونهم مسلمين مصلين كالمذهب الأول، وإنما يري أنه إذا قويت احتمالات نجاح “الثورة” في إزاحة نظام ظالم مستبد فيكون الخروج حينئذ مطلوبا من جهة الشارع؛ والحق أن عدداً غير قليل من فقهاء أهل السنة رجحوا هذا المذهب، فهذا أبو حنيفة رضي الله عنه روي عنه أنه بايع لإبراهيم بن عبد الله بن الحسن وكان إبراهيم قد خرج هو وأخوه محمد بن عبد الله علي خلافة العباسيين في عهد أبي جعفر المنصور؛ وإن كان أبو حنيفة لم يخرج مع من خرج إلا أنه روي عنه قوله لمن سأله عن حكم الخروج مع إبراهيم بن الحسن “إنه كالخروج مع رسول الله صلي الله عليه وسلم في يوم بدر” أما لماذا لم يخرج أبو حنيفة نفسه؛ فلأن مذهبه في مسألة الخروج يقوم علي أنه لا يكون إلا عند رجحان احتمال التغيير وهو ما لم يكن بادياً للأعين في ثورة إبراهيم ومحمد التي قضي عليها أبو جعفر وانتهي الأمر باستشهاد الرجلين رحمهما الله تعالي.
ومذهب أبي حنيفة في هذه المسألة من جواز الثورة علي الحاكم الظالم إذا وجد أعواناً وقوة مادية ترجح نجاح الثورة ثابت في أكثر من قول مروي عنه ونقل عنه الجصاص “وكان مذهبه مشهوراً في قتال الظلمة وأئمة الجور، ولذلك قال الأوزاعي احتملنا أبا حنيفة علي كل شئ حتي جاءنا بالسيف فلم نحتمله وكان من قوله وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضه بالقول فإن لم يؤتمر به فبالسيف” (37)
هذا وهناك بجانب هذه الجذور الفكرية للظاهرة بل وقبلها، هناك بعض الأخطاء المنهجية في طريقة التفكير والاستدلال تؤدي بهذه الجماعات إلي أن تنتهي إلي ما تنتهي إليه من أفكار تؤصِّل للعنف ومن ثم تتبناه كوسيلة بل كاستراتيجية للتغيير، وسنتعرض بما يسمح به المقام لبعض هذه الأخطاء المنهجية علي أمل أن تخصص لها بحثاً مستقلاً، وسنكتفي هنا بذكر مثالين لهذه الأخطاء المنهجية:
- الخلط بين التجربة التاريخية والأدلة الشرعية:
من المتفق عليه بين مدارسنا الفقهية المعتمدة أن أدلة التشريع المعروفة هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس، ثم هناك أدلة مختلف حولها كالاستحسان والمصالح المرسلة والعرف وشرع من قبلنا…إلي آخر ما هو معلوم في علم الأصول، ما عدا ذلك فلا يصلح دليلاً شرعياً أي مستنداً لحكم شرعي فالدليل هو ما جعله الشارع أمارة علي وجود الحكم وعليه فلا يصح اعتبار أي تجربة تاريخية أصلاً من أصول التشريع أو دليلاً من أدلته بحيث يحتج به علي شرعية الفعل أو عدم شرعيته، بل إن السيرة النبوية ذاتها ليست دليلاً من أدلة التشريع ما لم يثبت صحة ما بها من أحداث وروايات وفقاً لمعايير “النقد” المعروفة عند أهل الحديث، وفي ذلك يروي عن الإمام أحمد قوله “ثلاث لا يصح فيهن شيئ التفسير والسير والمغازي”، بل إن الفقهاء اختلفوا في بعض أفعال وأقوال النبي الكريم – صلي الله عليه وسلم – حاصة في أوقات الحروب، هل هي سنن تشريعية عامة للأمة أم أنَّ النبي صلي الله عليه وسلم قالها أو فعلها كقائد عسكري فهي حادثة عين مختصة بوقتها وظروفها وليست تشريعاً للأمة؛ مثل ذلك قوله صلي الله عليه وسلم “من قتل قتيلاً فله سلبه” وقوله “من أحيا أرضاً مواتاً فهي له”؛ وإذا كان ذلك مع بعض أفعال وأقوال النبي الكريم الذي أجمعت الأمة علي سنته الأصل الثاني للتشريع فكيف بأفعال وأقوال من هو عرضة للخطأ والصواب والالتزام بالجادة أو اتباع الهوي؟! نقول هذا لأننا نجد أغلب الجماعات التي تؤصل للعنف كوسيلة معتمدة للتغيير ترتكن إلي وقائع تاريخية وقعت في الدولة الإسلامية منذ الخلافة الراشدة وحتي سقوط الخلافة غير منتبهين
أولاً: لعدم حجية هذه السوابق التاريخية كدليل شرعي يرتكن إليه.
وثانياً: لأن الحدث التاريخي حدث مركب وليس “بسيطاً” ينتج عن عشرات الأسباب والدوافع وهو بلا شك رهن بالظرف التاريخي الذي وجد فيه وبالمؤثرات السياسية والاجتماعية والأنثروبولوجية والنفسية التي تسببت فيه.
وإسقاط الماضي علي الحاضر ومحاولة استنساخ هذا الماضي أمرٌ محكوم عليه بالفشل لأنه ضد نواميس الكون التي خلقها الله وضد سنن التغيير المجتمعية وهذا – للأسف – أحد أبرز أمراض الأمة عامة والإسلاميين خاصة.
التماهي مع الماضي والتأسف عليه والتباهي به والفشل الواضح في التعامل مع قضايا العصر، الأمر الذي انتهي بالأمة إلي ما انتهي إليه؛ وهذه ليست دعوة للقنوط ولكنها ضرب من نقد الذات التي أمرنا به النبي الكريم “الكيِّس من دان نفسه”.
- بناء يقينيات علي ظنيات:
عندما نفترض افتراضاً ثم نقيم عليه مجموعة من الاستنتاجات فهذا يمكن الحكم عليه من ناحيتين:
الأولي: من جهة كونه بناءً منطقياً خاصاً بهذا الفرض فقط ومن ثم يكون صحيحاً أو خاطئاً في ضوء تماسك هذا البناء لكنه لا يعني عدم وجود أبنية أخري أقيمت علي فرضيات أخري، ولعل أبرز الأمثلة العملية علي هذا: هندسة إقليدس والهندسات الأخري التي يعرفها أهل التخصص في علم “الطوبولوجي” ولكن هذا البناء المنطقي بالطبع لا دخل له بالأحكام الشرعية إلا من حيث كونه علماً نافعاً فحسب فيأخذ حكم طلب العلم الذي أمرنا به الشارع.
الثانية: أنه يجب أولاً أن نختبر هذا الفرض ومدي صحته فإن ثبتت صحته يقيناً شرعنا في التفريع عليه والاستنتاج منه، وهذا الاستنتاج بدوره يخضع للصحة والخطأ في ضوء مدي التسلسل المنطقي وإن كان هذا الفرض صحيحاً ولكن بشكل ظني لا يقيني فكذلك تكون الاستنتاجات صحيحة ظنياً وليس يقينياً، أما إذا ثبت خطأ الفرض فإن كل ما يترتب عليه يأخذ حكمه ومنه كانت المقولة الفقهية والقانونية “ما بُني علي باطل فهو باطل”؛ وبالرجوع لأدبيات جماعات العنف المسلح نجد أنهم يقعون كثيراً في هذا الخطأ، فيوردون قاعدة هي في أفضل الأحوال محل اختلاف وليست محل إجماع ومن ثم فالتفريع عليها سيكون كذلك بل لعله أوهي منها، لكنهم يفترضون صحتها يقيناً ثم يقيمون عليها بنياناً من الاستنتاجات فإذا به قد أقيم علي جُرُفِّ هارِّ، وأمثلة ذلك كثيراً منها:
القول برِدَّة الحكام الذين لا يحكمون بالشريعة الغرَّاء ثم التفريع علي ذلك برِدّة المجتمعات لأنها قبلت بذلك وسكتت عليه ومن رضي بالكفر فهو كافر “فالرضا بالكفر كفر” وهاهنا أخطاء متراكمة بعضها فوق بعض؛ الخطأ الأول والذي اعتُبر بمثابة القاعدة التي بني عليها البنيان هو القول بكفر الحكام الذين لا يحكمون الشريعة أي يحكمون دولاً تستقي قوانينها من تشريعات وضعية؛ ونود ابتداءً أن نينن بأن كون الإسلام عقيدة وشريعة هو مما أجمعت عليه المة وجاء به الكتاب والسنة قال تعالي:” أن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم” وقال:” وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلي الله” وقال:”فإن تنازعتم في شئ فرُدُّوه إلي الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر” والأمر أوضح من أن يُستدل عليه وقد عاشت الأمة الإسلامية أكثر من ألف عام لا تعرف مصدراً للأحكام والقوانين سوي الإسلام، وتبلورت المذاهب الفقهية العديدة علي أساس فهم الكتاب والسنة وإعمال القياس والأخذ بالإجماع إلي غير ذلك من أدلة الشرع، ولا شك أيضاً أن ترك الأمة للإسلام كمصدر للتشريع وركونها إلي قوانين مستوردة مثَّل أنحرافاً عن الإسلام من جهة وطمساً لمعلم من أهم المعالم التي قامت عليها حضارة الأمة من جهة أخري.
لكنَّ هذا شئ والقولَ بكفر كل حاكم أو رئيس يحكم دولة لا تحتكم لأحكام الشريعة شئ آخر، ولبيان ذلك يلزمنا أن نقف مع أهم أدلة القائلين بكفر هذا الصنف من الحكام وهو قول الله تعالي:”ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون”؛ وقد يتصور البعض أن الآية واضحة الدلالة في الحكم علي هذا الصنف من الحكام بالكفر بيد أن الأمر ليس كذلك؛ ولبيان هذا يلزمنا أن نؤسس لأن الإيمان والكفر في الأصل مسائل اعتقادية وليست عملية ما لم تكن الأعمال واضحة الدلالة في نقض هذا الإيمان كمن يسب الله أو رسوله أو يستهزئ بالقرآن أو بأحكامه، ولكن في الجملة الإيمان مسألة اعتقادية والكفر هو نقض لأحد أصول الإيمان وهو أيضاً مسألة اعتقادية، وإذا كان ذلك فماذا عن هذه الآية الصريحة؟ الحق أنه لما أسسناه فإن جمهور المفسرين والعلماء ذهبوا لأن الكفر هاهنا ليس كفر اعتقاد أو أنه ليس خاصاً بالمسلمين، فمن ذلك:
يقول ابن كثير في تفسيره للآية: وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله”ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكافرون” قال: من جحد ما أنزل الله فقد كفر ومن أقرَّ به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق رواه ابن جرير ثم اختار أن الآية المراد بها أهل الكتاب أو من جحد حكم الله المنزل في الكتاب قال: وقال النوري عن ابن جريج عن عطاء أنه قال: كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق رواه ابن جرير وقال وكيع عن سعيد المكي عن طاووس ” ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون” قال ليس بالكفر الذي تذهبون إليه ورواه الحكم في مستدركه من حديث سفيان بن عتبة وقال صحيح علي شرط الشيخين ولم يخرجاه.[ابن كثير: تفسير القرآن العظيم ج2 ص61، القاهرة: ط عيسي الحلبي] وقال القرطبي:”ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون” و”الظالمون” و “الفاسقون” وردت كلها في الكفار ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث البراء وقد نقدم وعلي هذا المعظم فأما المسلم فلا يكفر وإن ارتكب كبيرة وقيل: فيه إضمار أي ومن لم يحكم بما أنزل الله رداً للقرآن وجحداً لقول الرسول عليه الصلاة والسلام فهو كافر، فالآية عامة علي هذا، قال ابن مسعود والحسن: هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين واليهود والكفار أي معتقداً ذلك مستحلاً له، فأما من فعل ذلك وهو معتقد أنه راكب محرماً فهو من فساق المسلمين وأمره إلي الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.
وقال ابن عباس في رواية: ومن لم يحكم بما أنزل الله فقد فعل فعلاً يضاهي أفعال الكفار وقبل:أي ومن لم يحكم بجميع ما أنزل الله فهو كافر فأما من حكم بالتوحيد ولم يحكم ببعض الشرائع فلا يدخل في هذه الآية والصحيح الأول، إلا أن الشعبي قال:هي في اليهود خاصة واختاره النحاس وقال: يدل علي ذلك ثلاثة أشياء منها أن اليهود وقد ذكروا قبل هذا في قوله “للذين هادوا” فعاد الضمير عليهم ومنها أن سياق الكلام يدل علي ذلك ألا تري أن بعده “وكتبنا عليهم” فهذا الضمير لليهود بإجماع، وأيضاً فإن اليهود هم الذين أنكروا الرجم والقصاص. [القرطبي: الجامع لأحكام القرآن مجلد3 ص2817 القاهرة: دار الشعب]
ولعل استعراض هذه الأقوال يدل علي خطأ المقدمة الأولي التي تأسس عليها النتيجة، أي خطأ القول بكفر الحكام لمجرد أنهم لا يحكمون بالشريعة ثم البناء علي هذه المقدمة كفر الشعوب إما لأنها ترضي بذلك أو لا تعمل علي تغييره.
وبناءً علي الحكم بكفر الحكام والشعوب أو بِردَّتهم تم البناء علي هذه المقدمات الخاطئة بإهدار الدماء وجواز القتل لأنهم مرتدون؛ وهكذا تتوالي الاستنتاجات الخاطئة من المقدمات الخاطئة، وإذا كان القول بكفر الحكام هو الخطأ الأول فإن البناء عليه بتكفير الشعوب هو الخطأ الثاني لأنه حتي بافتراض صحة الفرض الأول – أي كفر الحكام – وهو ما أثبتنا خطأه بالعموم فإن البناء عليه بتكفير الشعوب بزعم رضائهم بالكفر خطأ ثان لأن الرضا بالكفر شئ وعدم القدرة علي تغييره شئ آخر، فضلاً عن كون هذا الكفر ينبغي ان يكون من الوضوح بحيث لا يخفي علي مسلم حتي يكون الرضا به كفراً وهذا ما لا يمكن التسليم به.
وهكذا تتوالي الأخطاء المنهجية والاستدلالية، وما أسلفناه مجرد امثلة لهذه الأخطاء المنهجية تبين أن الحاجة إلي إصلاح منهج التفكير والاستدلال هو الأساس الذي يجب أن يبني عليه التصدي لهذه الأفكار المغلوطة وما يترتب عليها من أفعال منحرفة عن جادة الصواب.
وننتقل بعد ذلك للحديث عن التربية وأثرها علي ظاهرة العنف:
- التربية وأثرها كفلسفة ونظام علي ظاهرة العنف:
لا يصح التعرض للظاهرة دون التعرض للتربية وأثر ذلك علي تنامي ظاهرة العنف لأن هذا يحول بيننا وبين فهم جذور الظاهرة فبالإضافة لكون التربية تتأثر بالقيم السائدة في المجتمع وتؤثر فيها بما لا مجال للتشكيك فيه أو لتجاوزه، إذ العلاقة بين التربية والمجتمع بقيمه ومفاهيمه وأعرافه ونظمه السياسية والاقتصادية والاجتماعية هي علاقة تأثير وتأثر.
التربية ↔ المجتمع
بالإضافة لذلك فإن تنامي هذه الظاهرة بصفة خاصة يحتاج إلي وقفة لأن الفلسفة التي تقوم عليها التربية في مجتمعنا من أشد المؤثرات علي هذه الظاهرة، فالقيم التربوية السائدة هي المسئول الأول عن إفراز عقلية ترفض الحوار وتري الاختلاف خطيئة وتعتقد أن الحق هو ما انتهت إليه دون سواه وتنظر للأمور نظرة أحادية.
إن التربية هي المسئول الأول عن هذه العقليات الجامدة والمنغلقة وغير القادرة علي أن تكون نظرتها للأمور أكثر تركيباً وتعقيداً. والحق أن نظرة عجلي للتربية في مؤسساتنا التربوية مدرسة كانت أو جامعة أو أسرة ستزيل تماماً أي علامات استفهام عن استفحال ظاهرة العنف لأن انتظار غير ذلك من التربية السائدة في هذه المؤسسات يعتبر ضرباً من العبث، وانتظار نتائج من غير مقدماتها و
من زرع الحنظل لا يرتجي أن يجتني السكر من غرسه
وبعيداً عن مشكلات التعليم التي لا تخفي علي بصير من جيث الكم والكيف حيث بلغت نسبة التسرب حسبما يذكر تقرير (استراتيجية تطوير التعليم في مصر 1987م) من 20% إلي 25% بينما تشير تقارير البنك الدولي إلي أنها تقدر ب 36%؛ أما عن مهارات القراءة والكتابة والحساب فإن نسبة كبيرة من خريجي المدرسة الابتدائية يفتقدونها بشكل كبير، ومؤخراً (2014) كان ترتيب مصر بالنسبة للتعليم الأساسي 148 وذلك ضمن 148 دولة خضعت للبحث، وبالنسبة للتعليم العام جاء ترتيبها 139 من 140 دولة خضعت للبحث.
بعيداً عن هذه المشكلات التي لا تخفي علي أحد فإن الاتجاهات والقيم التي يعمل نظامنا التعليمي علي تأصيلها في العقول أبعد ما تكون عن الديموقراطية والحوار وقبول الآخر. أما المهارات التي تعمل علي إكسابها للمتعلم فهي أيضاً أبعد ما تكون عن التحليل أو التفسير أو النقد أو التركيب أو التقويم.
إن نظامنا التعليمي لا يزال يتعامل مع العقل البشري بمفهوم متخلف –علي أنه صفحة بيضاء وأن وظيفة التعليم تخزين أكبر قدر من المعلومات علي هذه الصفحة البيضاء؛ إنه نظام يعمد إلي تكوين بناء تراكمي من المعلومات دون اهتمام يذكر بالنسق الكلي الذي يتم تركيب هذه المعلومات بداخله.
وبغض النظر عن مدي أهمية هذه المعلومات ودقتها بعد عدد من السنوات فإن افتقار الرؤية الكلية يجعل العقل الإنساني غير قادر علي التعامل مع ما يعرض له. إنه فحسب سيجتهد ما وسعه الاجتهاد لكي يقوم بدور الحاسب الآلي في تخزين المعلومات واستدعائها، وسيفتقد نعمة الله الكبري عليه وهي بالطبع ليست التخزين وإنما التحليل والتركيب في إطار نظرة كلية وتصور شامل.
ونتيجة العملية التعليمية في بلادنا واضحة بينة إذ برغم العبء الضخم علي المتعلم وبرغم الكم الهائل الذي يحصله من المعلومات فإنه لا يخرج بمنهج تفكير ولا بقدرة علي التحليل والتركيب ولا بمهارة الحوار والمناقشة؛ وأنَي له ان يخرج بذلك من تعليم لا يعتمد إلا التلقين وسيلة مثلي وأنَي لمعلم يعتمد الحوار والمناقشة وهو نفسه يفتقد القدرة علي الحوار والمناقشة، وهو نفسه نتاج هذا التعليم التلقيني التخزيني التراكمي الذي يفرز عقليات إذا اختلفت معها عجزت عن استيعاب الخلاف وإذا حاورتها افتقدت أهلية الجدال وإذا وصلتها معلومات جديدة رصََتها رصََاَ بجانب كم المعلومات الهائل المختزن بداخلها.
ولا يمكن لنظام كهذا إلا أن يفرز شخصيات سمتها”التعصب” ووسيلتها العنف ومنطقها التصدي للآخر ومحاربته لا قبوله بله التعاون معه؛ ولا يعتقد أن الأنظمة الحاكمة في عالمنا العربي يمكن أن تساهم بأي دور في إعادة النظر في فلسفتنا التربوية وقيمنا التعليمية لأنها من البداية لا تريد مواطناً يؤمن بقيمة الديموقراطية والحوار، فمثل هذا المواطن بعينه هو الخطر الأكبر علي وجودها واستقرارها.إنها أنظمة تحرس التخلف وترعي التعصب والتقليد وتسقي بذور العنف من ماء استبدادها كل يوم وإن زعمت –كذباً- أنها غير ذلك.
إن نقطة البداية الصحيحة لمواجهة “ظاهرة العنف” لهي إعادة النظر في نظامنا التعليمي وفلسفتنا التربوية ليكون إفراز هذا النظام شخصية قادرة علي الحوار والمناقشة بقوة المنطق لا بمنطق القوة، وعلي قبول الآخر والتعايش معه بل والتعاون في غير مواطن الخلاف، وكل هذا لا يتأتي إلا من خلال تبني قيم الديموقراطية في فلسفتنا التربوية في عالمنا العربي، فالشخصية المستقلة الحرة هي وحدها القادرة علي البناء ومواجهة التحديات أما الذي يشعر بأنه عبد فإنه حتماً سيطلب من الآخرين أن يكونوا كذلك وهو في النهاية أبعد ما يكون عن القدرة علي مواجهة التحديات لأن روح الإبداع قد قتلت بداخله.
إن التربية هي نقطة البداية وأي منهج إصلاحي يغفل أو يتغافل هذا فلا يمكن أن يكتب له النجاح؛ وإذا كان نظامنا التربوي لا يسمح بتخريج شخصيات ناقدة متبنية للحوار قادرة علي التعامل مع الآخر فإن التربية السائدة داخل الجماعات الإسلامية كما سنري تكمل منظومة التخلف وتساهم بدور عظيم في إفراز عقليات جامدة ترفض الآخر وتؤثر التعامل معه بمنطق “الإلغاء” الذي يتراوح بين التكفير والتعالي من الناحية النظرية وبين الإهمال والمصادرة –عند القدرة عليها- والتصدي من الناحية العملية وهو ما سنعرض له في النقطة التالية.
ثالثاً: التربية داخل الجماعات الإسلامية وتأثير ذلك علي ظاهرة العنف:
في اعتقاد الباحث أن التربية السائدة داخل الجماعات الإسلامية من أهم أسباب شيوع ظاهرة العنف في العمل الإسلامي؛ وإنصافاً نقول إنه إذا كان المجتمع في صورة مؤسساته التربوية لا يعمل علي تأصيل قيم الحرية والديموقراطية وحق الاختلاف واحترام الرأي الآخر، فإن الجماعات الإسلامية والتي هي جزء من نسيج المجتمع وإفراز من إفرازاته سارت علي نفس النهج وتبنت نفس القيم التربوية التي تبنتها المؤسسات التربوية في المجتمع وإن كانت قد غلفتها بإطار شرعي فقهي.
ولذا لم يكن غريباً ولا مستغرباً أن يكون التركيز في هذه الجماعات علي تأصيل مفاهيم مثل: الطاعة والجندية والتقة، وذلك علي حساب مفاهيم أخري كالشوري واحترام الآخر وكالحرية وحق المعارضة والتقويم.
وإذا كانت أغلب الجماعات الإسلامية ليس لها تراث نظري مكتوب يتضح منه منهاجها التربوي ويمكن الحكم عليه من خلاله فإن بعض هذه الجماعات لها مثل هذا التراث كالإخوان المسلمين، والبعض الآخر وإن لم يكن لها إنتاج تربوي متخصص فيمكن استخراج قيمها التربوية من خلال أدبياتها الأخري.
وبالنسبة لجماعة الإخوان المسلمين فلدينا نموذج تربوي واضح بينته الجماعة وعملت علي تربية الأفراد عليه وقد أتيح لها ذلك ومن ثم فنحن أمام فكر تربوي وتطبيقات لهذا الفكر؛ ولو أن الموضوع يحتاج إلي مبحث منفصل إلا أننا سنركز علي الجزئية التي تفيدنا في بحثنا وهي مدي تأثير التربية الإخوانية علي ظاهرة العنف في العمل الإسلامي. وفي هذا الإطار سنلاحظ أن التربية عند الإخوان المسلمين قد أولت اهتماماً كبيراً لقيم السمع والطاعة والجندية والثقة علي حين لم نجد اهتماماً مشابهاً لتأصيل قيم حرية المعارضة ووجوب الشوري.
وقد جاءت التربية عند الإخوان مزيجاً من التربية الصوفية والتربية العسكرية ونحن نعرف مدي ما يتصف به كل منهما من تركيز شديد علي مسألة السمع والطاعة.
فعند المتصوفة المريد بين يدي الشيخ كالميت بين يدي مغسله له أن يفعل به ما يشاء دون اعتراض يذكر لأن الاعتراض من المريد هنا قلة أدب مع شيخه وسيحول بينه وبين الترقي في درجات الوصول.
أما التربية العسكرية – سيما في بلادنا –فمعلوم مدي ما يلزم الجندي فيها من طاعة لقائده ولو رأي في امره الخطأ كل الخطأ فواجب عليه أن يطيع أولاً، لأن عدم الطاعة هنا قد يدخل في مصاف الجرائم الكبري.
وحول هذين المحورين (التصوف والعسكرية) وصف الشيخ حسن البنا رحمه الله التربية في مرحلة “التكوين” وهي مرحلة التربية الحقيقية داخل الجماعة، فقال في رسالة التعاليم تلك التي وجهها في البداية إلي “الإخوان المجاهدين من الإخوان المسلمين”: إن”نظام الدعوة في هذه المرحلة:صوفي بحت من الناحية الروحية وعسكري بحت من الناحية العملية” الرسائل ص 362
ولا شك أن التركيز علي مسألة السمع والطاعة واضحة بينة وقد أعاد البنا التركيز عليها بصورة أكثر وكأنه لم يكتف بوصف المرحلة بأنها مزجت بين الصوفية والعسكرية فقال:”وشعار هاتين الناحيتين دائماً (أمر وطاعة) من غير تردد ولا مراجعة ولا شك ولا حرج” (نفسه)
وأعتقد أن عبارة مثل من غير تردد ولا مراجعة…ليست في حاجة إلي بيان مدي ما تورثه في شخصية الفرد من تبعية شديدة للمربي تمنعه حتي من مراجعته إذ يعتبر ذلك خروجاَ عن حدود الأدب أو عدم ثقة بالمربَي. تلك الثقة التي وصفها حسن البنا –رحمه الله- فقال:”والثقة بالقيادة هي كل شئ في نجاح الدعوات” (الرسائل ص 364)
وفي مقابل هذا الإفراط في الحديث عن الطاعة وعن حقوق القيادة لم نجد اهتماماً ذا بال بتربية الأفراد علي الحوار وتنمية ملكة المحاورة – دون تشنج أو عصبية – لديهم.
و مع أنه يفترض في صاحب الدعوة أن يكون من أهم صفاته قدرته علي محاورة الآخر ومجادلته دونما تعسف أو تسفيه؛ لم نجد اهتماماً ذا بال بتنمية قيمة الحرية وحق الاختلاف،ولا يخفي أن تبني هذه التربية الصوفية العسكرية كان له أسوأ الأثر في بعض مراحل الجماعة لا سيما بعد أن بلغ “الجهاز الخاص” مرحلة من القوة جعلت قيادته بكل ما منحته من حقوق أصلها الشيخ حسن البنا – كما أسلفنا – تنفرد باتخاذ القرار – وما كان أخطرها من قرارات – والأفراد أو لنقل الجنود، هؤلاء الجنود الذين تربوا علي السمع والطاعة بغير تردد ولا مراجعة كانوا سراع الاستجابة لأوامر القيادة حتي وإن كانت بقتل وحتي إذا كان المقتول هو أحد أفراد الإخوان كما في حادث مقتل المهندس سيد فايز وحتي وإن استنكر الشيخ البنا – حال حياته- هذه الأحداث فالأفراد قد تربوا علي الطاعة بغير مراجعة وهي تربية تمحق شخصية الفرد وتلغي ذاتيته ونعتقد أنها أبعد ما تكون عن التربية الإسلامية الصحيحة التي تغرس في النفوس أن العصمة للوحي فحسب وأن مراجعة القائد قد لا تقف عند حد المباح لكنها ترتفع لتبلغ درجة الواجب.
إن هذا النمط من أنماط التربية والذي ساد –للأسف- شتي التجمعات الإسلامية قد جرَ علي الظاهرة الإسلامية ويلات كثيرة وحمَلها متاعب جمة بل ولعله تسبب في تأخر تقدم مسيرة الحركة الإسلامية المعاصرة والتي كان المرجو فيها أن تعالج الأمراض التي فتكت بالعقلية الإسلامية قروناً عديدة والأفكار التي ما فتأت تؤصل معاني التقليد والطاعة المطلقة للحاكم وللشيخ وللمجتهد فتجمد العقل المسلم بعد أن ذهب وهج إبداعه وعطائه في قرونه الأولي لأن العقلية التي لا تحسن إلا الطاعة والانقياد وتفتقد معاني الحرية والمحاورة هي أبعد ما تكون عن القدرة علي الإبداع والابتكار والتجديد، ونحن أبناء رسالة سبب خلودها ما منحه الله لها –في صورة علمائها- من حق الاجتهاد والتجديد في الشريعة الغرَاء.
وهذه العقليات والشخصيات التي تأصلت فيها معاني التبعية والانقياد ستكون بالطبع عاجزة عن إحداث التغيير الذي تنشده الأمة وتنشده أيضاً الحركة الإسلامية ممثلة في جماعاتها العاملة في الساحة.
ولعله مما لم تدركه الحركة بشكل صحيح إن استلاب شخصيات الأفراد يتناقض تماماً مع ما تزعمه من كون رسالتها إحياء الأمة وإنهاضها وبث روح العزة والكرامة فيها.
لا نري اختلافاً يذكر بين طاعة الحاكم هذه الطاعة المطلقة وبين طاعة أمير جماعة أو مسئول تنظيم بغير مراجعة ولا تردد؛ إن المنطق واحد في الأمرين وهو الثقة المطلقة في هذا المسؤل والتي يترتب عليها شئنا أو أبينا أن الفرد سيجمد عقله ويريحه من التفكير ولماذا التفكير والجهد وهناك من هو أكثر منه علماً وفهماً وإدراكاً وهو يقوم عنه بهذه المهمة وليس من باب الثقة الاعتراض عليه ومراجعته كثيراً أو قليلاً.
وانظر في سؤال يوجهه الشيخ البنا رحمه الله للفرد يختبر به مدي ثقته بقائده فيقول إن الأخ الصادق يجب أن يسأل نفسه هذه الأسئلة ليتعرف مدي ثقته بقيادته، ومن هذه الأسئلة:
- هل هو مستعد لاعتبار الأوامر التي تصدر إليه من القيادة –في غير معصية طبعاً- قاطعة لا مجال فيها للجدل ولا للتردد ولا للانتقاص ولا للتحوير؟ (ص364)
وأحسب أن الجملة الاعتراضية “في غير معصيةً” سوف تتضاءل مع هذا المنطق الذي يفترض في القيادة الكفاية المطلقة والإخلاص فهل سيظن أن قيادة كهذه يمكن ان تأمر بمعصية؟! والذي رأيناه عملياً أن الأفراد عندما أمروا بسفك دماء استجابوا ولا أدري هل اعتبروا ذلك معصية أم لا؟
ولكن الذي أتيقن منه أن منطق التربية هذا كان ولا بد أن يثمر هذه النتائج.
لست بهذا أقصد تحميل الإخوان كل ما ارتكبته الحركة الإسلامية من خطايا ولكن لا شك أن جماعة الإخوان بما لها من أسبقية تاريخية وثقل دعوي وجماهيري أصلت كثيراً من المفاهيم التي أخذت منها الجماعات بعد ذلك وسارت علي دربها. وإن كان الأمر في حقيقته يتصل بخلل في تركيب العقلية المسلمة منذ قرون لا يتحمل الإخوان أو غيرهم وزره، وإن كنا جميعاً نشارك في تحمل إثم عدم تصحيح ما اعتري العقل المسلم من كبوات وقعد به عن رسالته الحقيقية في الاجتهاد والتجديد في حدود ما شرعه الله ووضعه من ضوابط وأصول وثوابت. ولكن تبقي الحركة الإسلامية بجماعاتها التي تحتوي عدداً هائلاً من الشباب المسلم المتحمس عليها مسئولية كبيرة تتمثل في إعادة النظر في قيمها التربوية التي تؤصلها في نفوس أفرادها وتكون عليها شخصياتهم ومفاهيمها التربوية كالطاعة والجندية وغيرها من المفاهيم التي تؤثر أكبر الأثر في تكوين العقليات الألية الجامدة البعيدة كل البعد عن روح الحرية والتجديد والإبداع؛ وإلا فإن الدعوة التي تتبناها الحركة لتغيير المجتمعات والأنظمة ستكون كلاماً في الهواء لأن الإنسان المؤهل للتغيير لم يخرج بعد للوجود ولم تشارك الحركة في إخراجه وليس هناك فرق يذكر بين استبداد الحاكم واستبداد أمير جماعة، فروح الاستبداد وقهر الأشخاص واحدة أيا كانت الأسماء التي تندرج تحتها واللافتات التي تعلق فوقها.
إن العقل المسلم ليس في حاجة إلي من يذكره بوجوب الطاعة لأولي الأمر بعد أن عاش قروناً طويلة لا يحسن غيرها وإنما هو في حاجة إلي من يطرق عليه بمطرقة من حديد ساخنة ليذكره بأنه إنسان لأنه حر مختار وهذا هو سر تميزه ومناط تكليفه.
وما لم تركز الحركة الإسلامية في منظومتها الفكرية والتربوية علي هذه القضية الكلية التي جاء بها الإسلام فلن نستطيع بحال من الأحوال أن نخرج هذه الشعوب من حالة العبودية والاستذلال التي نعيشها منذ قرون.إن الاستعمار -كما يقول مالك بن نبي- هو حالة عقلية تعيشها الأمة قبل أن يكون جيوشاً تحط بأرضها. ولا بد من أن نتخلص من هذه القابلية للاستذلال والاستعباد والقهر وهذا لن يكون أبداً بأن نستبدل بديكتاتورية حاكم ديكتاتورية أمير جماعة أو بطغيان أنظمة علمانية طغيان أنظمة أخري تنتسب إلي الإسلام.
هذا تحدَ كبير يواجه الحركة ولا مناص من مواجهته وإعادة تقييم جميع المناهج والبرامج والنظم التربوية في ضوء فلسفة تربوية جديدة تقدم الإنسان علي ما عداه وتعلي قيمة الحرية والمحاورة وحق الاختلاف علي الطاعة والجندية والثقة. هذا في تقييمنا المتواضع موطن الداء ومنبع الدواء.
الفهارس:
- أبو داوود وابن ماجة والترمذي
- أخرجه البزار بلفظ مقارب بإسناد فيه جهالة عن أبي عبيدة بن الجراح.
- الغزالي: إحياء علوم الدين،ج2 ص 302، القاهرة: عيسي الحلبي د.ت
- آل عمران: آية رقم 104
- قال العراقي:رواه البزار عن حديث عمر بن الخطاب؛ الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة وكلاهما ضعيف وللترمذي من حديث حذيفة نحوه إلا انه قال أو ليوشكن الله يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجيب لكم؛ قال هذا حديث حسن.
- ابن قيم الجوزية: إعلام الموقعين عن رب العالمين، ج3ص4، القاهرة: مكتبة عبد السلام بن محمد بن شقرون، 1388ه- 1968م
(7) الغزالي: إحياء علوم الدين ج2 ص 320
(8) عوض محمد عوض: موجب الحسبة في الفقه الشرعي، مجلة المسلم المعاصر عدد 51،52 س 13 ص26
(9) عوض محمد عوض المرجع السابق ص 35
(10) أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين ج2 ص 320
(11) عوض محمد: موجب الحسبة في الفقه الشرعي ص 38
(12) الغزالي: إحياء علوم الدين ص 320 ج2
(13) الغزالي: إحياء علوم الدين ج2 ص 321
(14) ابن القيم: إعلام الموقعين ج3 ص4
(15) ابن القيم: المرجع السابق ص 4 و5 ج3
(16) الغزالي: إحياء علوم الدين ج2 ص309
(17) المرجع السابق ج2 ص316
(18) رواه البخاري مختصراً في كتاب الأدب، باب الرفق في الأمر كله.
(19) محمود توفيق محمد سعيد: فقه تغيير المنكر،كتاب الأمة ع41 ص74 ط1 1415ه
(20) الغزالي: إحياء علوم الدين ج2 ص 316
(21) الحديث رواه أحمد بسند جيد قاله العراقي في تخريج أحاديث الإحياء.
(22) الغزالي إحياء علوم الدين الجزء الثاتي ص 330
(23) المصدر السابق ج2 ص 314
(24) المصدر السابق ج2 ص 314
(25) ابن رجب الحنبلي جامع العلوم والحكم ص 434
(26) محمد توفيق سعيد فقه تغيير المنكر
(27) محمد توفيق سعيد فقه تغيير المنكر
(28) غياث الأمم ص 77
(29) المرجع السابق ص 79
(30) ابن حزم ج4 ص 132
(31) السابق ص 135
(32) السابق ص 135
* أي إن كان أخذ ماله و ضرب ظهره بحق لاستحقاقه هذه العقوبة
(33) ابن حزم السابق ص 133
(34) السابق ص 133.
(35) ولكن الشاهد ليس في الأية بل في أن النبي صلي الله عليه وسلم في حديث أبي داوود عن سعد بمن أبي وقاص قال: قلت يا رسول الله أرأيت إن دخل علي بيتي وبسط يده ليقتلني؟ قال: فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: كن كابن آدم وتلي يزيد “لئن بسطت إلي يدك..الأية” سنن أبي داوود حديث رقم 4257
(36) ابن حزم السابق ص 133، 134
(37) الجصاص أحكام القرآن القاهرة المطبعة البهية 1947 ج1 ص 81 وانظر نيفين عبد الخالق ص 391.