المعاملات المالية

حكم تأجير الأرض الزراعية مقابل المال

هل يجوز تأجير الأرض الزراعية بالنقود؟ لأن بعض الفقهاء قد أفتى بعدم جواز ذلك وفق ما نشر في بعض الصحف!!

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.

فإن للعلماء رحمهم الله في جواز تأجير الأرض الزراعية بالنقود مذهبين:

الأول: المنع من ذلك مطلقاً ـ وهو مذهب طاوس بن كيسان وطائفة قليلة ـ وذهب إليه ابن حزم وقواه واحتج له بالأحاديث المطلقة في ذلك، والتي اعتنى الإمام النووي رحمه الله بجمعها في شرحه لصحيح مسلم فقال رحمه الله: عن جابر قال {نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض} وفي رواية {من كانت له أرض فليزرعها فإن لم يستطع أن يزرعها وعجز عنها فليمنحها أخاه المسلم ولا يؤاجرها إياه} وفي رواية {من كانت له أرض فليزرعها أو ليُزرعها أخاه ولا يُكرها} وفي رواية {نهى عن المخابرة} وفي رواية {فليزرعها أو ليُزرعها أخاه ولا تبيعوها} وفسره الراوي بالكراء، وفي رواية {فليزرعها أو فليحرثها أخاه وإلا فليدعها} وفي رواية {كنا نأخذ الأرض بالثلث والربع بالماذيانات[1] فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فقال {من كانت له أرض فليزرعها فإن لم يزرعها فليمنحها أخاه فإن لم يمنحها أخاه فليمسكها} وفي رواية {من كانت له أرض فليهبها أو ليعرها} وفي رواية {نهى عن بيع أرض بيضاء سنتين أو ثلاثا} وفي رواية {نهى عن الحقول} وفسره جابر بكراء الأرض، ومثله من رواية أبي سعيد الخدري، وفي رواية ابن عمر {كنا نكري أرضنا ثم تركنا ذلك حين سمعنا حديث رافع بن خديج} وفي رواية عنه {كنا لا نرى بالخبر بأساً حتى كان عام أول فزعم رافع أن نبي الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه} وفي رواية عن نافع {أن ابن عمر كان يكري مزارعه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي إمارة أبي بكر وعمر وعثمان وصدراً من خلافة معاوية ثم بلغه آخر خلافة معاوية أن رافع بن خديج يحدِّث فيها بنهي عن النبي صلى الله عليه وسلم فدخل عليه وأنا معه فسأله فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن كراء المزارع؛ فتركها ابن عمر}

الثاني: الجواز مطلقاً وهو مذهب الجمهور ـ منهم الشافعي وأبو حنيفة وكثيرون ـ فقالوا: تجوز إجارتها بالذهب والفضة وبالطعام والثياب وسائر الأشياء سواء كان من جنس ما يزرع فيها أم من غيره ولكن لا تجوز إجارتها بجزء ما يخرج منها كالثلث والربع وهي المخابرة، وقد استدل أصحاب هذا المذهب بأدلة منها:

  1. ما رواه مسلم في صحيحه عن حنظلة بن قيس قال: سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والورق؟ فقال {لا بأس به؛ إنما كان الناس يؤاجرون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بما على الماذيانات وأقبال[2] الجداول وأشياء من الزرع فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، فلم يكن للناس كراء إلا هذا؛ فلذلك زجر عنه فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به} وفي رواية {كنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك وأما الورق فلم ينهنا} وفي رواية عن عبد الله بن معقل قال: زعم ثابت – يعني ابن الضحاك – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزارعة وأمر بالمؤاجرة وقال {لا بأس به}
  2. إجماع الصحابة على جوازه، حيث نقل ابن المنذر رحمه الله أن الصحابة أجمعوا على جواز كراء الأرض بالذهب والفضة، ونقل ابن بطال اتفاق فقهاء الأمصار عليه؛ قاله الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح 7/204
  3. أن الأحاديث المطلقة في النهي عن الكراء محمولة على الأحاديث المفسِّرة، وأن النهي يتناول ما كان فيه مخاطرة وجهالة وغرر، أما ما كان معلوماً مضموناً فلا بأس. انظر إحكام الأحكام 2/44 قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: الجمهور حمل النهي عن كراء الأرض على الوجه المفضي إلى الغرر والجهالة لا عن كرائها مطلقا حتى بالذهب والفضة.ا.هــ الفتح 7/204، وقال النووي رحمه الله: وأما الشافعي وموافقوه فاعتمدوا بصريح رواية رافع بن خديج وثابت بن الضحاك السابقين في جواز الإجارة بالذهب والفضة ونحوهما، وتأولوا أحاديث النهي تأويلين: أحدهما حملها على إجارتها بما على الماذيانات أو بزرع قطعة معينة أو بالثلث والربع ونحو ذلك كما فسره الرواة في هذه الأحاديث التي ذكرناها؛ والثاني حملها على كراهة التنزيه والإرشاد إلى إعارتها كما نهى عن بيع الغرر نهي تنزيه بل يتواهبونه ونحو ذلك. وهذان التأويلان لا بد منهما أو من أحدهما للجمع بين الأحاديث. وقد أشار إلى هذا التأويل الثاني البخاري وغيره ومعناه عن ابن عباس والله أعلم.ا.هــ شرح النووي 5/368

وعليه فلا حرج ـ إن شاء الله ـ في تأجير الأرض الزراعية بأجرة معلومة سواء كانت من النقود أو غيرها، وكذلك على جزء مشاع من جميع يخرج منها، لما في ذلك من تحقيق مصلحة الطرفين ولانتفاء المحذور الشرعي من الجهالة والغرر، والعلم عند الله تعالى

[1] قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم: هي مسايل المياه، وقيل: ما ينبت على حافتي مسيل الماء. وقيل: ما ينبت حول السواقي. وهي لفظة معربة ليست عربية

[2] قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم: وأقبال فبفتح الهمزة أي أوائلها ورءوسها، والجداول جمع جدول وهو النهر الصغير كالساقية، وأما الربيع فهو الساقية الصغيرة وجمعه أربعاء كنبي وأنبياء وربعان كصبي وصبيان. ومعنى هذه الألفاظ أنهم كانوا يدفعون الأرض إلى من يزرعها ببذر من عنده على أن يكون لمالك الأرض ما ينبت على الماذيانات وأقبال الجداول، أو هذه القطعة والباقي للعامل فنهوا عن ذلك لما فيه من الغرر فربما هلك هذا دون ذاك وعكسه

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى