تدبر القرآن .. أسسه وضوابطه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
مقدمة وتمهيد
فهذه كلمات كتبتها في (أسس تدبر القرآن وضوابطه) أرى أن الحاجة داعية إليها؛ لأن الناس في هذا الباب بين مفْرط ومفرِّط؛ وكلا طرفي قصد الأمور ذميم؛ فالمتأمل في أحوال الناس يجد أن أغلب المسلمين الطيبين ـ اليوم ـ لا همَّ لهم إلا حفظ القرآن واستظهاره، ومن أجل ذلك تُرصَد الجوائز وتقام المسابقات ويتفرغ الطلاب، لكن المتدبرين لمعاني القرآن والمشتغلين بتفسيره ما أقلَّهم وما أندرهم!! ولو سألت أغلب الحفاظ عن معاني الكلمات التي حفظوها ـ صغاراً ـ لم يحر الواحد منهم جواباً!! وجرِّب تعرف، سل الواحد منهم عن معنى {الله الصمد} أو ماذا يفهم من قوله تعالى {ومن شر غاسق إذا وقب} ولا تستغرب إذا رأيت الجهل في الناس فاشياَ، وهدي القرآن عنهم غائبا. قال الحسن البصري: (والله! ما تدبُّره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن أحدهم ليقول: قرأت القرآن كله، ما يُرى له القرآنُ في خُلُق ولا عمل)
وذكر ابن عبد البر عن علي رضي الله عنه قوله: (أعزم على كل من كان عنده كتاب إلاّ رجع فمحاه؛ فإنما هلك الناس حيث يتبعون أحاديث علمائهم وتركوا كتاب ربهم) وذكر عن عمر رضي الله عنه (أن قوماً كانوا يكتبون كتباً فأكبوا عليها وتركوا كتاب ربهم) نقل ابن القيم عن الإمام البخاري قوله: (كان الصحابة إذا جلسوا يتذاكرون كتاب ربهم وسنةَ نبيهم، ولم يكن بينهم رأي ولا قياس، ولم يكن الأمر بينهم كما هو في المتأخرين: قوم يقرؤون القرآن ولا يفهمونه، وآخرون يتفقهون في كلام غيرهم ويدرسونه، وآخرون يشتغلون في علوم أخرى وصنعة اصطلاحية، بل كان القرآن عندهم هو العلم الذي به يعتنون حفظاً وفهماً وتفقهاً)
وفي مقابل هؤلاء تجد آخرين يخوضون في القرآن بغير زمام ولا خطام، حتى ربما تبلغ الجرأة ببعضهم أن يدوِّن هرطقات وأباطيل بدعوى أنه يتدبر القرآن وقد توصل إلى ما لم يتوصل إليه الأولون!! حتى رأينا من ذلك العجب العاجب، وإلى الله المشتكى.
أولاً: معنى التدبر في اللغة والشرع
التدبر في اللغة: هو النظر في عاقبة الأمر والتفكر فيه، وتَدَبُّر الكلام: النظر في أوله وآخره، ثم إعادة النظر مرة بعد مرة، وقيل: هو مشتق من النظر في أدبار الأمور، وهي أواخرها وعواقبها؛ قال تعالى {أفلم يدَّبروا القول}
وفي الشرع: هو تفهم معاني ألفاظ القرآن، والتفكر فيما تدل عليه آياته مطابقة، وما دخل في ضمنها، وما لا تتم تلك المعاني إلا به، مما لم يعرج اللفظ على ذكره من الإشارات والتنبيهات
ويستفاد من كلام العلماء في معنى التدبر أنه يشمل أموراً منها: معرفة معاني الألفاظ وما يراد بها، وتأمل ما تدل عليه الآية أو الآيات مما يفهم من السياق أو تركيب الجمل، واعتبار العقل بحججه وتحرك القلب ببشائره وزواجره، والخضوع لأوامره واليقين بأخباره
ثانياً: النصوص الآمرة بتدبر القرآن
قد أمر ربنا في كتابه الكريم عباده المؤمنين بأن يتدبروا القرآن، وأن يتأملوا في مواعظه، ويتعرفوا على أحكامه وحكمه؛ بحسبان أن ذلك هو الطريق لبيان مقاصد القرآن وغاياته، وفهم أحكامه ومآلاته، وقد بيَّن سبحانه أن هذا الأمر ميسَّر لكل أحد، لما جعل الله في القرآن من السهولة واليسر ووضوح المعاني؛ كما قال سبحانه {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدَّكِر} قال الطبري رحمه الله في تفسيرها: ولقد يسرنا القرآن، بيَّناه وفصَّلناه للذكر لمن أراد أن يتذكر ويعتبر ويتعظ، وهوَّناه.. فهل من معتبر متعظ يتذكر بما فيه من العبر والذكر؟ وقال النووي رحمه الله تعالى: فإذا شرع في القراءة فليكن شأنه الخشوع والتدبر عند القراءة، والدلائل عليه أكثر من أن تحصر، وأشهر وأظهر من أن تذكر، فهو المقصود المطلوب، وبه تنشرح الصدور، وتستنير القلوب، قال الله عز وجل {أفلا يتدبرون القرآن} وقد أثنى جل جلاله على صنف من الناس كانت حالهم عند تلاوة القرآن أنهم {إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون} وقال سبحانه {الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد}
ومما يدفع المسلم للاجتهاد في هذا الباب أنه قد استقر عند المسلمين أن القرآن لا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه، فليس دقائق التفسير قاصرة على من مضى من العلماء الأولين، بل الله تعالى يفتح على من شاء من عباده بما شاء من المعاني؛ كما أشار إلى ذلك السيد الجليل علي بن أبي طالب حين قال {إلا فهماً يؤتيه الله رجلاً في كتابه} فالقرآن متجدد المعاني، وفضل الله واسع، ولعل المتأمل فيما كتبه بعض المعاصرين كالعلامة المحقق محمد الطاهر بن عاشور، والعلامة الأصولي الفقيه محمد الأمين الشنقيطي والأستاذ الأديب سيد قطب رحمهم الله جميعاً يجد مصداق ما أقول، بل إن المستمع ـ شفاهة ـ لخواطر الشيخ الشعراوي رحمه الله تعالى يجد ذلك جلياً
ومن النصوص القرآنية والنبوية الآمرة بالتدبر:
- قوله تعالى {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا}
- قوله تعالى {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب}
- قوله تعالى {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها}
- قال تعالى {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به} روى ابن كثير عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (والذي نفسي بيده! إن حق تلاوته أن يحل حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله الله) وقال الشوكاني: (يتلونه: يعملون بما فيه) ولا يكون العمل به إلا بعد العلم والتدبر.ا.هـــــــ فالتلاوة لها معنيان:
- أحدهما: القراءة المرتلة المتتابعة، وقد أمر الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وأمرت أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن} وكان يتلوه على كفار قريش قال تعالى {قل لو شاء الله ما تلوته عليكم}
- والثاني: الاتباع؛ لأن من اتبع غيره يقال تلاه؛ ومنه قوله تعالى {والقمر إذا تلاها} روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: (يتبعونه حق اتباعه)، ثم قرأ {والقمر إذا تلاها} أي: اتبعها
- قال تعالى {ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون} قال الشوكاني: (وقيل: (الأماني: التلاوة) أي: لا علم لهم إلا مجرد التلاوة دون تفهم وتدبر)، وقال ابن القيم: (ذم الله المحرفين لكتابه والأميين الذين لا يعلمون منه إلا مجرد التلاوة وهي الأماني)
- قال الله تعالى {وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا} قال ابن كثير: (وترك تدبره وتفهمه من هجرانه) وقال ابن القيم: (هجر القرآن أنواع … الرابع: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه)
- حديث حذيفة رضي الله عنه قال (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة فقرأها، ثم النساء فقرأها، ثم آل عمران فقرأها، يقرأ مسترسلاً إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ) رواه مسلم
- حديث عوف بن مالك رضي الله عنه قال (قمت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فقام فقرأ سورة البقرة، لا يمر بآية رحمة إلا وقف وسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف وتعوذ)
- حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم الرحمة وغشيتهم السكينة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده( رواه مسلم
- روى الطبراني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (سيخرج أقوام من أمتي يشربون القرآن كشربهم اللبن) قال المناوي في فيض القدير: أي يسلقونه بألسنتهم من غير تدبر لمعانيه، ولا تأمل في أحكامه، بل يمر على ألسنتهم كما يمر اللبن المشروب عليها بسرعة.ا.هـ
- سأل أبو جحيفة علياً فقال له: هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ قال: (والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أعلمه؛ إلا فهماً يعطيه الله رجلاً في القرآن، وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير وألا يقتل مسلم بكافر) رواه البخاري
- وفي الموطأ عن أنس بن مالك رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس صلاة يجهر فيها فأسقط آية فقال: يا فلان! هل أسقطت في هذه السورة من شيء؟ قال: لا أدري. ثم سأل آخر واثنين وثلاثة كلهم يقول: لا أدري، حتى قال: ما بال أقوام يتلى عليهم كتاب الله فما يدرون ما تلي منه مما ترك؟ هكذا خرجت عظمة الله من قلوب بني إسرائيل فشهدت أبدانهم وغابت قلوبهم؛ ولا يقبل الله من عبد حتى يشهد بقلبه مع بدنه)
ثالثاً: هدي النبي صلى الله عليه وسلم والسلف رضي الله عنهم في تدبر القرآن
- في الالتزام بالأمر حديث عائشة رضي الله عنها قالت (ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة بعد أن نزلت عليه {إذا جاء نصر الله والفتح} إلا يقول فيها: سبحانك ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي)
- في تذكُّر الآية عند مقتضاها روى أبو هريرة رضي الله عنه قصة مجيء النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما إلى بستان أبي الهيثم بن التيهان رضي الله عنه وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر (والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم) وتلا {ثم لتسألن يومئذ عن النعيم}
- في اتباع أحسن الحديث ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه في نزول قوله تعالى {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} وقيام أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه وتصدقه ببيرحاء كانت أحب ماله إليه
- في المسارعة إلى تنفيذ الأمر ما روته أمنا عائشة رضي الله عنها في نزول قوله تعالى {ألا تحبون أن يغفر الله لكم} وقول أبي بكر رضي الله عنه (بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي)
- في تأمل موضوع السورة ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما في قصة دخوله مع أشياخ بدر وسؤال عمر رضي الله عنه إياه عن قوله تعالى {إذا جاء نصر الله والفتح} وجواب ابن عباس
- في وصف الله بمقتضى الآية قالت عائشة بعد أن سمعت قوله تعالى {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما} سبحان من وسع سمعه الأصوات؛ لقد جاءت المجادلة تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول.
- في الخوف من العقوبة روى عكرمة رحمه الله قال: جئت ابن عباس رضي الله عنهما وهو يبكي، وإذا المصحف بين يديه في حجره فأعظمت أن أدنو منه، ثم لم أزل على ذلك حتى تقدمت فجلست بين يديه فقلت: ما يبكيك يا ابن عباس؟ جعلني الله فداك! قال: هؤلاء الورقات. وإذا هو في سورة الأعراف.. وذكر له أصحاب السبت ثم قرأ ابن عباس {فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون} قال: فأرى الذين نَهَوْا قد نَجَوْا، ولا أرى الآخرين ذُكروا، ونحن نرى أشياء ننكرها ولا نقول فيها. قال: قلت: جعلني الله فداك! ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه وخالفوهم وقالوا {لم تعظون قوماً الله مهلكهم} قال: فأمر لي فكسيت ثوبين غليظين
- في السؤال عن معنى الآية قال ابن عباس: قال عمر بن الخطاب: قرأت الليلة آية أسهرتني {أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب} ما عني؟ فقال بعض القوم: الله أعلم. فقال: إني أعلم أن الله أعلم، ولكن إنما سألت إن كان عند أحد منكم علم وسمع فيها بشيء أن يخبر بما سمع. فسكتوا؛ فرآني أهمس، قال: قل يا ابن أخي، ولا تحقر نفسك. قلت: عني بها العمل. فتركني وأقبل وهو يفسرها ويقول: صدقت يا ابن أخي، عنى بها العمل، ابن آدم أفقر ما يكون إلى جنته إذا كبر سنه، وكثر عياله، وابن آدم أفقر ما يكون إلى عمله يوم القيامة، صدقت يا ابن أخي.
- روى مالك عن نافع عن ابن عمر قال: (تعلم عمر البقرة في اثنتي عشرة سنة، فلما ختمها نحر جزوراً) وطول المدة ليس عجزاً من عمر ولا انشغالاً عن القرآن؛ فما بقي إلا أنه التدبر.
- عن ابن عباس قال: (قدم على عمر رجل فجعل عمر يسأل عن الناس فقال: يا أمير المؤمنين! قد قرأ القرآن منهم كذا وكذا، فقلت: والله ما أحب أن يسارعوا يومهم هذا في القرآن هذه المسارعة. قال: فزبرني عمر، ثم قال: مه! فانطلقت لمنزلي حزيناً فجاءني، فقال: ما الذي كرهت مما قال الرجل آنفاً؟ قلت: متى ما يسارعوا هذه المسارعة يحتقوا – يختصموا: كلٌ يقول الحق عندي – ومتى يحتقوا يختصموا، ومتى اختصموا يختلفوا، ومتى ما يختلفوا يقتتلوا، فقال عمر: لله أبوك! لقد كنت أكتمها الناس حتى جئت بها)، وقد وقع ما خشي منه عمر وابن عباس رضي الله عنهما فخرجت الخوارج الذين يقرؤون القرآن؛ لكنه لا يجاوز تراقيهم.
- عن ابن عمر رضي الله عنه قال: (كان الفاضل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة ونحوها ورزقوا العمل بالقرآن، وإن آخر هذه الأمة يقرؤون القرآن، منهم الصبي والأعمى ولا يرزقون العمل به. وفي هذا المعنى قال ابن مسعود: إنا صعب علينا حفظ ألفاظ القرآن، وسهل علينا العمل به، وإن مَنْ بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن ويصعب عليهم العمل به)
- قال الحسن أيضاً: (نزل القرآن ليُتَدَبَّر ويعمل به؛ فاتخذوا تلاوته عملاً) أي أن عمل الناس أصبح تلاوة القرآن فقط بلا تدبر ولا عمل به.
- كان شعبة بن الحجاج بن الورد يقول لأصحاب الحديث: (يا قوم! إنكم كلما تقدمتم في الحديث تأخرتم في القرآن) وفي هذا تنبيه لمن شغلته دراسة أسانيد الحديث ومسائل الفقه عن القرآن وتدبره أنه قد فقد توازنه واختل ميزانه.
- عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: (لأن أقرأ في ليلتي حتى أصبح بـ (إذا زلزلت) و (القارعة) لا أزيد عليهما أحب إليَّ من أن أهذَّ القرآن ليلتي هذّاً. أو قال: أنثره نثراً)
رابعاً: الأسباب المعينة على التدبر
- الإكثار من تلاوة القرآن؛ لأن من أدام طرق الباب فتح له، وكما قيل: أعط للعلم كلك يعطك بعضه
- الإخلاص لله تعالى عند تلاوة القرآن؛ فلا يقرأ رياء ولا سمعة ولا طلباً للأجر الدنيوي من الناس
- فراغ القلب عن شواغل الدنيا؛ لأن ذلك أدعى لتحصيل الغرض المراد
- البعد عن الذنوب والمعاصي؛ لأن للذنوب تأثيراً في حجب القلب عن الاستنارة بنور القرآن، وهذا من شؤم المعصية
- محاولة البكاء عند تلاوته، أو التباكي؛ لما رواه ابن ماجه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (إن هذا القرآن نزل بحزن؛ فإذا قرأتموه فابكوا؛ فإن لم تبكوا فتباكوا)
- تحري الأوقات التي يكون القلب فيها بعيداً عن الشواغل وأقرب إلى الخشوع؛ خاصة في جوف الليل وبعد صلاة الفجر {إن قرآن الفجر كان مشهودا}
- تأمل الأوامر والنواهي واعتقاد قبولها، وأن الله تعالى يخاطب بها القارئ قبل غيره؛ كما قال بعض السلف: من أراد أن يكلِّمه الله فليقرأ القرآن
- تحصيل الآداب المطلوبة عند التلاوة من الطهارة الظاهرة والباطنة، وأن يستقبل القبلة إن أمكنه ذلك بغير مشقة والسواك، وأن يقبل على القرآن بقلبه
- أن يكون عاملاً بالقرآن، وقافاً عند حدوده، منفذاً لأوامره، متخلقاً بأخلاقه
خامساً: قواعد مهمة تساعد على تدبر القرآن
- معرفة لغة العرب وأساليبهم البيانية؛ فمن لا يعرف لغة العرب لا يستطيع إدراك الفرق بين قوله تعالى {إياك نعبد} وبين قول القائل: نعبدك، أو نعبد إياك، ولا يفهم قوله تعالى {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسورا}
- دراسة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لكونه الترجمان الحقيقي للقرآن؛ حيث كان خلقه القرآن، وكان هو المفسِّرَ الأول للقرآن
- معرفة أسباب النزول؛ لأن آيات كثيرة قد ارتبط نزولها بمناسبات ووقائع معيَّنة، فالقارئ لكتاب الله قد لا يفهم معنى قوله تعالى {الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات} إلا إذا عرف سبب النزول
- العلم برسوم القرآن، ومعرفة أحكام التجويد وعلامات الوقف وغيرها؛ لأن ذلك أدعى لفهم معاني القرآن، والوقوف على مراد الله تعالى منه
- الرجوع إلى كتب التفسير المعتمدة والاطلاع على أقوال أهل العلم في تفسير الآية
- العكوف على قراءة القرآن وتأمل معنى الآية مرة بعد مرة
- محاولة إنزال القرآن على الواقع؛ فلا يقرأ المسلم آية إلا وحاول ربطها بالواقع الذي يعيشه؛ ثقة منه بأن القرآن لم ينزل لزمان دون زمان، ولا لقوم دون آخرين
سادساً: محاذير في تدبر القرآن
على المسلم أن يحذر عند الحديث عن القرآن من القول على الله بغير علم، أو تحميل آيات القرآن ما لا تحتمل، بل لا بد أن يتحرى موافقة الدلالة اللغوية لما يقول به؛ لئلا يخالف الثابت من الوحي جرياً وراء نظرية علمية أو اكتشاف حديث، وقد قال سبحانه {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} وروى الترمذي والنسائي وأبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من قال في القرآن برأيه، أو بما لا يعلم؛ فليتبوأ مقعده من النار) قال ابن كثير رحمه الله: فقد أخطأ لأنه قد تكلف ما لا علم له به، وسلك غير ما أمر به، فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر لكان قد أخطأ؛ لأنه لم يأت الأمر من بابه، كمن حكم بين الناس على جهل فهو في النار، وإن وافق حكمه الصواب في نفس الأمر، لكن يكون أخف جرماً ممن أخطأ، والله أعلم، وهكذا سمى الله القَذَفة كاذبين، فقال {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} فالقاذف كاذب، ولو كان قد قذف من زنى في نفس الأمر؛ لأنه أخبر بما لا يحل له الإخبار به، ولو كان أخبر بما يعلم؛ لأنه تكلف ما لا علم له به، والله أعلم.
ولهذا تَحَرَّج جماعة من السلف عن تفسير ما لا علم لهم به، كما روى شعبة، عن سليمان، عن عبد الله بن مرة، عن أبي مَعْمَر، قال: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه (أيّ أرض تقلّني وأي سماء تظلني؟ إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم)