التهجد الجماعي في رمضان
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.
فقد وفق الله من شاء من عباده المسلمين لقيام ليالي رمضان من أولها؛ حيث درجوا على الاجتماع في صلاة التراويح بعد العشاء فيصلون ما كتب الله لهم أن يصلوا، ثم ينصرفون إلى بيوتهم ليرجعوا في آخر الليل للصلاة مرة أخرى مع إمامهم الأول أو مع غيره، وقد وجد من الناس من يقول بأن هذا العمل بدعة مقيتة وأن فاعليه داخلون فيمن قال الله فيهم {وجوه يومئذ خاشعة. عاملة ناصبة} وبياناً لهذا الأمر أقرر هذه المسائل:
أولها: أن الاجتهاد في قيام ليالي رمضان وتعمير أوقاتها بالصلاة والذكر والدعاء من أبرِّ البر وأعظم الخير، ويكفينا في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسـلم (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدَّم من ذنبه) وليس في ذلك حدٌّ محدود لا يُتَعَدَّى؛ لعموم قوله عليه الصلاة والسلام (صلاة الليل مثنى مثنى) وقد ثبت في موطأ مالك من رواية مجاهد بن جبر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جمع الناس في رمضان خلف أبي بن كعب رضي الله عنه فكان يصلي بهم عشرين ركعة ثم يوتر بثلاث. ومن كان يرى لزوم الاقتصار على إحدى عشرة ركعة فما ينبغي له النكير على من زاد {ولكل وجهة هو موليها} إذ الزائد على إحدى عشرة ركعة له سلف في أولئك الأخيار.
ثانيها: صلاة التهجد أفضل من مطلق القيام؛ وهي أفضل أنواع النوافل، وهي التي تكون بعد نوم؛ قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره: والتهجد التيقظ بعد رقدة، فصار اسماً للصلاة؛ لأنه ينتبه لها، فالتهجد القيام إلى الصلاة من النوم، قال معناه الأسود، وعلقمة، وعبد الرحمن بن الأسود، وغيرهم، وروى إسماعيل بن إسحاق القاضي من حديث الحجاج بن عمر صاحب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أيحسب أحدكم إذا قام من الليل كله أنه قد تهجد؟ إنما التهجد الصلاة بعد رقدة، ثم الصلاة بعد رقدة، ثم الصلاة بعد رقدة. كذلك كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم).ا.هــــــــــــــــــــــــ وقال ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في تفسيره: ويدخل فيه من نام ثم قام من نومه بالليل للتهجد، وهو أفضل أنواع التطوع بالصلاة مطلقًا.ا.هـــــــــــــــ
ثالثها: الصلاة في آخر الليل أفضل من الصلاة في أوله، لما ثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج ذات ليلة من رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلى الرجل لنفسه، ويصلى الرجل فيصلي بصلاته الرهط. فقال عمر: (والله إني لأراني لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل) فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرج ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة إمام واحد فقال عمر: (نعمت البدعة هذه، والتي تنامون عنها أفضل من التي تقومون. يعني آخر الليل) والشاهد من ذلك قوله (والتي تنامون عنها أفضل من التي تقومون) وقد نصَّ كثير من أهل العلم على أفضلية صلاة التهجد على غيرها، ومن هؤلاء الموفق ابن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى حيث قال في المغني: وأفضل التهجد جوف الليل الآخر؛ لما روى عمرو بن عبسة قال: قلت: يا رسول الله، أي الليل أسمع؟ قال: جوف الليل الآخر، فصلِّ ما شئت. رواه أبو داود. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصلاة صلاة داود؛ كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه) ومقتضى أفضلية الصلاة في جوف الليل أن ثوابها أكثر، وذلك لأن أجر العبادة -عموماً- يعظم ويضاعف بفضل وعظم الزمان والمكان، وقد نص بعض أهل العلم على أن أفضل أوقات تلاوة القرآن وقت الثلث الأخير من الليل.
رابعها: لا حرج في أن يجتمع الناس للصلاة جماعة بعد صلاة التراويح؛ وهو المعروف عند العلماء بالتعقيب؛ قال ابن قدامة رحمه الله تعالى في المغني: فأما التعقيب ـ وهو أن يصلي بعد التراويح نافلة أخرى جماعة، أو يصلي التراويح في جماعة أخرى ـ فعن أحمد أنه لا بأس به، لأن أنس بن مالك قال: (ما يرجعون إلا لخير يرجونه، أو لشر يحذرونه) ـ وكان لا يرى به بأسا، ونقل محمد بن الحكم عنه الكراهة إلا أنه قول قديم والعمل على ما رواه الجماعة، وقال أبو بكر: الصلاة إلى نصف الليل، أو إلى آخره لم تكره رواية واحدة.ا.هـــــــــــــــــــــــ
وفي فتح الباري لابن رجب: واختلفت الرواية عن أحمد في التعقيب في رمضان، وهو: أن يقوموا في جماعة في المسجد، ثم يخرجون منه، ثم يعودون إليه فيصلون جماعة في آخر الليل . وقال الثوري: التعقيب مُحْدَثٌ وأكثر الفقهاء على أنه لا يكره بحالٍ. ونقل ابن منصور عن إسحاق بن راهويه: أنه إن أتمَّ الإمام التراويح في أول الليل كُرِه له أن يصلي بهم في آخره جماعة أخرى، لما روي عن أنس وسعيد بن جبير من كراهته، وإن لم يتم بهم في أول الليل وأخَّر تمامها إلى آخر الليل لم يكره.ا.هـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خامسها: لا يشترط أن يكون قيام الليل في وقت واحد، بل يصح تقسيم القيام وتفريقه على الليل كله أو بعضه فيما بين صلاة العشاء وطلوع الفجر، فيكون بعض القيام في أوله وبعضه في وسطه أو آخره؛ يدل على ذلك ما رواه البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بتُّ في بيت خالتي ميمونة بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم عندها في ليلتها، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ثم جاء إلى منزله فصلى أربع ركعات ثم نام ثم قام ثم قال: (نام الغليِّم) أو كلمة تشبهها ثم قام فقمت عن يساره فجعلني عن يمينه فصلى خمس ركعات ثم صلى ركعتين ثم نام حتى سمعت غطيطه أو خطيطه ثم خرج إلى الصلاة( فالنبي صلى الله عليه وسـلم صلى أربع ركعات في أول الليل؛ ثم صلى خمساً بعد استيقاظه ثم صلى ركعتين، ثم عاد نائما.
وأخيراً: فليتقِ اللهَ ناسٌ ينهون عن المعروف ويبادرون إلى وصف ما لم يعرفوا بأنه بدعة، ويشددون النكير على ما لم يألفوه، وهم في ذلك لا يصدرون عن أثارة من علم أو هدى أو كتاب منير، بل غاية ما عندهم التعصب لرأي واحد دون اطلاع كافٍ على غيره، وقد سلم من ألسنتهم من عكفوا على الملاهي والمنكرات، وفي الوقت نفسه سلقوا المتهجدين والمتعبدين بألسنة حداد، أسأل الله تعالى أن يغفر للمسلمين والمسلمات، وأن يعينهم على اغتنام الأوقات في طاعة ربهم وأن يجعلنا جميعا متبعين لا مبتدعين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،،،،،
كتبه
عبد الحي يوسف
14/ رمضان/ 1439