قضايا معاصرة

إضراب الأطباء

ما هو رأي الشرع في إضراب الطبيب عن العمل، وخاصة من تغطية الطوارئ في ظل الظروف الراهنة؟ أفيدونا جزاكم الله خير

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.

فإنه يحسن بي قبل الإجابة المباشرة عن هذا السؤال أن أشير إلى أن العلاقة بين الحاكم والمحكوم في ظل شريعة الإسلام تميِّزها الثقة التامة مع النقد الصادق وبذل النصيحة وأداء الحقوق، فليست العلاقة بينهما قائمة على تربص كل طرف بالآخر وتسقُّط هفواته وتتبُّع عثراته والتشنيع عليه في كل واد، والتشكيك في كل تصرف يصدر عنه، وقد قرر أهل العلم في قواعد الفقه المعتبرة أنَّ تصرف الإمام في الرعية منوط بالمصلحة، وأنه يتخذ من التدابير ــ عند الحاجة ــ ما يحقق سعادة الأمة بشرطين:

أ ــ ألا يخالف نصاً صريحاً ورد في القرآن والسنة والإجماع.

ب ــ أن تتفق تلك التدابير مع روح الشريعة ومقاصدها العامة، بالحفاظ على الأصول الكلية الخمسة، وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال، وتوابعها

وبخصوص الحقوق التي تنبغي للعمال ـ أطباء وغيرهم ـ فإن شريعة الإسلام قد فرضت الكفاية لكل عامل في مرفق من مرافق الدولة الإسلامية؛ وأقل الكفاية ما يصون به وجهه عن سؤال الناس من قوت يسد جوعته، ولباس يستر عورته، مع توفير فرص العمل للقادرين عليه، وأن تتكافأ الأجور مع العمل المبذول والإنتاج الحاصل من الفرد، حسب طبيعة العمل ونوعه، فليس من العدل أن تتمتع فئة بكل شيء لكون أفرادها قد تقلدوا مناصب معينة، كأن يكونوا وزراء أو سفراء أو مديري بنوك مثلاً، بينما تُحرم قطاعات أخرى لا يقل نفعها عن أولئك، بل قد يكون نفعها أعظم وفائدتها أجل كالأطباء وجنود وضباط الجيش ومعلمي المدارس والجامعات.

وكان أول ما قررته الشريعة في هذا الباب أن للمسئول حقاً في أن يأخذ من بيت مال المسلمين ما يحقق كفايته، ويصون وجهه عن السؤال، ويكف يده عن الحرام، فروى المستورد بن شداد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من كان لنا عاملاً فليكتسب زوجة، فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادماً، فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكناً}. قال أبو بكر رضي الله عنه: أُخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال {من اتخذ غير ذلك فهو غالٌّ أو سارق}. وهذه التدابير إنما جعلت من أجل أن يتفرغ العامل للقيام بالمهام الموكلة إليه والتعامل مع الناس وهو خالي الذهن من كل شاغل يمنعه من أداء عمله على الوجه الأتم الأكمل، ثم بعد ذلك إذا حصل منه تقصير أو إهمال فإنه يحاسب ويؤاخذ.

والإضراب ـ بوجه عام ـ صورة من صور التعبير عن الاحتجاج قد تواطأ أهل عصرنا على التعامل به، مثلما يعبرون بالمظاهرات أحياناً، وبالمقالات أحياناً أخرى، وبغير ذلك من الوسائل التي هي من قبيل المصالح المرسلة التي لم تأت الشريعة بإعمالها ولا إهمالها؛ شريطة ألا يترتب عليها ضرر يؤثر على الضرورات التي جاءت الشريعة آمرة بالمحافظة عليها وعدم الإخلال بها وهي الدين والنفس والعرض والعقل والمال.

وقد ذكروا في ترجمة مالك بن أنس إمام دار الهجرة ـ رحمه الله تعالى ـ أنه أضرب عن التدريس؛ حين قتل شاب فاسق أخاه فحكم عليه بالقتل؛ فجاء والداه إلى الحاكم وطلبا ألا ينفذ الحكم لئلا يفقدا ولديهما في زمان متقارب؛ فأراد الحاكم أن يعفو، لكن مالكاً رحمه الله أبى إلا إنفاذ الحكم؛ لأن القتل كان غيلة، فتعلق به حق عام، ولم يعد حقاً يخص الوالدين وحدهما؛ ولما وجد من الحاكم تلكؤاً توقف عن التدريس حتى ينفَّذ الحكم وقد كان له ما أراد.

وأما بخصوص الأطباء فإن الحكم الذي يسري على غيرهم هو في حقهم كذلك؛ فيجوز لهم أن يضربوا إذا تعيَّن الإضراب سبيلاً وحيداً للوصول إلى الحقوق أو رد المظالم؛ لكن مع ذلك ينبغي لهم النظر بعين المصالح والمفاسد والجواب على عدة أسئلة قبل الشروع في الإضراب: هل السبل الموصلة إلى نيل الحقوق كلها قد سُدَّت ولم يبق من سبيل إلا الإضراب؟ ما هي الأضرار الناجمة عن إضرابهم؟ أعني إزهاق الأرواح وإتلاف الأنفس وغير ذلك من الأضرار التي تعارض غرض الشرع في الحفاظ على الأنفس. ثم الأضرار المعنوية الناتجة من تشويه سمعة الأطباء وتلطيخ سيرتهم لدى عامة الناس؛ حين يُصَوَّرون على أنهم أحلاس دنيا وطُلاب وليسوا حملة رسالة وأصحاب أهداف مثلى.

والنصيحة التي يجب توجيهها في هذا المقام إلى من بسط الله يده من أولي الأمر أن يتقوا الله في الأطباء وأن يوصلوا إليهم حقوقهم كاملة؛ لأنه ـ كما قيل ـ إن المعلم والطبيب كلاهما لا ينصحان إذا هما لم يُكرما؛ خاصة وأن عملهم يحوي كثيراً من المشاق والمخاطر من التعرض للعدوى وسهر الليالي وغير ذلك من أمور لا تخفى، تقتضي توفير الكفاف لهم؛ لئلا يكونوا عرضة للإذلال والمهانة، ولئلا تزول هيبة الطبيب ومكانته من نفوس الناس.

والنصيحة التي أوجهها للأطباء هو أن يخلصوا لله في عملهم، وأن يعلموا ـ يقيناً ـ أن في عملهم أجراً عظيماً وثواباً كبيرا ـ لمن ابتغى وجه الله ـ حين ينفسون الكروب ويزيلون الآلام ويفرجون الهموم، وعليهم الرضا بما يحصل من مكاسب مؤقتة ويواصلوا التفاوض عبر لجانهم ليصلوا إلى كامل حقوقهم، مستحضرين أن فئات أخرى لا تقل مهامها أهمية عن مهنة الطب يعانون من مثل ما يعانون، وما علينا إلا الصبر واليقين، والله لا يضيع أجر المحسنين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى