ضرب الزوجة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.
وقد كان واجباً على هذا الكاتب – غفر الله له – أن يأتي بالروايات كاملة غير منقوصة من أجل أن يخرج بنظرة صحيحة؛ فإن من آداب البحث جمع النصوص الواردة في الموضوع الواحد والمقارنة بينها حتى يتضح المراد، أما الاجتزاء والابتسار فليس من شيم أهل الأمانة العلمية، ثم إن على العبد أن يتواضع قبل أن يحكم بتخطئة علماء الأمة الأثبات وفقهائها الذين تلقت الأمة أقوالهم بالقبول؛ ولبيان ذلك أقول:
رواية الإمام أبي داود رحمه الله (باب في ضرب النساء) وكذلك في مسند الشافعي باب الإذن في ضرب النساء؛ قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلم: (لا تَضرِبُوا إماءَ الله) فجاء عُمَرُ إلى رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم فقال: ذَئِرنَ النِّساء على أزواجِهِنَّ، فرخَّص في ضربهِنَّ، فأطافَ بآل رسول الله صلَّى الله عليه وسلم نساءٌ كثير يشكونَ أزواجَهُنَّ، فقال النبي صلَّى الله عليه وسلم : (لَقَد طَافَ بآل محمدِ نساءٌ كثير يشكونَ أزواجَهُنَّ، لَيسَ أولئك بخيارِكُم) فالصحابة رضوان الله عليهم – وهم أهل اللسان العربي المبين وهم من عاصروا التنزيل – فهموا الضرب بمعنى العقوبة.
ولذلك لم يختلف أهل العلم في مشروعية ضرب الزوجة وفق الضوابط التي بينتها الشريعة الغراء في سببه وكميته وكيفيته وغايته؛ فتأويل الكاتب مخالف لإجماع أهل العلم المتبوعين، هذه واحدة. فاشترط الفقهاء في ضرب التأديب المشروع إن نشزت الزوجة: أن يكون الضرب غير مدم ولا مبرح ولا شائن ولا مخوف، وهو الذي لا يكسر عظماً ولا يبضع لحماً ولا يسيل دماً ولا يشين جارحة، كاللكزة ونحوها لأن المقصود منه الصلاح لا غير، وقالوا: الضرب المبرح هو ما يعظم ألمه عرفا، أو ما يخشى منه تلف نفس أو عضو، أو ما يورث شيئاً فاحشاً، أو الشديد، أو المؤثر الشاق.
ثم إن القرآن الكريم لا تؤخذ ألفاظه مجردة عن سياقها، ولا مستقلة عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، بل خير ما يفسِّر القرآنَ القرآنُ، ثم سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وقد قال سبحانه {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزّل إليهم ولعلهم يتفكرون} وقال سبحانه {وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} ومن أبرز سمات أهل الباطل أنهم لا يعبئون بالسنة كثيرا ولا يلتفتون إليها؛ لأنها القاضية على أهوائهم الفاضحة لمراميهم، والمانعة لاتباعهم المتشابه من القرآن.
وقد ثبت في السنة القولية والعملية أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في ضرب النساء؛ حيث خطب صلى الله عليه وسلم تلك الخطبة العظيمة يوم عرفة في مشهد مهيب بين في خطبته تلك حقوق الإنسان وأصول الحلال والحرام، وكان مما قاله عليه الصلاة والسلام (اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح) رواه مسلم.
وأما قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً بيده قط ولا امرأة ولا خادماً إلا أن يجاهد في سبيل الله) فهو دليل على الكمال النبوي؛ لكنه لا ينفي مشروعية الضرب المنضبط بضوابط الشرع، ولذلك قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: فِيهِ أَنَّ ضَرْبَ الزَّوْجَة وَالْخَادِم وَالدَّابَّة وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا لِلْأَدَبِ فَتَرْكُهُ أَفْضَلُ. اهـ.
وقد ثبت من حديث عائشة رضي الله عنها كذلك ما يفهم منه أن قولها (ما ضرب شيئاً بيده قط) أنه محمول على الغالب، لكن قد يقع خلاف ذلك استثناء؛ فقد روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لما كانت ليلتي التي كان النبي صلى الله عليه وسلم فيها عندي انقلب فوضع رداءه، وخلع نعليه فوضعهما عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه فاضطجع، فلم يلبث إلا ريثما ظن أن قد رقدت؛ فأخذ رداءه رويداً وانتعل رويداً وفتح الباب فخرج ثم أجافه رويدا، فجعلت درعي في رأسي واختمرت وتقنعت إزاري ثم انطلقت على إثره حتى جاء البقيع فقام فأطال القيام، ثم رفع يديه ثلاث مرات ثم انحرف فانحرفت، فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر فأحضرت فسبقته فدخلت فليس إلا أن اضطجعت فدخل، فقال: ما لك يا عائش حشيا رابية؟ قالت: قلت: لا شيء، قال: لتخبريني أو ليخبرني اللطيف الخبير، قالت: قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي فأخبرته قال: فأنت السواد الذي رأيت أمامي؟ قلت: نعم، فلهدني في صدري لهدة أوجعتني ثم قال أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله. رواه مسلم. واللَّهْدُ: الدَّفْع الشَّدِيدُ فِي الصَّدر ـ كما قال ابن الأثير في النهاية. فهذا فيه استعمال النبي صلى الله عليه وسلم ليده استعمالا موجعا مع أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
وخلاصة القول في ذلك أن الأصل المعاشرة بالمعروف من الزوجين جميعا، وأن يتحمل كلاهما ما يكون من أذى عملاً بقول ربنا جل جلاله {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة} ولو احتاج الرجل إلى ضرب الزوجة تأديباً إن لم ينفع الوعظ ولا الهجر فلا جناح عليه في ذلك، شريطة التقيد بالضوابط الشرعية التي مضى ذكرها، والله الموفق والمستعان.