الخروج على الحاكم
ما هو حكم الخروج على الحاكم المسلم في الأحوال التي تمر بها الدول العربية؟ وهل الظلم مبرر للخروج على الحاكم المسلم؟ أم يجب النصح له فقط والدعاء له بالهداية؟ أم الدعاء عليه وعدم الخروج عليه؟ مع ذكر الدليل من الكتاب والسنة. وهل حكم من يحكم بغير ما أنزل الله يدخل في الكفر الأكبر أم الأصغر؟ وإن لم يكن أحدهما فما الحكم؟ وما حكم من يكفرهم؟
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
فأما النصح والدعاء بالهداية فهو مطلوب في حق كل إنسان حتى الكافر الأصلي؛ ولذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حال كفره، وكان يقاتل ثقيفاً ويدعو فيقول {اللهم اهد ثقيفاً وائت بهم} وأما مسألة الحكم بغير ما أنزل الله فقد سبق التفصيل فيها في هذا الموقع مراراً وخلاصة ذلك أن الحاكم بغير ما أنزل الله ـ في قضية أو نازلة ما ـ لهوى أو رشوة أو ميل إلى أحد الخصمين، كافر كفراً أصغر غير مخرج من الملة؛ أما إذا حكم بغير ما أنزل الله رغبة عما أنزل الله أو تفضيلاً لغير حكم الله على حكمه جل جلاله أو اعتقاداً منه أن الكل جائز فهذا كفر أكبر مخرج من الملة، وكذلك من شرع للناس تشريعاً يصادم به ما أنزل الله؛ فأحل حراماً أو حرَّم حلالاً مجمعاً عليه، وألزم الناس بالتحاكم إليه فهو كافر كفراً أكبر مخرجاً من الملة عياذاً بالله تعالى، وإذا شئت تفصيل هذه المسألة فارجع إلى رسالة (تحكيم القوانين الوضعية) للشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي الديار السعودية رحمه الله تعالى، أو إلى تفسير (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن) للشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى، أو إلى كتاب (التوحيد) للشيخ صالح بن فوزان الفوزان حفظه الله.
ثم إن الجواب على سؤالك أيها الأخ الكريم يقتضي تحقيق المناط في أمر حاكم تونس السابق مثلاً، هل هو حاكمٌ مسلمٌ ينطبق عليه ما ورد في النصوص الموجبة لطاعته، المحذِّرة من الخروج عليه؟ وقد استفاض من الأخبار ما يشيب له الوليد من تسلُّطه على عباد الله بالقهر؛ وتحليله ما حرَّم الله – كالخمور والفجور – ومنعه ما أوجب الله – كالحجاب – وتحريمه ما أحلَّ الله – كتعدد الزوجات – أضف إلى ذلك علاقته الوثيقة باليهود؛ حتى إنهم قد فجعوا لما أصابه وأظهروا الحسرة على ذهاب حكمه!! مع ما تواتر من الأخبار عن شديد مراقبته للمساجد وإحصائه الداخلين إليها والمتعبدين فيها، مع تسليطه زبانيته على الشباب الطيبين يسومونهم سوء العذاب!! وما ظهر بعد دوال دولته من عظيم سرقته وشدة خيانته للأمانة، أقول: من كانت هذه فعاله وتلك صفاته هل الخروج عليه محرَّم ممنوع أم سائغ مشروع؛ لأنه من الصنف الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم {إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان}؟ وما يقال عنه يقال كذلك عن حاكم مصر المخلوع الذي أراح الله المسلمين من شره وكيده وعدوانه.
إن وجوب الصبر على الحاكم المسلم الذي يُحلُّ الحلال ويحرِّمُ الحرام ويرضخ لحكم الشريعة ويرى سيادتها على سائر الأحكام هو الذي نطقت به النصوص، وتواتر من هدي أئمتنا الأولين فصبروا على ما كان من ظلم الولاة وجورهم؛ من أمثال الحجاج بن يوسف مبير ثقيف، وأبي جعفر المنصور ومن كان مثلهم؛ لأنهم كانوا بالشريعة حاكمين، ولراية الجهاد رافعين، وبهدي الإسلام – في الجملة – عاملين، على ما كان فيهم من رهق وسفك للدماء.
أما هؤلاء الذين تسأل عنهم فماذا ترى من ظاهر عملهم؟ إن المنصف يعلم أنهم يحاربون دين الله في كل واد، فيغيِّبون الشريعة، ويشجِّعون الخرافة، ويعملون على إلهاء الشعوب بكل باطل ومنكر، وأجهزة الإعلام التي يُشرفون عليها تنضح بما يندى له جبينُ كلِّ ذي مروءة، وفي الوقت نفسه يجفِّفون منابع التدين ما استطاعوا؛ حتى بلغ بهم الحال أن يسارعوا إلى إغلاق القنوات التي تقول للناس: ربي الله، وديني الإسلام، وقدوتي محمد صلى الله عليه وسلم خير الأنام!! بدعوى أنها تفسد الناس وتخالف الأعراف!!!! كما قال فرعون {ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد} وأعظمُ من ذلك وأفحشُ ما كان منهم من موادة يهود وتغليب النصارى على المسلمين؛ حتى إنهم ما استحوا من الله ولا من الناس حين حاصروا غزة وفيها من أهل الإسلام الجمُّ الغفير، بل هدموا الأنفاق التي كان الأهالي يهرِّبون من خلالها بعض الدواء والغذاء، وعمدوا إلى رشِّها بالغازات السامة، وحبسوا المجاهدين – من حماس وغيرها – وساموهم سوء العذاب؛ حتى إن بعضهم مات تحت التعذيب، وفي الوقت نفسه كان حاكم مصر يبيع الغاز لليهود بسعر تفضيلي يترتب عليه أن تخسر مصر سنوياً ثلاثة مليارات من الدولارات!! وحين لجأ بعض الناس إلى القضاء؛ وحكم القضاء ببطلان ذلك البيع، سدَّ الحاكم أذنيه وأغمض عينيه وسدر في غيِّه، وكأن الأمر لا يعنيه!! {صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون} وأغلق معبر رفح أمام المرضى والعجزة، مع بناء الجدار الفولاذي على الحدود مع غزة، ومنع قوافل الغذاء التي جاءت من ناس – مسلمين وغير مسلمين – آلمهم ما يعانيه الناس في غزة، وحين أسلمت بعض النساء النصرانيات – ممن كُنَّ زوجات لكهان نصارى – عمد إلى تسليمهن للكنيسة دون وازع من دين أو خلق؛ ليتعرضن لأشد العذاب فتنةً لهن في دينهن وحملاً لهن على الكفر الذي فررن منه!!
وأما حاكم ليبيا ففساده العقدي وسوء أدبه مع الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم والصحابة الأخيار مما يعلمه القاصي والداني، وليس هو بالسر الذي يذاع، بل أكثر الناس يعلمون أنه قد رام تحريف القرآن، وأنكر حجية السنة، ولما ذهب إليه وفد من أهل العلم ليبيِّنوا له لازم قوله وما يترتب في حقه قال لهم: أنا أؤمن بالسنة الفعلية دون القولية!!! وزعم أن الحج ليس إلا شعائر وثنية ومظاهر جاهلية فيها تعظيم للأحجار والأصنام!! وهو الذي حرَّك الفتن في بلاد المسلمين – خاصة هذه البلاد – منذ أن ظهر التمرد الصليبي بزعامة قرنق ونهاية بأحداث دارفور، ولو أردنا أن نعرِّف بذلك الكفار الأثيم لقلنا: إنه المستهزئ بالله ورسوله، المكذِّب بآياته، المبدِّل لشرعه، العابث بالأموال والأعراض والدماء، الموقد نار الحرب على المسلمين متى ما استطاع، الذيال الميال، أسد على شعبه نعامة أمام أعداء الأمة من اليهود والصليبيين، حتى إنه – في حال من الخنوع والذل الذي يفتت الأكباد – عمد إلى دفع إتاوة عظيمة ليتخلص من تبعات إسقاط طائرة (أوكربي) التي اتهم بفعلتها، حتى دفع مقابل الواحد من أولئك القتلى عشرة ملايين دولار!!!! وعمد إلى تسليم الأسلحة التي اشتراها من كدِّ الشعب وعرقه إلى الصليبيين كاملة من غير سوء طلباً لودهم وحذراً من إغضابهم!!! فمن كانت هذه صفاته أيصح أن يقال: إنه إمام المسلمين الذي لا يجوز الخروج عليه؟ ((إن هذا لشيء عجاب))
أما سؤالك عن الخروج فلا نسلِّم ابتداءً بأن المظاهرات – كالتي كانت في مصر أو تونس – خروج على الحاكم، بل هي وسيلة للتعبير عن الرأي تواضع عليها الناس في زماننا، مثلما تواضعوا على استخدام الوسائط الحديثة – الفيسبوك والتويتر وغيرها – في إنكار المنكر، إن المظاهرات وسيلة لإبلاغ رسالة الشعوب وشكواها من ظلم حكامها، وقد تواطأ على التعبير بها – في هذا الزمان – المسلمون وغيرهم؛ وليست المظاهرات غاية في ذاتها، حتى يقول البعض: إنها بدعة!! فيقال في الجواب: ومن قال إنها سنة حتى يقال له: بل هي بدعة!! إنها عادة ليس إلا، والأصل في العادات الإباحة ما لم تشتمل على محرَّم شرعاً، مع أن للقائل بجواز المظاهرات أن يستدل بخروج حمزة وعمر رضي الله عنهما؛ كل منهما على رأس صفّ من الصحابة – بعد إسلام عمر – ولهم كديد ككديد الطحين؛ حتى علت المشركين كآبة.
إن المظاهرات التي لا تتضمن إتلافاً للممتلكات ولا انتهاكاً للحرمات إنما هي وسيلة من وسائل التعبير، ومن القواعد الشرعية أن للوسائل حكم المقاصد؛ فالحكم على مظاهرة ما بالحل أو الحرمة إنما يكون باعتبار الغاية التي من أجلها سيِّرت، ومعرفة الهدف الذي من أجله خرجوا، هل خرجوا لإنكار منكر أم إنكار معروف؟ هل خرجوا نصرة لحق أم باطل؟ هل خرجوا تعاوناً على البر والتقوى أم تعاوناً على الإثم والعدوان؟ هذه أسئلة من خلال الجواب عليها يتضح الحكم، ولا يصح إطلاق القول بالحل أو الحرمة هكذا.
هذا وإن الواجب علينا أن نكثر من الدعاء بأن يلم الله شعث المسلمين، ويجمع شملهم، ويجعل ولايتهم في خيارهم، وينزعها من شرارهم، وأن يردهم إلى دينه رداً جميلاً؛ إنه خير المسئولين وخير المعطين، والحمد لله رب العالمين….