التوفيق بين الجهاد والذكر
السلام عليكم ورحمة الله.. جزاكم الله خيرًا، وبارك الله فيكم..
سؤالي عن التوفيق بين حديث الرسول صلوات الله وسلامه عليه الذي يقول فيه: “الجهاد ذروة سنام الإسلام” والحديث الذي فيما معناه أن الذكر خير لنا من أن نلقى العدو فنضرب أعناقهم ويضربوا أعناقنا. بارك الله فيكم، ونفعنا وإياكم بالذكر الحكيم وبكلام سيد المرسلين.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أما بعد.
فشكر الله لك هذا السؤال الذي يدل على حسن تفهم لسنة النبي صلى الله عليه وسـلم وبحث في مضامينها، والحديث الأول الذي تسأل عنه رواه الترمذي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار قال “لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه: تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت” ثم قال “ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم تلا {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} حتى إذا بلغ {يعملون} ثم قال “ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟” قلت: بلى يا رسول الله، قال “رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد” ثم قال “ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟” قلت: بلى يا رسول الله؛ فأخذ بلسانه وقال “كفَّ عليك هذا” قلت: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال “ثكلتك أمك وهل يكب الناس في النار على وجوههم – أو قال على مناخرهم – إلا حصائد ألسنتهم؟” قال الترمذي: حديث حسن صحيح
وذروة كل شيء أعلاه، وذروة سنام البعير: طرف سنامه والجهاد لا يقاومه شيء من الأعمال كما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسـلم فقال: دلني على عمل يعدل الجهاد قال “لا أجده” ثم قال “هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر وتصوم ولا تفطر؟” فقال: ومن يستطيع ذلك؟ هذا يدل على أنه أفضل الأعمال بعد الفرائض، كما هو قول الإمام أحمد وغيره من العلماء. وقوله في رواية الإمام أحمد “والذي نفس محمد بيده ما شحب وجه ولا اغبرت قدم في عمل يبتغى به درجات الجنة بعد الصلاة المفروضة كجهاد في سبيل الله عز وجل” يدل على ذلك صريحا. وفي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي العمل أفضل؟ قال “إيمان بالله وجهاد في سبيله” وفيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسـلم قال “أفضل الأعمال إيمان بالله، ثم جهاد في سبيل الله” والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدا.
وأما الحديث الثاني فقد رواه مالك في الموطأ موقوفاً على أبي الدرداء رضي الله عنه قال: “أَلاَ أَخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ لَكُمْ، أَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ، وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: ذِكْرُ اللهِ” ورواه الإمام أحمد عن أبي الدرداء كذلك يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسـلم. قال الشيخ الأرناؤوط: إسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح غير أبي بحرية -واسمه عبد الله ابن قيس- فمن رجال أصحاب السنن، وهو ثقة، لكن اختلف في رفعه ووقفه، وفي إرساله ووصله.ا.هـ وأخرجه كذلك الترمذي وابن ماجه
وللعلماء رحمهم الله تعالى مسالك في الجمع بين الأحاديث الدالة على أن الذكر أفضل العمل والأحاديث الدالة على أن الجهاد لا يعدله شيء:
المسلك الأول: من يرى أن الذكر المراد في تلك الأحاديث إنما يحمل على ذكر الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وممن قال بذلك أبو الوليد الباجي رحمه الله تعالى في شرحه لموطأ مالك المسمى بالمنتقى حيث قال: ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى يَحْتَمِلُ مَعَانِيَ لِأَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: ذِكْرٌ بِاللِّسَانِ.
وَالثَّانِي: ذِكْرٌ عِنْدَ الْأَوَامِرِ بِامْتِثَالِهَا وَعِنْدَ الْمَعَاصِي بِاجْتِنَابِهَا وَهُوَ ذِكْرٌ.
ثم قال: وَالذِّكْرُ بِاللِّسَانِ عَلَى ضَرْبَيْنِ وَاجِبٌ وَمَنْدُوبٌ إلَيْهِ فَالْوَاجِبُ قِرَاءَةُ أُمِّ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّسَلُّمِ فِيهَا وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ وَالْمَنْدُوبُ إلَيْهِ سَائِرُ الْأَذْكَارِ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَأَمَّا الْوَاجِبُ مِنْ الذِّكْرِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَفْضُلَ عَلَى سَائِرِ أَعْمَالِ الْبِرِّ مِنْ الْجِهَادِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا فَيُقَالُ إنَّ ثَوَابَ الْمُصَلِّي أَكْثَرُ مِنْ ثَوَابِ غَيْرِهِ إمَّا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَإِمَّا فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ أَوْ عَلَى حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ وَأَمَّا الْمَنْدُوبُ إلَيْهِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَفْضُلَ عَلَى سَائِرِ أَعْمَالِ الْبِرِّ الْمَنْدُوبِ إلَيْهَا لِمَعْنَيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الثَّوَابَ عَلَيْهِ أَعْظَمُ وَهَذَا طَرِيقَةُ الْخَبَرِ.
وَالثَّانِي: كَثْرَةُ تَكَرُّرِهِ وَهَذَا يُعْرَفُ بِالْمُشَاهَدَةِ وَالنَّظَرِ.ا.هــــ
المسلك الثاني: أن الأفضلية ليست على الإطلاق وإنما باعتبار حال المخاطبين؛ ومن القائلين بذلك الشيخ ابن دقيق العيد فقال رحمه الله تعالى في إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام: وَاَلَّذِي قِيلَ فِي هَذَا: إنَّهَا أَجْوِبَةٌ مَخْصُوصَةٌ لِسَائِلٍ مَخْصُوصٍ، أَوْ مَنْ هُوَ فِي مِثْلِ حَالِهِ. أَوْ هِيَ مَخْصُوصَةٌ بِبَعْضِ الْأَحْوَالِ الَّتِي تُرْشِدُ الْقَرَائِنُ إلَى أَنَّهَا الْمُرَادُ. وَمِثَالُ ذَلِكَ: أَنْ يُحْمَلَ مَا وَرَدَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ؟» وَفَسَّرَهُ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ، أَوْ مَنْ هُوَ فِي مِثْلِ حَالِهِمْ، أَوْ مَنْ هُوَ فِي صِفَاتِهِمْ. وَلَوْ خُوطِبَ بِذَلِكَ الشُّجَاعُ الْبَاسِلُ الْمُتَأَهِّلُ لِلنَّفْعِ الْأَكْبَرِ فِي الْقِتَالِ لَقِيلَ لَهُ “الْجِهَادُ” وَلَوْ خُوطِبَ بِهِ مَنْ لَا يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْقِتَالِ وَلَا يَتَمَحَّضُ حَالُهُ لِصَلَاحِيَّةِ التَّبَتُّلِ لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ غَنِيًّا يَنْتَفِعُ بِصَدَقَةِ مَالِهِ لَقِيلَ لَهُ “الصَّدَقَةُ” وَهَكَذَا فِي بَقِيَّةِ أَحْوَالِ النَّاسِ، قَدْ يَكُونُ الْأَفْضَلُ فِي حَقِّ هَذَا مُخَالِفًا لِلْأَفْضَلِ فِي حَقِّ ذَاكَ، بِحَسَبِ تَرْجِيحِ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي تَلِيقُ بِهِ.ا.هـــ
وسلك الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى مسلكاً آخر هو أحكم وأبلغ فقال في الفتح: وَطَرِيقُ الْجَمْعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِذِكْرِ اللَّهِ فِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ الذِّكْرُ الْكَامِلُ وَهُوَ مَا يَجْتَمِعُ فِيهِ ذِكْرُ اللِّسَانِ وَالْقَلْبِ بِالتَّفَكُّرِ فِي الْمَعْنَى وَاسْتِحْضَارِ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ يَكُونُ أَفْضَلَ مِمَّنْ يُقَاتِلُ الْكُفَّارَ مَثَلًا مِنْ غَيْرِ اسْتِحْضَارٍ لِذَلِكَ وَأَنَّ أَفْضَلِيَّةَ الْجِهَادِ إِنَّمَا هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذِكْرِ اللِّسَانِ الْمُجَرَّدِ فَمَنِ اتَّفَقَ لَهُ أَنَّهُ جَمَعَ ذَلِكَ كَمَنْ يَذْكُرُ اللَّهَ بِلِسَانِهِ وَقَلْبِهِ وَاسْتِحْضَارِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ حَالَ صَلَاتِهِ أَوْ فِي صِيَامِهِ أَوْ تَصَدُّقِهِ أَوْ قِتَالِهِ الْكُفَّارَ مَثَلًا فَهُوَ الَّذِي بَلَغَ الْغَايَةَ الْقُصْوَى وَالْعِلْمَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَجَابَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ بِأَنَّهُ مَا مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ إِلَّا وَالذِّكْرُ مُشْتَرَطٌ فِي تَصْحِيحِهِ فَمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ بِقَلْبِهِ عِنْدَ صَدَقَتِهِ أَوْ صِيَامِهِ مَثَلًا فَلَيْسَ عَمَلُهُ كَامِلًا فَصَارَ الذِّكْرُ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ وَيُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ حَدِيثُ نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ أَبْلَغُ مِنْ عمله.ا.هـــ
وأما الصنعاني رحمه الله في سبل السلام فقد نقل عن بعض العارفين أن الذِّكْرَ عَلَى سَبْعَةِ أَنْحَاءٍ فَذِكْرُ الْعَيْنَيْنِ بِالْبُكَاءِ وَذِكْرُ الْأُذُنَيْنِ بِالْإِصْغَاءِ وَذِكْرُ اللِّسَانِ بِالثَّنَاءِ وَذِكْرُ الْيَدَيْنِ بِالْعَطَاءِ وَذِكْرُ الْبَدَنِ بِالْوَفَاءِ وَذِكْرُ الْقَلْبِ بِالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَذِكْرُ الرُّوحِ بِالتَّسْلِيمِ وَالرِّضَاءِ. ثم قال: وَلَا تُعَارِضُهُ أَحَادِيثُ فَضْلِ الْجِهَادِ وَأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ الْأَفْضَلُ مِنْ الْجِهَادِ ذِكْرُ اللِّسَانِ وَالْقَلْبِ وَالتَّفَكُّرُ فِي الْمَعْنَى، وَاسْتِحْضَارُ عَظَمَةِ اللَّهِ فَهَذَا أَفْضَلُ مِنْ الْجِهَادِ وَالْجِهَادُ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ بِاللِّسَانِ فَقَطْ. ا.هــــ
وقال ابن القيم في حاشيته على سنن أبي داود: وَالتَّحْقِيق فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَرَاتِب ثَلَاثَة الْمَرْتَبَة الْأُولَى ذِكْر وَجِهَاد وَهِيَ أَعْلَى الْمَرَاتِب قَالَ تَعَالَى {يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَة فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا الله كثيرا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
الْمَرْتَبَة الثَّانِيَة ذِكْر بِلَا جِهَاد فَهَذِهِ دُون الْأُولَى
الْمَرْتَبَة الثَّالِثَة جِهَاد بِلَا ذِكْر فَهِيَ دُونهمَا وَالذَّاكِر أَفْضَل مِنْ هَذَا
وَإِنَّمَا وُضِعَ الْجِهَاد لِأَجْلِ ذِكْر اللَّه فَالْمَقْصُود مِنْ الْجِهَاد أَنْ يُذْكَر اللَّه وَيُعْبَد وَحْده فَتَوْحِيده وَذِكْره وَعِبَادَته هُوَ غَايَة الْخَلْق الَّتِي خُلِقُوا لَهَا.ا.هـــ