أحكام الصيام

صيام الدهر

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.

فقد ذهب كثير من الفقهاء إلى أن متابعة الصيام خلال العام كله مع إفطار الأيام المنهي عن صيامها كيومي العيد وأيام التشريق لا بأس به، وأما حديث عبد الله بن عمرو والذي جاء فيه (أنه كان يسرد الصوم فبَلَغَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنِّي أَسْرُدُ الصَّوْمَ) كما في البخاري، وفي بعضها: (قُلْتُ: إِنِّي أَصُومُ وَلَا أُفْطِرُ) قَالَ: فَقَالَ لِي: (صُمْ وَأَفْطِرْ( كما في مسند أحمد، فقد حمله العلماء على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- علم أنه سيضعف عن الصيام، واستدلوا على جواز سرد الصيام بحديث حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيَّ: سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, إِنِّي رَجُلٌ أَسْرُدُ الصَّوْمَ، أَفَأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ قَالَ: (صُمْ إِنْ شِئْتَ، وَأَفْطِرْ إِنْ شِئْت) رواه الشيخان، قال النووي -رحمه الله تعالى-:

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِيهِ؛ فَذَهَبَ أَهْل الظَّاهِر إِلَى مَنْع صِيَام الدَّهْر, نَظَرًا لِظَوَاهِر هَذِهِ الْأَحَادِيث، قَالَ الْقَاضِي وغَيْره: وَذَهَبَ جَمَاهِير الْعُلَمَاء إِلَى جَوَازه إِذَا لَمْ يَصُمْ الْأَيَّام الْمَنْهِيَّ عَنْهَا وَهِيَ الْعِيدَانِ وَالتَّشْرِيق، وَمَذْهَب الشَّافِعِيّ, وَأَصْحَابه: أَنَّ سَرْد الصِّيَام إِذَا أَفْطَرَ الْعِيدَيْنِ وَالتَّشْرِيق لَا كَرَاهَة فِيهِ، بَلْ هُوَ مُسْتَحَبّ بِشَرْطِ أَلَّا يَلْحَقَهُ بِهِ ضَرَرٌ، وَلَا يُفَوِّتَ حَقًّا، فَإِنْ تَضَرَّرَ أَوْ فَوَّتَ حَقًّا فَمَكْرُوه، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ حَمْزَة بْن عَمْرو، وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم أَنَّهُ قَالَ: “يَا رَسُول اللَّه، إِنِّي أَسْرُدُ الصَّوْمَ، أَفَأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ فَقَالَ: إِنْ شِئْت فَصُمْ”. وَلَفْظ رِوَايَة مُسْلِم: فَأَقَرَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَرْد الصِّيَام، وَلَوْ كَانَ مَكْرُوهًا لَمْ يُقِرَّهُ، لَا سِيَّمَا فِي السَّفَر، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ اِبْن عُمَر بن الْخَطَّاب أَنَّهُ كَانَ يَسْرُد الصِّيَام، وَكَذَلِكَ أَبُو طَلْحَة وَعَائِشَة وَخَلَائِق مِنْ السَّلَف، قَدْ ذَكَرْت مِنْهُمْ جَمَاعَة فِي شَرْح الْمُهَذَّب فِي بَاب صَوْم التَّطَوُّع، وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيث: (لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَد) بِأَجْوِبَةٍ: أَحَدهَا: أَنَّهُ مَحْمُول عَلَى حَقِيقَته بِأَنْ يَصُوم مَعَهُ الْعِيدَيْنِ وَالتَّشْرِيق، وَبِهَذَا أَجَابَتْ عَائِشَة -رَضِيَ اللَّه عَنْهَا-. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُول عَلَى مَنْ تَضَرَّرَ بِهِ أَوْ فَوَّتَ بِهِ حَقًّا، وَيُؤَيِّدهُ أَنَّ النَّهْي كَانَ خِطَابًا لِعَبْدِ اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاصِ، وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِم عَنْهُ أَنَّهُ عَجَزَ فِي آخِر عُمُرِه، وَنَدِمَ عَلَى كَوْنه لَمْ يَقْبَل الرُّخْصَة، قَالُوا: فَنَهْي اِبْنِ عَمْرٍو كَانَ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ سَيَعْجِزُ، وَأَقَرَّ حَمْزَة بْن عَمْرو لِعِلْمِهِ بِقُدْرَتِهِ بِلَا ضَرَرٍ. اهــ.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – يرحمه الله – في مجموع الفتاوى 2/140 :

فاستحب ذلك طائفة من الفقهاء والعباد فرأوه أفضل من صوم يوم وفطر يوم، وطائفة أخرى لم يروه أفضل، بل جعلوه سائغًا بلا كراهة، وجعلوا صوم شطر الدهر أفضل منه، وحملوا ما ورد في ترك صوم الدهر على من صام أيام النهي، والقول الثالث: وهو الصواب، قول من جعل ذلك تركًا للأولى أو كره ذلك، فإن الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم كنهيه لـ عبد الله بن عمرو عن ذلك، وقوله” من صام الدهر فلا صام ولا أفطر) وغيرهما صريحة في أن هذا ليس بمشروع.  انتهى

وقال ابن القيم – يرحمه الله -: تعليقًا على حديث (إن أحب الصيام إلى الله صيام داود، كان يصوم يومًا ويفطر يومًا) وهو نص في أن صوم يوم وفطر يوم أفضل من سرد الصيام، ولو كان سرد الصيام مشروعًا أو مستحبًّا لكان أكثر عملاً، فيكون أفضل إذ العبادة لا تكون إلا راجحة، فلو كان عبادة لم يكن مرجوحًا.  انتهى

وممن استحب تتابع الصوم من الفقهاء: الشافعية والمالكية قالوا: إن سرد الصوم أفضل من الصوم والفطر إذا لم يضعف بسببه عن شيء من أعمال البر مما هو أولى منه.
قال النووي في المجموع 6/442 : وحاصل حكمه عندنا أنه إن خاف ضررًا أو فوت حقًّا بصيام الدهر كره له، وإن لم يخف ضررًا ولم يفوت حقًّا لم يكره، هذا هو الصحيح الذي نص عليه الشافعي وقطع به المصنف والجمهور. انتهى

وممن ثبت عنه سرد الصوم -سوى أيام النهي الخمسة- من الصحابة والسلف عمر بن الخطاب وابنه عبد الله، وأبو طلحة الأنصاري، وأبو أمامة، وامرأته، وعائشة رضي الله عنهم وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم، ذكر ذلك البيهقي عنهم بأسانيده، ومنهم سعيد بن المسيب، وأبو عمرو بن حماس، وسعيد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف التابعي، والأسود بن يزيد رضي الله عنهم؛ فعن عروة أن عائشة رضي الله عنها: كانت تصوم الدهر في السفر والحضر. رواه البيهقي، وقال النووي: إن إسناده صحيح

وعن أنس قال: كان أبو طلحة لا يصوم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من أجل الغزو، فلما قبض النبي صلى الله عليه وسلم لم أره مفطرًا إلا يوم الفطر أو الأضحى. رواه البخاري.
والراجح إن شاء الله تعالى هو أن صوم الدهر لا يكره إذا أفطر أيام النهي ولم يترك فيه حقًّا ولم يخف ضررًا. وقد روى البيهقي بإسناد حسن عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن في الجنة غرفة يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن ألان الكلام وأطعم الطعام وتابع الصيام وصلى بالليل والناس نيام) والعلم عند الله تعالى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى