إمام لا يدعو إلى التوحيد
جماعة دعوية في قريتنا أفتت بعدم جواز الصلاة خلف الإمام لأنه لا يدعو الناس إلى التوحيد، أي أن دروسه ونصائحه دائماً لا تكون عن التوحيد، ولكنها قد تكون في السيرة أو الوعظ بصورة عامة، وبنوا هذه الفتوى حسب استقصائي من أحدهم أنهم تحدثوا يوماً في المسجد عن التوحيد فمنعهم، وسألت الإمام فأجابني بأن منهجه هو منهج أهل السنة؛ ولكن هؤلاء الدعاة يقولون: لا بد من تبيين المبتدعين وأسمائهم وتتبع أخطائهم حتى الخفي منها، يطَّلعون عليها ممن حولهم من أهل القرية، فالسؤال فضيلة الشيخ: هل تجوز الصلاة خلف هذا الإمام علماً بأنه متصوف لكن ما علمنا منه انحرافاً عقدياً بيِّناً؟ وهل تصح الصلاة خلف أولئك القوم؟ علماً بأنهم اعتزلوا الجماعة وكوَّنوا جماعة في ديوان أحدهم بغية تصديقه مسجداً، وأصبحوا معزولين تماماً عن الناس حتى أنهم يتهمون كل السلفيين ممن خالفهم الرأي ورأى بعدم صحة ما ذهبوا إليه بأنهم إخوان مسلمون وحركة إسلامية متواطئين مع المتصوفة، وحاشا لله أن يكونوا كذلك مع علمي التام بهم. فرجاء فضيلة الشيخ عجل بالرد على تساؤلي هذا؛ لأننا في مفترق طرق والكل لا يعلم من الصائب؛ وقدِّم نصحاً للجميع؟ وجزاكم الله خيرا.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
فهذا السؤال يمثل قضية تتكرر في كثير من المساجد والمجتمعات، وفي الإجابة عليه لا بد من بيان أمور:
أولها: أن الصلاة أحسن ما عمل الناس، وهي جائزة خلف كل مسلم يحسنها، وقد توافرت فيه شروط الإمامة، وليس مطلوباً منا أن نبحث عن الكمال فيمن نصلي خلفه؛ إذ الكمال عزيز ولا يخلو إنسان من خطأ أو تقصير، وما يدعو إليه بعض الناس من امتحان الإمام في معتقده قبل الصلاة خلفه إنما هو صنيع المتنطعين ولم يقل به أحد من أئمة الدين المعتبرين. بل كما قال الطحاوي رحمه الله في معتقده: ونرى الصلاة خلف كل برٍّ وفاجر من أهل القبلة وعلى من مات منهم.ا.هـــــ قال الشيخ صالح آل الشيخ وفقه الله: هذه الجملة يريد بها تقرير ما دلَّتْ عليه الأدلة العامة والخاصة في أنَّ الصلاة عند أهل الأثر، أتباع الصحابة رضوان الله عليهم تُقَامُ خلف كل إمام؛ إمام عام وهو ولي الأمر أو إمام خاص وهو إمام المسجد ـ سواءٌ أكانَ براً أو كان فاجراً ـ إذا كان من أهل التوحيد؛ يعني من أهل القبلة. وهذا يريد به مخالفة من ضلُّوا عن سبيل السلف فيمن لم يُصَلُّوا إلا خَلْفَ من يماثلهم في العقيدة أو يماثلهم في العمل أو يكون سليماً من الفجور، يعني لا يصلون إلا خلف من يعلمون بِرَّهُ وتقواه ونحو ذلك. وهذا صنيع الخوارج وكل أنواع المُتعصِّبَة من الضُلاَّل من أهل الفرق جميعاً. فكل فرقة من الفِرَقْ تُكَفِّرْ الفرقة الأخرى أو تُضَلِّلُها ولا يرون الصلاة خلف الآخرين، ولو كانوا مبتدعةً أو كانوا فجاراً، فإنهم يقولون: لا نصلي إلا خلف من نعلم دينه أو خلف من هو مثلنا في الاعتقاد.ا.هـــــــــ
ثانيها: ما ينبغي للإنسان أن يحسن الظن بنفسه ويسيء الظن بالمسلمين؛ خاصة أئمتهم ودعاتهم وأهل العلم فيهم؛ بل عليه أن يتمثل دائماً قول الله تعالى {اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم} وقول النبي صلى الله عليه وسلم {إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث} وما يقع فيه بعض من يدعو إلى الله من الظن بنفسه خيراً وأنه داعية التوحيد وأسد السنة وقامع البدعة، وفي الوقت نفسه يظن بكثير من الدعاة ـ ممن ليسوا على مشربه ـ أنهم مداهنون في دين الله، ممتنعون عن الجهر بالحق إنما هو من تلبيس إبليس، ويخشى على هؤلاء أن يكونوا ممن قال الله فيهم {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا} بل على المسلم أن يسيء الظن بنفسه ويحسن الظن بالمسلمين؛ خاصة من كان أكبر منه سناً وأكثر علماً وأعظم سابقة.
ثالثها: اتهام فلان من الناس بأنه لا يتكلم في التوحيد هذه مرقاة للطعن في الدعاة، قد اتخذها بعض الناس سبيلاً للصد عن فلان وفلان من الناس، وما يدري هؤلاء أن الدين كله توحيد، وأن الداعية البصير قد يتناول التوحيد ويشرحه ـ ربما خيراً منهم ـ حين يتحدث عن السيرة أو التفسير أو الحديث أو الفقه، فالعلوم الإسلامية متضافرة يخدم بعضها بعضاً، وليس بالضرورة أن يكون عنوان الدرس (التوحيد) من أجل أن يكون توحيدا؛ فإن الله تعالى ما تعبدنا بالأسماء، والنظر الشرعي إنما يكون في المضامين لا العناوين، ثم إن هذا الداعية الذي رمي بأنه لا يتكلم في التوحيد قد يكون متكلماً فيه مراراً، بل قد ختم فيه متوناً، ولكن القوم يغلب عليهم سوء الظن والإعجاب بالرأي.
رابعها: بعضهم يفهم أن التوحيد معناه الاستطالة في أعراض المسلمين وتناول الأحياء منهم والميتين بأسلوب ساقط وقول شائن، ينفِّر القلوب ويورث العداوة والبغضاء، ويلبِّس عليه الشيطان بأن في هذا تحذيراً من البدع وأهلها، وقد علمنا من قطعيات الدين بأن الرفق لا يعدله شيء، وأن لين القول والمجادلة بالحسنى والدفع بالتي هي أحسن أمور مطلوبة مع الكافر الأصلي؛ فكيف بالمسلم الذي تلبَّس بشيء من البدع أو المعاصي؟ فكيف لو كانت تلك التي توصف بالبدع أموراً مختلفاً فيها وقد قال بها من أئمة العلم الأقدمين والمحدثين كثيرون؟ ألا فليعلم المنصفون أنه لا تلازم بين الدعوة إلى ما كان عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم من الهدى والنور وبين الوقوع في أعراض الناس، وهمزهم ولمزهم أحياء كانوا أو أمواتا. وهذا الإمام قد يكون منعه لهؤلاء الشباب من الحديث في المسجد لأنه أنس منهم خفة وطيشاً وإثارة للعداوة والبغضاء، وأدرك أنهم بأسلوبهم هذا لن يرشدوا غافلاً ولن يهدوا ضالاً، وأن مفسدة كلامهم تربو على مصلحته إن كان في كلامهم مصلحة.
خامسها: الانتماء إلى الإخوان المسلمين أو الحركة الإسلامية أو أنصار السنة أو جماعة التبليغ أو غيرها من الجماعات التي تدعو إلى الله ليس تهمة ننفر منها ونتبرأ من تبعاتها؛ بل نقول: إن من انتمى إلى هذه الجماعة أو تلك تعاوناً مع أفرادها على البر والتقوى، واستعصاماً بالجماعة التي تمنع الشذوذ في الفكر أو الضلال في الرأي، وطلباً للأصلح له في دينه ودنياه، ولم يكن تعصبه للجماعة وشيوخها، بل كانت حميته للدين وعموم المسلمين فهو مأجور إن شاء الله، مع يقيننا بأنه لا تسلم جماعة من خطأ أو تقصير، مثلما لا يسلم الدعاة والمربون والعلماء العاملون وعامة المسلمين، فإنه لا أحد معصوم بعد النبي الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فهؤلاء الذين يرفعون في وجوه من خالفوهم بأنهم إخوان أو كذا أو كذا ما ينبغي أن يُعوَّدوا على أنهم كلما أطلقوا هذه التهم سارع المتَّهَم بالتبرؤ والنفي، بل نقول لهم: إن الإخوان وغيرهم قد يكونون خيراً عند الله منكم؛ ورحم الله من عرف قدر نفسه، وطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس.
وأخيراً: الصلاة صحيحة وراء هذا الإمام المتهم، وكذلك وراء من خالفوه ونابذوه ونبزوه بتلك الألقاب السيئة، ويخشى عليهم من اعتزال الناس أن يكون ذلك باب ضلال يلجون منه إلى تكفير عموم المسلمين ممن يخالفونهم الرأي، وأسأل الله الهداية للجميع.