حكم التأمين
ما حكم التأمين الصحي؟ مع العلم أن هناك مبلغاً يخصم من المرتب سواء رضينا أم أبينا؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.
فالتأمين المباح شرعاً هو التأمين التعاوني؛ وهو أن يتفق عدة أشخاص على أن يدفع كل منهم اشتراكاً معيَّناً لتعويض الأضرار التي قد تصيب أحدهم إذا تحقق خطر معيَّن، كما هو الشائع عند سائقي سيارات الأجرة والباصات السفرية؛ ووجه جوازه أنه من عقود التبرعات التي يقصد منها المواساة والتعاون على تفتيت الأخطار، والاشتراك في تحمل المسئولية عند نزول الكوارث، وذلك عن طريق إسهام أشخاص بمبالغ نقدية تخصص لتعويض من يصيبه الضرر، فجماعة التأمين التعاوني لا يستهدفون تجارة، ولا ربحاً من أموال غيرهم، وإنما يقصدون توزيع الأخطار بينهم والتعاون على تحمل الضرر؛ ففعلهم هذا داخل في عموم قوله تعالى {وتعاونوا على البر والتقوى}
أما التأمين القائم على دفع قسط ثابت من قبل الشخص المؤمَّن له إلى جهة معينة وهي شركة التأمين؛ وتتعهد الشركة بموجب ذلك دفع مبلغ معيَّن عند تحقق خطر معيَّن ـ حسب العقد ـ من حَرَقٍ أو غَرَقٍ أو هَدْمٍ أو سرقة ونحو ذلك، ويكون العوض المدفوع إما إلى شخص المؤمَّن له أو ورثته؛ كالذي تفعله شركات التأمين على الحياة أو السيارات أو المباني؛ وعقد التأمين ـ بالصورة هذه ـ عقد فاسد قد أحاطت به عوامل البطلان من كل جانب، لكونه عقد معاوضة لا تبرع، وقد خالف الشريعة الإسلامية من وجوه عدة منها:
أولاً: اشتماله على الغرر الفاحش المؤثر في عقود المعاوضات المالية؛ حيث يدفع الشخص المؤمن القسط الثابت، ثم هو لا يدري ـ وقت العقد ـ مقدار ما يعطي أو يأخذ؛ فقد يرجع إليه المال الذي دفعه أضعافاً مضاعفة، وذلك في حال حصول الحادث المشروط في العقد، وقد يضيع عليه ماله الذي دفعه، وكذلك شركة التأمين قد تغرم القسط أضعافاً مضاعفة، وقد تنال مال الشخص المؤمَّن له في غير مقابل، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر
ثانياً: اشتماله على الربا بنوعيه ربا الفضل وربا النسيئة؛ حيث ينطبق على هذا العقد تعريف الربا الذي هو زيادة مال بلا مقابل في معاوضة مال بمال، فلو أن الشركة دفعت للمستأمن أو لورثته أكثر مما دفعه من النقود لها، فهو ربا فضل، ثم إنها تدفع ذلك بعد مدة من دفع المستأمن القسط فيكون ربا نسيئة، وكلاهما حرام داخل في عموم قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله…}
ثالثاً: اشتماله على أكل أموال الناس بالباطل؛ حيث تلتزم الجهة المؤمَّن لديها ـ الشركة ـ بضمان الشيء التالف بالغرق أو الحرق أو الهدم أو التلف أو السرقة دون أن تكون متسببة في ذلك ولا مباشرة له، وقد قال سبحانه {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون}
رابعاً: في عقد التأمين بالصورة الشائعة الآن تحريض للناس على أسباب الفساد؛ حيث يعمد كثيرون إلى الاستهتار بأرواح الناس وممتلكاتهم؛ لعلمهم بأن شركة التأمين ستضمن ما يكون من تلف للأموال أو إزهاق للأنفس {والله لا يحب الفساد}
خامساً: في عقد التأمين بالصورة الشائعة الآن شبه من الميسر؛ حيث يدفع الشخص المؤمَّن له مالاً، ويتوكف أن يرجع إليه أضعافاً مضاعفة، وقد لا يرجع إليه شيء أصلاً، وهذا هو القمار؛ لما فيه من المخاطرة في معاوضات مالية مالية، والغُنم بلا مقابل أو مقابل غير مكافئ، أو الغرم بلا جناية أو تسبب فيها؛ وقد قال سبحانه {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون * إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون}
وهذا الحكم يسري على التأمين الصحي مثلما يسري على غيره من أنواع التأمين ـ سوى التعاوني ـ إذ قد تحقق فيه الغرر والربا والقمار وأكل أموال الناس بالباطل؛ فلربما يدفع شخصٌ الأقساط زماناً طويلاً ولا يحتاج إلى علاج، ورب آخر لا يدفع إلا يسيراً ثم يصاب بداء عضال يحتاج علاجه إلى مال كثير، يربو على ما دفعه أضعافاً مضاعفة.
ولو استدل بعض الناس على جوازه بأن فيه تحقيقاً لمصالح الناس، والشريعة ما جاءت إلا لجلب المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها، فإن الجواب على ذلك أن المصلحة التي شهد الشرع بإلغائها لا اعتبار لها؛ لأن الشريعة لم تلغها إلا لغلبة جانب المفسدة فيها على جانب المصلحة، وإن بدا للناس خلاف ذلك؛ ويشهد لهذا قوله تعالى {ويسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} فلم تعتبر المصلحة في الخمر والميسر لكونها مرجوحة في جانب المفسدة الكبيرة. ولو استدل بعضهم بقاعدة “الضرورات تبيح المحظورات” فالجواب أن المباح في كسب المال من طرقه المشروعة أكثر بكثير من المحرَّم، وليس هناك ضرورة معتبرة شرعاً تلجئ إلى ما حرَّمه الشرع من التأمين. وقد يقول بعضهم: إن هذا أمر متعارف عليه في دنيا الناس اليوم من غير نكير فوجب القول بإباحته!! والجواب على ذلك بأن العرف لا اعتبار له إذا خالف الشرع، وكذلك لا اغترار بكثرة الواقعين فيه؛ فإن الله تعالى قال {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله}
والبديل الشرعي لذلك أن يُشجَّعَ المسلمون ـ أفراداً وجماعات ـ على التأمين التعاوني، وتُعمَّمَ فكرته على سائر المدن والقرى بحسب الأخطار التي يراد تغطيتها، والفئات التي يراد استفادتها منه؛ فيكون هناك قسم للتأمين الصحي، وآخر ضد العجز والشيخوخة، وثالث للباعة المتجولين، ورابع للتجار، وهكذا.