حكم الإنتماء لجماعة الإخوان المسلمين وقراءة كتب سيد قطب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.
أولاً: الانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين أو جماعة التبليغ إذا كان بغرض الدعوة إلى الله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام لنصرة دين الله عز وجل عمل مبرور وفعل مشكور، داخل تحت القواعد الشرعية العامة الآمرة بالاجتماع على الخير والتعاون على البر والتقوى؛ كقوله صلى الله عليه وسلم {يد الله على الجماعة} رواه النسائي، وقوله صلى الله عليه وسلم {فعليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية} رواه النسائي وأبو داود، والواجب على هذا المنضوي تحت لواء الجماعة أن تأخذه الحمية للدين لا للجماعة، وأن لا يمنعه انتماؤه من محبة عامة المسلمين ممن ليسوا معه في جماعته، وإحسان الظن بهم واعتبارهم إخواناً له، وأن يتواصى مع جماعته بالحق والصبر، فلا يكون موافقاً للجماعة في الخير والشر والخطأ والصواب، بل يتبع الحق أينما كان ويأمر به ويدعو إليه، وقد أجرى الله على يد هاتين الجماعتين ـ مثلما أجرى على يد غيرهما من الجماعات العاملة في الدعوة إلى الله ـ خيراً كثيراً، وكانتا سبباً في هداية فئام من الناس جزاهم الله خيراً، ولم يُعرف عن الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى الحكم على هاتين الجماعتين بأنهما من الفرق الهالكة، ولم يُنقل عنه ولا عن غيره من أهل العلم المعتبرين في ذلك فتوى محررة، بل المعروف عن الشيخ ـ رحمه الله ـ خلاف ذلك، والمنقول عنه في فتاوى اللجنة الدائمة غير الذي قيل في السؤال، وعلى السائل الرجوع إلى (فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء) يجد فتاوى ممهورة بتوقيع الشيخ رحمه الله فيها بيان أن جماعة التبليغ وجماعة الإخوان المسلمين من الفرقة الناجية، وذلك في المجلد الثاني صفحة/234ـ 236ـ 237ـ 238 وقد كان رحمه الله تعالى من أعفِّ الناس لساناً وأكثرهم ورعاً في الحديث عن إخوانه المسلمين، حتى من يخالفونه الرأي، وظنُّنا بمن نقل عن الشيخ مثل هذا الكلام أنه يكذب عليه ولا يتقي الله فيما يقول؛ إذ المعلوم لدى صغار طلبة العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل الألقاب التي اشتهرت بها الطوائف المنتسبة للإسلام سمات تعرف بها الفرق الثنتان والسبعون، وإنما جعل أمارتها مفارقة الكتاب والسنة وإجماع الصحابة رضوان الله عليهم؛ اتباعاً للظن وما تهوى الأنفس، وقولاً على الله بغير علم.
ثانياً: مؤلفات الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى قد حوت خيراً كثيراً وعلماً غزيراً وعاطفة جياشة في الدفاع عن الإسلام أمام غارات الملاحدة والعلمانيين، خاصةً في قضايا الحكم بما أنزل الله وبيان محاسن الإسلام والرد على منتقديه من شياطين الإنس دعاة الضلالة، وما هو بالمعصوم، بل هو كغيره من أهل العلم والفضل لا يسلم من الخطأ، لكن خطأه في بحر فضله مغمور، حيث كانت له ـ رحمه الله ـ مواقف وأقوال وكتابات تنبئ أنها صادرة عن قلب مليء بحب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم وحب الإسلام وأهله، وقد أفضى إلى ما قدم، وليس من الدين ولا من الأدب ولا من الإنصاف أن يتتبع بعض الناس عثراته فيشيعونها في كل مجلس، وينسون حسناته وفضائله فيسترونها ويغمطون الرجل حقه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم {الكبر بطر الحق وغمط الناس} رواه مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
والخلاصة أن الرجل من الدعاة الذين ظهر صدقهم في الدعوة ونصرتهم للدين وغيرتهم على محارمه، ونحسبه مات شهيداً في سبيل كلمة الحق والله حسيبه، وإن كانت له أخطاء في بعض كتبه ـ شأن عامة من كتب وألَّف ـ فإنه لا يتابع عليها ولا يُقلَّد فيها ولا يُشنَّع عليه بها، وإنما يُبيَّن الحق من الباطل، والصواب من الخطأ بالحجة والبرهان. مع الانتباه إلى أن مثل هذه الأخطاء مغمورة إلى جانب حسناته العظيمة في بيان معاني كتاب الله عز وجل وتجلية الحق لطالبيه في عصر قلَّ فيه من ينطق بالحق ويدعو إليه.
وبذلك يتبيَّن أن القول بأن مؤلفات سيد قطب رحمه الله تعالى مؤلفات للبدع والانحرافات في العقيدة قول فيه من التجني وعدم الإنصاف والوقيعة في عرض رجل هو من خاصة المسلمين ودعاتهم ومجاهديهم شيء عظيم، وقائل هذا يحتاج إلى أن يُذكَّر بقول النبي صلى الله عليه وسلم {إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق} رواه أحمد وأبو داود.
وقد عُهد عنه رحمه الله تعالى الرجوع إلى الحق متى ما تبيَّن له، يلحظ ذلك كل من قرأ تفسير (الظلال) في طبعاته المختلفة وقارن بينها؛ حيث كان يُعمِل قلمه بالتصحيح الطبعة بعد الأخرى؛ كما هو دأب المخلصين المتجردين عن الهوى، وقد جعل الله له ولمؤلفاته القبول في قلوب خلقه؛ حيث حبَّب كتاب الله إلى قلوب عامة المسلمين، حتى نبتت هذه النابتة التي تتجنى وتكذب وتفتري ولا تستحي من الله ولا من الناس.
هذا وقد أنصف سيداً رحمه الله تعالى من علماء الأمة الموثوقين وأئمتها المعدَّلين نفر كثير، ونكتفي هاهنا بالنقل عن واحد منهم، وهو العلامة الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد ـ حفظه الله ـ وهو عضو هيئة كبار العلماء بالسعودية ورئيس مجمع الفقه الإسلامي الدولي حيث قال عن سيد وذلك في معرض رده على بعض منتقديه {..فوجدت في كتبه خيراً كثيراً، وإيماناً مشرقاً، وحقاً أبلج، وتشريحاً فاضحاً لمخططات أعداء الإسلام على عثرات في سياقه، واسترسل بعبارات ليته لم يفُه بها، وكثير منها ينقضها قوله الحق في مكان آخر، والكمال عزيز! والرجل كان أديباً نقادة، ثم اتجه إلى خدمة الإسلام، من خلال القرآن العظيم، والسنة المشرَّفة وسخَّر قلمه ووقته، ودمه في سبيلها، فشرق بها طغاة عصره! وأصر على موقفه في سبيل الله تعالى، وكشف عن سالفته، وطلب منه أن يسطر بقلمه كلمات اعتذار! فقال كلمته المشهورة: إن أصبعاً أرفعه للشهادة، لن أكتب به كلمة تضارها! أو كلمة نحو ذلك. والواجب على الجميع الدعاء له بالمغفرة، والاستفادة من علمه، وبيان ما تحققنا خطأه فيه. وإن خطأه لا يوجب حرماننا من علمه، ولا هجر كتبه. واعتبر ـ رعاك الله ـ حاله بحال أسلاف مضوا، أمثال أبي إسماعيل الهروي، والجيلاني، وكيف دافع عنهما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مع ما لديهما من الطوام؛ لأن الأصل في مسلكهما: نصرة الإسلام والسنة. وانظر (منازل السائرين) للهروي – رحمه الله تعالى- تر عجائب لا يمكن قبولها! ومع ذلك فابن القيم -رحمه الله تعالى- يعتذر عنه أشد الاعتذار، ولا يجرمه فيها، وذلك في شرحه (مدارج السالكين).ا.هـ
ثالثاً: لم يثبت عن سيد رحمه الله تعالى أنه لا يصلي الجمعة، أو أنه يرى أن صلاة الجمعة تسقط إذا سقطت الخلافة، وأنه لا جمعة بلا خلافة. بل إن المرء ليأخذه العجب كيف أن أقواماً ـ يزعمون الدفاع عن السنة والأخذ بآدابها ـ يجرؤون على رمي مسلم ميت بمثل هذه التهم الباطلة دون حجة ولا برهان، وإنما مستندهم في ذلك رواية صاحبها مجهول الحال، ولا يُدرى ما الحامل له على مثل هذا البهتان، وقد عاصر سيداً ـ رحمه الله تعالى ـ أناسٌ عدولٌ كثيرون وما نقلوا عنه مثل هذا القول البارد، ولا اتهموه بتلك التهمة الساقطة في ميزان الحق، وتفسيره لسورة الجمعة بين أيدينا وما وجدنا أثراً لمثل هذا الرأي، وما كان ـ رحمه الله ـ بالذي يخفي ما يعتقد أو يتظاهر بخلاف الذي يُسر.
رابعاً: كلامه رحمه الله في شأن نبي الله موسى عليه السلام يُفهم في سياقه الذي قيل فيه، ويؤخذ معه كلامه الآخر عنه في مواضع عدة من كتبه كتفسيره (الظلال) وليس من الإنصاف أن يعمد امرؤ إلى كلمة فيستلها من سياقها العام ويلغي بعد ذلك سائر الكلام؛ ليثبت تهمة ما كانت إلا في نفسه هو، وما دارت بخلد كاتب الكلام أصلاً، ومثل هذا الكلام يقال في حق من يتهمون سيداً رحمه الله بأنه يسب الصحابة ـ هكذا ـ وينسون أنه كتب فصلاً كاملاً في كتاب المعالم ـ وهو من آخر كتبه ـ بعنوان (جيل قرآني فريد) يثني فيه على الصحابة الكرام رضي الله عنهم ويبيِّن فضائلهم ومحاسنهم، وكذلك اتهامه بأنه من دعاة وحدة الوجود استدلالاً بكلام مجمل حمال أوجه قاله في تفسير سورتي الحديد والإخلاص، ويغفلون عن كلامه المبيَّن في نفي وحدة الوجود والرد في مواضع من الظلال و(خصائص التصور الإسلامي) على الحلوليين ودعاة وحدة الوجود.
وبعد. فليلعم هؤلاء الطاعنون في سيد قطب وغيره من أهل الدعوة والجهاد أنهم ـ قصدوا أولم يقصدوا ـ إنما يخدمون هدفاً بعيداً لأعداء الملة، الذين يرومون الطعن في كل من عُهد عنه تأثير في الصحوة المعاصرة التي أقضت مضاجع اليهود والصليبيين والملاحدة، فيعمدون إلى انتقاصهم ورميهم بالتهم الباطلة تنفيراً للناشئة منهم، وإشاعة لقالة السوء عنهم؛ ابتداء بشيخ الإسلام ابن تيمية مروراً بالإمام محمد بن عبد الوهاب وانتهاء بالأستاذ سيد قطب رحمهم الله جميعاً.
وقد روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال {إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط}رواه أبو داود، فثبت بهذا الحديث وجوب توقير العلماء وإحسان الظن بهم وحمل أقوالهم على أحسن المحامل، ولا يعني هذا اعتقاد عصمتهم وأنهم لا يخطئون، بل هم بشر معرَّضون للخطأ والصواب؛ فلا مانع من التنبيه على أخطائهم بما يُحق الحق ويُبطل الباطل، وذلك دون أن نتعمد تتبع عثراتهم وإحصاء هفواتهم، بل الواجب علينا أن نحفظ لأهل العلم حرمتهم وأن نعرف لهم فضلهم، وإن أخطأ الواحد منهم فإننا نعتقد أن ذلك الخطأ أو تلك الهفوة مغمورة في بحر فضائله.
أما إدمان الحديث عنهم بالسوء وتتبع ما وقعوا فيه من أخطاء فهو مسلك أهل الضلالة والهوى؛ فتجد الواحد من هؤلاء لا هم له إلا الطعن في العلماء ـ أحياء وأمواتاً ـ بدعوى أن مقصد ذلك الداعية خبيث، وأنه ذو نية خبيثة، وأنه صاحب فتنة عدو للسنة، أو أن فلاناً لا يحب الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك التندر عليهم في المجالس وطباعة الأشرطة في التشنيع عليهم والتحذير منهم بزعم أن خطرهم يفوق خطر اليهود والنصارى ونحو ذلك من الدعاوى العارية عن الدليل، والتي تشي بقلة الورع والخوف من الله تعالى.
وعلى كل مسلم أن يعلم أنه لا أحد معصوم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال مالك رحمه الله {كل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم} ويقول ابن القيم رحمه الله {فلو كان كل من أخطأ أو غلط تُرِكَ جملةً، وأُهدرت محاسنه لفسدت العلوم والصناعات والحكم وتعطلت معالمها} وعليه أن يعلم أن الأمور التي تُنتقد على بعض الدعاة أو العلماء أمور اجتهادية يسوغ فيها الخلاف، وقد يكون الخلاف فيها قد حصل بين أسلافنا ولم ينكر بعضهم على بعض؛ فيأتي بعض هؤلاء محذِّراً بأن فلاناً قد خالف السنة وانحرف عن المنهج؛ إلى آخر تلك التهويلات التي غايتها صرف الناس عن أولئك الدعاة. إن الواجب على هؤلاء أن يتقوا الله عز وجل وأن يعلموا أن لحوم العلماء مسمومة، وأن سنة الله في أخذ من انتقصهم معلومة، ومن وقع في أعراض العلماء بالثلب، ابتلاه الله قبل موته بموت القلب، وأذكِّر الجميع بقوله تعالى {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبينا} والله الهادي إلى سواء السبيل.
ومجمع الفقه الإسلامي بالسودان يوجه الجهات المسئولة إلى وجوب الذب عن علماء الأمة ـ أحياء وأمواتاً ـ لأن الذب عنهم ذب عن الدين، وذلك بمتابعة كل من يقع فيهم بالثلب، لا سيما الأموات ومن نفع الله بكتبهم وعلومهم؛ صيانة للدين وتحذيراً من دعاة الفتنة والوقوع في الأئمة.